تتباين الآراء بين من يرى تعويم العملة إجراء اقتصاديا صحيا يمكّن من تعزيز استدامة الاقتصاد وضمان توازن العملة بالارتكاز على تحرر الإنتاج المحلي وكفاءته وقوة التجارة الخارجية، وبين من يراه مغامرة قد تدمر القطاعات الاقتصادية خصوصا في البلدان التي لا تمتلك قدرات تصديرية عالية تمكنها من تحمل تقلبات العرض والطلب في سوق الصرف.
لندن – تكاثف بحث الدول حول العالم عن حلول مالية ونقدية للتعافي والتكيف مع الأزمة التي خلفتها كورونا، ومنها “تعويم العملة المحلية”، الذي يحمل في طياته سيناريوهات متباينة قد تفضي إلى نتائج إيجابية أو عكسية قد تقلب كل موازين الاقتصاد.
وتلجأ الدول إلى سياسة تعويم عملتها، في حالة اضطرابات الأوضاع المالية والاقتصادية، وتزايد المضاربات في سوق النقد الأجنبي وفقدان البنك المركزي السيطرة عليه.
وتؤثر هذه الاضطرابات على أداء ميزان المدفوعات للدولة، وتتسبب في اتساع حجم العجز التجاري، وسط تأثر الصادرات وانكماش الاستثمار الأجنبي الوافد، بسبب تراجع الثقة في مستقبل الاقتصاد.
وحررت دول عدة، مثل الصين والهند والبرازيل والأرجنتين وماليزيا ومصر والمغرب والعراق والسودان، سعر صرف عملتها خلال السنوات والعقود الماضية.
لكن هذه التجارب لم يحالفها النجاح بنسبة كبيرة إلا في الصين والهند، بفضل الصادرات المرتفعة وتدني أسعار المنتجات المحلية، ما عزز الإقبال عليها خارجيا ومحليا.
وتعد تجربة تعويم العملة التي شهدتها الولايات المتحدة الأميركية في أوائل فترة الثمانينات من القرن الماضي، من خلال اتجاهها نحو تطبيق نهج الفوائد المرتفعة باعتبارها وسيلة لممارسة عملية التعويم وتنفيذها، من أهم وأشهر تجارب نظام تعويم العملة على مستوى العالم.
إذ كان لهذا النهج النقدي المتبع دور في بلوغ الأهداف المنشودة آنذاك، وعلى رأسها جذب رؤوس الأموال للتمويل لسد عجز الميزانية والنفقات المخصصة لحرب فيتنام ومشروع حرب النجوم.
غير أن اتباع نهج تعويم العملة أدى أيضا إلى رفع تكاليف الاستثمار الذي تبع ارتفاع سعر الفائدة، مما نتج عنه تضرر المصدرين الأميركيين نظرا لارتفاع أسعار سلعهم بالعملات الأجنبية، وبالتالي حدث انحسار اقتصادي، إلى أن لجأت الإدارة الأميركية إلى تطبيق سياسة عكسية.
ويعرف “التعويم” بالسعر العائم أو المحرر لصرف العملة، وهو إحدى الأدوات التي تلجأ إليها إدارة السياسة النقدية بالبنوك المركزية حول العالم لدعم الأنشطة الاقتصادية.
ويستهدف التعويم ترك البنك المركزي سعر صرف عملة ما، ومعادلتها مع عملات أخرى، يتحدد وفقا لقوى العرض والطلب في السوق النقدية.
وتختلف سياسات الحكومات حيال تعويم عملاتها، تبعا لمستوى تحرر اقتصادها المحلي، أو قوة تجارتها الدولية، وكفاءة الإنتاج المحلي.
وتتعرض أسعار صرف العملات العائمة لتقلبات باستمرار، مع أي تغير يشهده العرض والطلب على العملات الأجنبية، حتى أنها يمكن أن تتغير عدة مرات في اليوم الواحد.
ويتضمن التعويم نوعين، الأول “التعويم الحر” يشمل ترك البنك المركزي سعر صرف العملة يتغير ويتحدد بحرية مع الزمن، بحسب قوى السوق والعرض والطلب.
ويقتصر تدخل البنوك المركزية في هذه الحالة على التأثير في سرعة تغير سعر الصرف، وليس الحد من ذلك التغير.
ويعد التعويم الحر، المفضل للدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة في التعاطي مع عملاتها، بفضل قوة ميزانها التجاري والدعم الذي تقدمه الاقتصادات للعملات، وتستهدف خفض الواردات أو زيادة الصادرات السلعية.
أما النوع الثاني “التعويم المدار” أو “الموجه” ويعني ترك سعر الصرف يتحدد وفقا للعرض والطلب، مع تدخل البنك المركزي كلما دعت الحاجة إلى تعديل هذا السعر مقابل بقية العملات.
ويعتمد النوع الثاني، على تحديد استجابة مجموعة من المؤشرات مثل مقدار الفجوة بين العرض والطلب في سوق الصرف، ومستويات أسعار الصرف الفورية والآجلة، والتطورات في أسواق سعر الصرف الموازنة (السوق السوداء).
وتعتبر السودان أحدث الدول التي طبقت “التعويم الموجه”، بعدما قامت خلال فبراير الماضي بتوحيد سعر صرف العملة المحلية الجنيه أمام الدولار والنقد الأجنبي، في محاولة للقضاء على الاختلالات الاقتصادية والنقدية.
ويستهدف السودان من تعويم الجنيه عمليا الاقتراب من سعر السوق السوداء الأضعف كثيرا، نظرا لأن جميع المعاملات تقريبا تُحسب بذلك السعر وجاءت خطوة تحرير العملة في إطار برنامج صندوق النقد.
وتؤكد تقارير صندوق النقد الدولي، على أن البلدان التي تتسم أهدافها التضخمية بدرجة جيدة من الثبات، تعتمد على مرونة سعر الصرف لتخفيف الضغوط الخارجية.
وتابعت التقارير “يمكن لأسعار الصرف المرنة، أن تكون بمثابة أداة مفيدة لامتصاص الصدمات، في مواجهة تقلب تدفقات رؤوس الأموال”.
وأشارت التقارير كذلك إلى أن هذه الآلية لا تحقق الوقاية الكافية في كل الأحوال، ولاسيما حين تتعطل إمكانية النفاذ إلى أسواق رأس المال العالمية، أو يكون عمق الأسواق محدودا.
وأوضحت التقارير أن “التدخل في سوق الصرف الأجنبي، كان ضمن أدوات سياسات البنوك المركزية المكملة لسياسة سعر الفائدة، عند التعامل مع تدفقات رؤوس الأموال”.
وتحدث الصندوق أن هذه المناهج المتنوعة قد استُخدِمَت أيضا أثناء أزمة كورونا، مع فروق كبيرة بين استجابات البلدان.
وحسب بيانات بنوك مركزية حول العالم، يأتي القضاء على السوق السوداء إحدى أهم الإيجابيات لعملية التعويم، إذ يعيد للبنك المركزي دفة قيادة ملف النقد الأجنبي في الدولة، بعيدا عن تحكم شركات الصرافة والتجار.
كما يقضي “التعويم” على ظاهرة “الدولرة” والتي تعني احتفاظ المواطنين بالدولار والإقبال على شرائه دون سبب، مما يسبب شح السيولة الأجنبية داخل الأسواق.
كذلك، التعويم يقدم دعما كبيرا في تقليص عجز ميزان المدفوعات، ويدعم تدفقات الاستثمار الأجنبي، وزيادة الصادرات السلعية.
ويستفيد أصحاب الأصول العينية مثل العقارات أو المصانع أو الأراضي، من ارتفاع قيمتها دون تأثر مدخراتهم، كذلك الشأن بالنسبة إلى الحائزين على العملات الأجنبية الذين تتضاعف ثروتهم بالعملة المحلية دون مجهود.
وبالنسبة لأبرز السلبيات والانعاكاسات التي تلاحق التعويم، تتمثل بارتفاع التضخم لمستويات قياسية، إذ صاحب تحرير سعر الصرف ظروفا اقتصادية صعبة، وهو ما حصل في مصر التي شهدت نسب تضخم عند 35 في المئة بعد التعويم بشهور قليلة.
كما تتسبب الاضطرابات المصاحبة في حدوث ركود اقتصادي، وارتفاع مستويات البطالة، مع تضرر المنتجين والمستوردين على المدى القصير.
وتشمل السلبيات أيضا انخفاض قيمة الثروات النقدية بالعملة المحلية (تآكل الودائع المقومة بالعملة المحلية)، بجانب ارتفاع فاتورة سداد الديون الخارجية للدولة.
العرب