“أسوأ من شريعة الغاب”… ميليشيات تسيطر على معابر العراق وتحرم الدولة أموالا طائلة

“أسوأ من شريعة الغاب”… ميليشيات تسيطر على معابر العراق وتحرم الدولة أموالا طائلة

على طول الحدود البرية والبحرية للعراق يقوم كارتيل متشابك ومعقّد بعمليات تهرّب جمركي يحوّل من خلالها الملايين من الدولارات التي يفترض أن تدخل خزائن الحكومة، إلى جيوب أحزاب وجماعات مسلحة ومسؤولين.
وحسب موظف جمارك فإن هذه الشبكة المتداخلة «لا توصف، الأمر أسوأ من شريعة الغاب».

رشاوى بمبالغ ضخمة … ووزير المالية: سعر وظيفة في الجمارك يصل لمئة ألف دولار

ويضيف «في الغابة تأكل الحيوانات على الأقل وتشبع. هؤلاء الرجال لا يقنعون أبداً». وعلى غرار معظم المسؤولين الحكوميين وعمال الموانئ والمستوردين الذين قابلناهم على مدى ستة أشهر، طلب الموظف التحدث دون الكشف عن هويته خوفا من تعرّض حياته للخطر.
في البلد الذي يحتل المرتبة 21 في العالم في سلم الفساد، وفق منظمة الشفافية الدولية غير الحكومية، تعبّد البيروقراطية المملّة والفساد المزمن طريقا إلى امتصاص موارد الدولة. وفي اقتصاد يقوم أساسا على النفط، وفي ظل ضعف كبير في القطاعين الزراعي والصناعي وغياب أي إمكانية للحصول على عائدات منهما، تشكّل رسوم الجمارك المصدر الأهمّ للعائدات.
لكن الحكومة العراقية المركزية لا تتحكم بهذه الموارد التي تتوزّع على أحزاب ومجموعات مسلحة غالبيتها مقربة من إيران، تتقاسم السطوة على المنافذ الحدودية وتختلس عبرها ما أمكن من الأموال.
وزير المالية العراقي علي علاوي يؤكد أن «هناك نوعا من التواطؤ بين مسؤولين وأحزاب سياسية وعصابات ورجال أعمال فاسدين» مشيرا إلى أن «هذا النظام ككل يساهم في نهب الدولة».

نظام «مصمم للفشل»

ويستورد العراق الغالبية العظمى من بضائعه، ويعتمد في الغالب على إيران وتركيا والصين في كل شيء، من الغاز إلى الكهرباء والطعام والإلكترونيات.
رسمياً، استورد العراق ما قيمته 21 مليار دولار من السلع غير النفطية في عام 2019 وفق أحدث البيانات التي قدمتها الحكومة، مرّت بمعظمها عبر خمسة معابر رسمية على الحدود مع إيران التي يبلغ طولها 1600 كيلومتر، وواحد على الحدود مع تركيا الممتدة على قرابة 370 كيلومترا، وعبر ميناء أم قصر العملاق في محافظة البصرة الجنوبية.
لكن نظام الاستيراد العراقي مرهق وعفا عليه الزمن. فقد تحدث تقرير للبنك الدولي عام 2020 عن «تأخيرات لا تنتهي، ورسوم مرتفعة واستغلال».
ويقول مستورد يتخذ من دولة في الشرق الأوسط مركزا لعمله: «إذا كنت تريد أن تستورد بالطريقة الصحيحة، تنتهي بأن تدفع آلاف الدولارات كغرامة تأخير» مضيفاً أن هذا النظام «مصمم للفشل».
وأدّى ذلك، وفق مسؤولين وعمال موانئ ومستوردين ومحللين، إلى نشوء نظام استيراد مواز عبر المعابر البرية وميناء أم قصر، تتولاه أحزاب ومجموعات مسلحة. وتتحقّق معظم الأرباح من ميناء أم القصر كونه المنفذ الذي تدخل عبره الكمية الأكبر من البضائع إلى البلاد.
ويؤكد مسؤولون أن غالبية نقاط الدخول تسيطر عليها بشكل غير رسمي فصائل تنتمي إلى «الحشد الشعبي» وهو تحالف يجمع فصائل شيعية دُمجت مع القوات الأمنية. وتملك هذه الفصائل مكاتب اقتصادية لتمويل نفسها، وتأسست حتى قبل تشكيل «الحشد».
وحسب ضابط في المخابرات العراقية حقّق في قضية التهرّب الضريبي «إذا كنت تريد طريقاً مختصراً، تذهب إلى الميليشيات أو الأحزاب».
ويضيف: «يقول المستوردون إنهم يفضلون خسارة مئة ألف دولار (تدفع كرشوة) بدلاً من خسارة بضاعتهم بالكامل».

وزير المالية: تواطؤ بين مسؤولين وأحزاب سياسية وعصابات ورجال أعمال فاسدين

ويعمل أعضاء الأحزاب والفصائل المستفيدة من ذلك، أو معارفهم وأقاربهم، كوكلاء حدود أو مفتشين وفي الشرطة، ويتقاضون مبالغ مالية من المستوردين الذين يريدون تجاوز الإجراءات الرسمية أو الحصول على حسم على الرسوم.
وينفي «الحشد الشعبي» هذه المزاعم علنا، لكن مصادر مقربة من فصائل متشددة مثل «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» أقرّت بوجود نفوذ لفصائل مختلفة على الحدود، معدّدة، الأرصفة والمراكز التي يتمّ عبرها التهرّب الضريبي على أنواع من البضائع، بما يتطابق ذلك مع ما قاله مسؤولو الجمارك وضابط المخابرات.

«المخلّص»

وأكد عمال ميناء أم قصر ومسؤولون ومحللون أن «منظمة بدر» مثلا، وهو فصيل تأسس في إيران في الثمانينات، تدير معبر مندلي على الحدود الإيرانية.
وقال ضابط المخابرات «إذا كنت تاجر سجائر، اذهب إلى المكتب الاقتصادي لكتائب حزب الله في الجادرية (في بغداد) أطرق الباب، وقل أريد التنسيق معكم».
وأحد الأشخاص الرئيسيين في عجلة الفساد هو «المخلِّص» أي موظف الجمارك الحكومي الذي غالباً ما يعمل كوسيط للجماعات المسلحة والأحزاب السياسية.
ووفق ضابط المخابرات «لا يوجد شيء اسمه مخَلِّص من دون انتماء، جميعهم مدعومون من الأحزاب».
بعد الدفع نقدا مقابل عمليات صغيرة أو عبر تحويلات مصرفية لصفقات أكبر، يقوم المخلّص بتزوير الأوراق الرسمية، عبر تحريف نوع السلعة التي يتم استيرادها أو عددها وقيمتها الإجمالية، ما يؤدي إلى خفض قيمة الرسوم الجمركية التي على التجار دفعها، والتي تكون في النهاية أقلّ بكثير من القيمة الفعلية للبضائع.
ويقول أحد المستوردين إن تسجيل كمية أصغر من الكمية الحقيقية يوفر للمستورد حسما على الرسوم الجمركية يصل إلى 60 ٪.
والمثال الشائع على ذلك هو في استيراد السجائر التي تبلغ تعرفة الاستيراد الرسمية عليها 30 ٪ من قيمتها، بالإضافة إلى 100 ٪ إضافية لرفع سعرها في السوق المحلية بهدف تشجيع المستهلكين على شراء البضائع المصنّعة في العراق.
ولتقليص هذه الرسوم غالبا ما يتم تسجيل السجائر على أنها مناديل ورقية أو سلع بلاستيكية ما يعني في المقابل دفع تعرفات جمركية أقل بكثير.
ويبين مسؤول الجمارك أنه «بدلاً من دفع 65 ألف دولار لكل شاحنة على الأقل ينتهي بك الأمر بدفع 50 ألف دولار فقط».
ويتلاعب المخلّصون أيضاً بالقيمة الإجمالية المقدّرة للشحنة، فتسجل تلك القيمة بداية على رخصة الاستيراد، ولكن يملك المخلّص صلاحية إعادة النظر بها عند نقطة الدخول، وبالتالي تخفيضها بهدف تخفيف قيمة الرسوم.
ويروي مسؤول في أم قصر أن وكيل جمارك قام بتقييم شحنة من الحديد بثمن بخس لدرجة أن المستورد دفع رسوما جمركية قدرها 200 ألف دولار، في حين كان ينبغي أن يدفع أكثر من مليون دولار.
وحسب المستورد «هذا النفوذ الكبير للمخلّص ليس طبيعياً على الإطلاق».
ومن خلال علاقات مع أشخاص نافذين تتسرّب بعض البضائع دون تدقيق على الإطلاق.
وفي هذا الإطار، يقول موظف الجمارك «أنا لست فاسدا، ولكنني اضطررت لتمرير الشحنة دون تفتيش لأنها مرتبطة بطرف نافذ».
في حالات أخرى يأخذ التجار تراخيص استيراد وإيصالات مزورة إلى البنك المركزي العراقي الذي يرسل بعد ذلك دفعة بالدولار الأمريكي إلى شركة شحن وهمية خارج العراق. وتسمح هذه المعاملات بغسل الأموال، حسب وكيل جمركي ومسؤولين مصرفيين عراقيين.
ودفع مستورد، حسب قوله، 30 ألف دولار لموظف جمارك في أم قصر للموافقة على دخول أجهزة كهربائية مستعملة يعتبر استيرادها مخالفة قانونية.
ويضيف أنه يدفع بانتظام «رشوة لضابط في شرطة الموانئ» ليبلغه بعمليات التفتيش المفاجئة. ومقابل رسوم إضافية عرض الضابط عليه «إرسال دوريات لتعطيل خروج بضائع منافسة».
وكونهم يعتبرون المنافذ الحدودية مصدراً لا متناهياً للمال، يدفع الموظفون العامون أموالاً لرؤسائهم لتعيينهم هناك. ويفاخر مسؤول في معبر مندلي بالقول إن المعبر يدرّ رشاوى تصل إلى عشرة آلاف دولار لأصغر موظف كل يوم.
ويعرب وزير المالية علاوي عن أسفه قائلاً «يتراوح سعر أصغر وظيفة في الجمارك بين 50 ألف دولار إلى مئة ألف دولار، وفي بعض الأحيان ترتفع إلى أضعاف ذلك».
وتستخدم الأحزاب والجماعات المسلحة نفوذها السياسي للاحتفاظ بمواقعها هذه التي تسمح لها بتكديس الأموال، ولا تتوانى عن التهديد باستخدام العنف.
ويبين عامل في معبر مندلي إنه أخّر ذات مرة دخول شحنة آتية من إيران لافتقادها أوراقا رسمية، لكن المخلّص هدّده، مدّعياً أنه من عناصر «الحشد الشعبي» وأصرّ على إدخال البضائع دون دفع الرسوم، وهو ما سمح به العامل في نهاية المطاف.
وروى ضابط المخابرات أن مخبرا في معبر زرباطية على الحدود مع إيران والذي تديره «عصائب أهل الحق» وُضع مرارا في إجازة إدارية بسبب عرقلته عمليات استيراد منتجات إيرانية بدون رسوم جمركية.
في النهاية لم يستطع تحمل الضغط، وقال الضابط «عدنا لاحقا للتحدث معه مرة أخرى ووجدنا أنه انضم إلى العصائب».
وقال موظف كبير في المنافذ الحدودية، إنه يتلقى مكالمات منتظمة من أرقام خاصة تهدّد بالتعرّض لأقاربه بالاسم، في محاولة لترهيبه ودفعه إلى وقف عمليات التفتيش على البضائع في الموانئ.
وقال موظف الجمارك «لا يمكننا فعل شيء لأننا سنقتل. الناس خائفون، إنها مافيا حقيقية».

«لا منافسة»

وتبعاً لريناد منصور من مركز أبحاث «تشاتام هاوس» هذا النظام أصبح شريان الحياة للأحزاب العراقية والجماعات المسلحة، بما في ذلك فصائل الحشد الشعبي الموالية لإيران.
وأضفت هذه الأطراف طابعاً احترافياً على موضوع التمويل غير المشروع هذا بعد هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» في عام 2017، بعدما لم يعد بإمكانها الوصول إلى ميزانيات الدفاع الكبيرة.
وازدادت هذه الشبكة نشاطا بعد فرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عقوبات قاسيةً على إيران.
وفي آذار/ مارس 2020، أدرجت الولايات المتحدة شركة «الخمائل البحرية للخدمات» وهي شركة شحن في أم قصر، على القائمة السوداء لتنسيقها مع مجموعات شيعية مسلحة لمساعدة الحرس الثوري الإيراني على «التهرب من بروتوكول التفتيش الحكومي العراقي».
كما فرضت عقوبات على عراقيين اثنين وإيرانيين اثنين مرتبطين بالشركة لتمويلهم الكتائب و«حزب الله» اللبناني. ورفضت السفارة الأمريكية في العراق طلبات التعليق على الأمر.
ويجري تقاسم الغنائم بين الأحزاب والجماعات المسلحة بشكل سلس على الرغم من خصومات في ما بينها أحيانا.
ويقول منصور «منفذ حدودي واحد يمكن أن يدرّ ما يصل إلى 120 ألف دولار في اليوم (كرسوم غير مشروعة)» تتقاسمه مجموعات عدة «قد تكون عدوة في ما بينها».
وقال ضابط في المخابرات العراقية «لا توجد منافسة، يعرفون أنه إذا سقط أحدهم فسيسقط الآخرون». في شباط/فبراير قتل عضوان من «عصائب أهل الحق» في حادثتين منفصلتين وصفهما مصدران في «الحشد الشعبي» بأنهما مرتبطتان بـ«خلفيات اقتصادية» لكن عمليات القتل هذه نادرة.

فوضى وإصلاح قاصر وحرمان الدولة من مصادر تمويل كبيرة

يحرم نظام الفساد الدولة العراقية من مصادر تمويل كان يمكن تخصيصها للمدارس والمستشفيات والخدمات العامة الأخرى. ووفق وزير المالية علي علاوي «يجب أن نحصل على سبعة مليارات دولار من الجمارك سنويا، لكن في الواقع، تصل عشرة إلى 12 في المئة فقط من موارد الجمارك إلى وزارة المالية». وأفادت منظمة الشفافية الدولية في عام 2020 أن تركيا والصين، وهما من أكبر المصدرين للعراق، هما أقل دولتين تراقبان ضبط الفساد في إطار تصديرهما إلى العراق، ويدفع ثمن كل هذا الفساد المستهلك العراقي.
وبين مسؤول عراقي «بصفتك مستهلكاً، فأنت الشخص الذي ينتهي بك الأمر بالدفع مقابل هذا الفساد».
منذ الأسابيع الأولى لتوليه رئاسة الوزراء في أيار/ مايو 2020 جعل مصطفى الكاظمي من إصلاح المعابر الحدودية أولوية قصوى، فمع الانخفاض الشديد بأسعار النفط، بات العراق بأمس الحاجة إلى عائدات إضافية.
وفي رحلات حظيت بتغطية إعلامية واسعة إلى أم قصر ومندلي، تعهد الكاظمي بإرسال قوات جديدة إلى كل منفذ حدودي وتطبيق المداورة في وظائف الجمارك بانتظام لتفكيك دوائر الفساد.
على الورق، يفترض أن يكون ذلك مجديا. وبشكل شبه يومي، تفيد هيئة المنافذ الحدودية عن عمليات ضبط بضائع كانت هناك محاولات لتهريبها بدون دفع رسوم.
لكن مع انخفاض الواردات في عام 2020 بسبب فيروس كورونا والإعفاءات الجمركية المؤقتة الممنوحة للأدوية والغذاء، كان التأثير الإجمالي لتلك الاجراءات متواضعا. وقالت هيئة المنافذ الحدودية إن العراق حصد 818 مليون دولار من الرسوم في 2020 وهو مبلغ أعلى بقليل من 768 مليون دولار في 2019. ويعتبر مستوردون ومخلصون ومسؤولون هذه الإجراءات ذرّا للرماد في العيون.
وقال مستوردون إنه في حين أن بعضهم يدفع الآن الرسوم الحكومية، فإنهم ما زالوا يدفعون في الوقت نفسه إلى المخلّصين للتأكد من أن البضائع لن يتم تأخيرها بشكل تعسفي.
ويوضح رجل أعمال عربي يقوم بتصدير بضائع إلى العراق منذ أكثر من عقد «في النهاية ندفع مرتين». في غضون ذلك، لم يتأثر أصحاب العلاقات الجيدة بالتدابير الجديدة.
ويبين مستورد عراقي «لم يتغير شيء. يمكنك إدخال أسلحة أو أي شيء آخر تريده عبر مندلي بدون رخصة استيراد وبدون دفع رسوم جمركية». وقال الرجل إنه أدخل مواد بناء من خلال معبر مندلي بدون دفع رسوم جمركية حتى بعد الإصلاحات التي أعلنها الكاظمي.
وتصف عناصر في الأمن الأمر بأنه أشبه بـ«الفوضى». وقال جندي تم نشر وحدته لفترة وجيزة في مندلي «الشرطة هناك متورطة بجميع عناصرها في الرشوة. التجار يدفعون الأموال بشكل جنوني. اعتقلنا رجلاً، لكنهم أخرجوه في اليوم التالي».
واعترف المسؤول الحدودي الكبير بأن بعض عمليات نشر إضافية لعناصر الأمن تمّ التعهد بها، لم تحدث قط.
وقال «في أوقات أخرى، كان الأمر عبارة عن مسرحية، إذ نُشر فقط حوالى عشرين رجلا».
ووفق المستوردين والمسؤولين، فإن السبب الرئيسي في فشل تلك التدابير هو أن «تناوب الموظفين لم يشمل عنصراً حاسما في آلة الفساد: المخلّص».
وحسب مسؤول الجمارك «المخلص هو الوسيط الرئيسي للفساد، ما زال هناك. تفاحة فاسدة واحدة ستفسد الباقي».
وما زال وسطاء الأحزاب والمجموعات المسلحة موجودين أيضاً.
ويبين المستورد العراقي أن «هناك غرفة جاهزة تدخل إليها الآن، وتقوم بفرز كل شيء هناك».
ويقول مسؤول في وزارة الدفاع الأمريكية إن كتائب «حزب الله» المتهمة بإطلاق صواريخ على السفارة الأمريكية، أُجبرت على إغلاق مكتبها الاقتصادي في مطار بغداد الدولي لمنع وصولها إلى بضائع ثمينة معفاة من الرسوم الجمركية.
وأضاف المسؤول «لكن لا يزال بإمكانها الصعود إلى الطائرة والقيام بما تريد. الفساد ما زال موجودا».
وبدلاً من الاتصال ببعضهم البعض بشكل علني، انتقل الميسرون إلى تطبيقات المراسلة المشفرة مثل واتساب.
ويقول ضابط المخابرات «أصبح عملنا بالفعل أكثر صعوبة لأنهم يتخذون المزيد من الاحتياطات».
وعلى الرغم من النجاح الجزئي في زيادة إيرادات الدولة، فإن الكارتيل صامد على حاله.
وتوقع مسؤولون أن يتجنب التجار بشكل متزايد المعابر التي تديرها الدولة وأن يعتمدوا إما على التهريب أو الاستيراد بشكل غير رسمي عبر كردستان شمالاً. وحذروا من أن تفكيك الشبكة بالكامل سيؤدي إلى عنف قد يكون الكاظمي غير مستعد له. وقال ضابط المخابرات «هذه المصالح تساوي ملايين الدولارات. رصيف واحد في أم قصر يعادل ميزانية دولة» مضيفاً «لن يتنازلوا بسهولة».

شكاوى دون نتيجة وتهديدات للمنتقدين… والرشاوى في كل مكان

بات الرحيل، رغم قسوته، الخيار الوحيد أمام حسنين محسن بعدما أمضى شهوراً يحتجّ ضد الفساد في العراق ويقدّم شكاوى بحق مسؤولين اختلسوا أموال بلاده على أمل ملاحقتهم، دون جدوى. محسن، المهندس العاطل عن العمل والأب لأربعة أطفال من مدينة كربلاء في جنوب العراق يقول: «لا تقدر أن تعيش هنا دون أن تدفع».
ويضيف الرجل البالغ من العمر 36 عامًا «قمت بكلّ ما يمكنني فعله، وما زال البلد يتدهور» فيما يحتل العراق المرتبة الـ21 بين الدول الأكثر فساداً في العالم، وفقا لمنظمة «الشفافية الدولية».
شعر محسن ببعض الأمل خلال الانتفاضة الشعبية غير المسبوقة التي عرفت بـ«ثورة تشرين» في عام 2019 والتي خفّت وتيرتها لاحقاً. ترك حينها زوجته الحامل نور في كربلاء وتوجه إلى ساحة التحرير في بغداد للمطالبة بمحاربة الفساد وتحسين الخدمات العامة، وتغيير الحكومة المتهمة بهدر ونهب أموال البلاد.
ويستذكر تلك الأيام قائلا «أحسست عندها بأن علي أن أخرج، إما أن نعيش بكرامة أو نموت بكرامة». وحينما اقترحت عليه نور بدء حياة جديدة في الخارج بأموال حصلوا عليها من بيع عقار، رفض. وقال حينها «لا أقدر على الرحيل» «ستتغير الأمور» في البلاد. مع مرور الأيام، لم يتغير شيء، كما يقول محسن، بل تغلغل الفساد بكل مفاصل حياته، كما هي الحال بالنسبة لغالبية العراقيين.
ويؤكد أنه دفع رشوة بأكثر من ألف دولار من أجل تسهيل إجراءات تجديد جواز سفره، ورشاوى أخرى لتسهيل تسديد ضرائبه، بل وحتى من أجل تصحيح بعض الأخطاء الإملائية في أوراقه الثبوتية.
خلال فترة عمله كبائع أثاث، أوقف جندي عراقي شاحنات بضائع استوردها محسن من الأردن. وحتى بعد التأكد من أن وثائق الاستيراد قانونية، رفض الجندي عند المنفذ الحدودي إدخال البضائع إلى أن اقترح محسن أن يقدّم له غرفة نوم كاملة.
ويتحكم الفساد في كل مفاصل الحياة في العراق. لدى ولادة طفل على سبيل المثال، لا بدّ من دفع البقشيش للممرضين لكي يهتموا بالمولود الجديد. ولدى بناء منزل جديد، لا بدّ من دفع الأموال لعناصر الأمن ليسمحوا بمرور حمولات الإسمنت ومواد البناء عبر نقطة التفتيش الموجودة عند مدخل كل حي.
ويتابع أن هذا ليس سوى الجزء الأسفل الظاهر من «هرم الفساد».
حسب البيانات الرسمية العراقية، اختفى ما يساوي نحو 450 مليار دولار من الأموال العامة جراء الفساد، أي نحو ضعفي إجمالي الناتج الداخلي في العراق، ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة أوبك، فيما لم تتوفّر مبالغ مماثلة قط لتطوير البنى التحتية.
ويقول محسن «سرق مسؤولون أموالاً مخصصة لتحسين الخدمات العامة» على مدى سنوات، ولذا عليه الآن أن يدفع أكثر مقابل الحصول «على مياه نظيفة ومقابل مولدات الكهرباء وخدمات صحية».
وتستخدم المولدات على نطاق واسع في العراق بسبب الانقطاع المتكرر في الكهرباء ولساعات طويلة، بسبب الدمار الكبير في البنى التحتية جراء الحروب المتكررة وعدم إصلاحها أو صيانتها لسنوات.
أما الطبابة التي كانت مجانية في عهد نظام صدام حسين، فأصبحت تكلف مبالغ طائلة في العيادات الخاصة. ورفع حسنين ست شكاوى إلى هيئة النزاهة الحكومية لمكافحة الفساد، لم تؤد إلى شيء. وقام بجمع وثائق تثبت، وفق قوله، تورط مسؤولين وسياسيين باختلاس أموال أو تخصيص مشاريع لمقربين منهم «لكن الشكاوى لم تصل الى أي مكان، لأن القضاء نفسه فاسد».
ويؤكد خبير قانوني من بغداد «أن القانون لا يطبّق إلا على الأكثر ضعفاً» مضيفاً «النواب والمسؤولون بإمكانهم باتصال هاتفي واحد التأثير على قرار قاض».
وفقد محسن بسبب انتقاده العلني لمسؤولين حكوميين دعم أقربائه الذين يملكون علاقات قوية في الدولة، ما كلّفه العديد من فرص العمل التي كان من الممكن أن يحصل عليها من خلالهم. ويعتمد الرجل الآن على ما يرسله أقارب له يعيشون في الولايات المتحدة من مال لتأمين قوته. بعد الأمل الذي دفعه للخروج مع المتظاهرين للتنديد بالفساد، يندم محسن أحياناً على خياراته كما يقول: «أحس أحياناً بالندم، لماذا خرجت إلى تلك التظاهرات؟».
وبات يخشى أيضاً على حياته لا سيما بعد عمليات الاغتيال والخطف التي تعرض لها العشرات من الناشطين الذين رفعوا الصوت ضد الفساد والمحاصصة في البلاد.
ويشير الى أنه تلقى «مكالمات تهديد من أشخاص يدعون أنهم من جهاز المخابرات، الآن أحمل مسدساً معي أينما أذهب».
وتقدّر «المنظمة الدولية للهجرة» أن الفساد كان واحداً من الأسباب الرئيسية التي دفعت العراقيين للهجرة إلى أوروبا خلال السنوات العشر الماضية. وقدّم محسن لهذه المنظمة طلباً للهجرة عام 2016.
وتقول زوجته نور «البقاء في العراق كان خطأ» مضيفةً «لم تكن لنا فرصة قط لنعيش حياتنا».

ضغوط على «حارسة» الميزانية العراقية… حوصر منزلها وهددت بالسحل

أكوام من الأوراق والوثائق تدخل مكتبها، فيما يخرج منه نواب غاضبون، بينما يتسرب صوتها الذي لا تخطئه الأذن من خلف الباب: إنها طيف السامي، حارسة المالية في العراق.

يرى منتقدوها أنها تقليدية بيروقراطية، فيما يعتبرها المعجبون بأسلوبها أنها حصن منيع أمام فساد الدولة المستشري في العراق، لكنها قبل كلّ شيء امرأة صريحة ذات صوت عال في مجال يهيمن عليه الرجال.
مع ذلك، يتفقّ الجميع على أن السامي البالغة من العمر 57 عاماً خبيرة تماماً في مجالها، وتعلم ماذا تفعل.
ويقول وزير المالية العراقي علي علاوي، «برزت لأنها ملأت فراغاً. لديها قدرات إدارية ومعرفة مالية جيدة جداً».
وتملك السامي صلاحية الموافقة على صرف الميزانيات، ما يعني أن موافقتها ضرورية على أي تمويلات لمشاريع يطلبها النواب والمسؤولون الحكوميون، من بنيها الترقيات على سبيل المثال.
وغالباً ما تضبط السامي تجاوزات، كما في عام 2018، حين ألغت مكافآت رواتب تقول إنها كانت ستكلّف الدولة مليارات الدنانير.
في العام نفسه، اكتشف البرلمان العراقي أن نحو 450 مليار دولار تبددت من الميزانية في جيوب سياسيين أو رجال أعمال وحتى موظفين حكوميين منذ عام 2003.
وروى مسؤول عراقي رفيع عمل مع السامي أنه «كان لها دور أساسي في وقف الفساد في الميزانية. لولاها لكان تبدّد البلد».
كذلك تثير قدرتها على القيام بأكثر من مهمة واحدة في وقت واحد إعجاب موظفين يعملون معها. وقال أحدهم «تقرأ بعينها اليسرى ورقةً ما فيما تركز بعينها اليمنى على شيء آخر. بنظرة واحدة فقط، يمكن لها أن تحدّد لك ما إن كانت وثيقة ما قانونية أو لا».
ولدت السامي في عام 1963 وتخرجت من جامعة بغداد طامحةً للعمل في السلك الدبلوماسي، لكنها عيّنت في حقبة نظام حزب البعث السابق في دائرة الميزانية في وزارة المالية التي بقيت فيها منذ ذلك الحين.
وتدرّجت السامي منذ الحرب العراقية مع إيران إلى حين فرض عقوبات دولية على العراق وصولاً إلى الغزو الأمريكي في عام 2003، لتصل إلى أعلى الهرم في الدائرة.
وتشير إلى أن «أكثرية الفريق في ذاك الوقت كانت نسائية، لأن الرجال كانوا في الحرب» مضيفةً «قمنا بكلّ شيء حينها لنبقي الأمور جاريةً. ما زلت أتذكّر ذلك».
مذاك ازداد حجم المسؤوليات على السامي ومعه ساعات عملها. تصل إلى مكتبها عند الساعة السادسة والنصف صباحاً، مرتديةً في أغلب الأوقات ملابس داكنة اللون، مع وشاح أسود حول شعرها.
وأجابت على أسئلتنا فيما كانت منهمكةً في الوقت نفسه بتوقيع حزم من الأوراق، والردّ على رسائل نصية متعلقة ببروتوكولات الميزانية واستبعاد طلبات صرف تعتبر أنها قد تكون مشبوهة. وعندما يدخل معاون لها المكتب ليخبرها أن نائباً ينتظرها في الخارج، تجيب «أخبره أنني غادرت المكتب اليوم».
نحو الساعة الخامسة بعد الظهر، تذهب السامي إلى منزلها أخيراً لتناول الطعام والصلاة لكنها تواصل العمل. وتقول «نوم؟ أتمنى أن أنام فقط أربع ساعات. هذا الرأس يواصل التفكير. أفكر بما عليّ تحضيره لليوم التالي».
وتتهم وسائل الإعلام العراقية، السامي مراراً بأنها «اليد الخفية» خلف تجميد تمويلات وفرض إجراءات تقشّف. ولكنها ترد على ذلك بالقول «وكأن الموازنة في جيبي».
وتعتبر أن «الضغط الذي لا يحتمل» الذي تتعرض له هو «بسبب دوري كامرأة، ولأنه لا يوجد حزب يدعمني».
طلبت السامي ذات مرة نقل بعض الموظفين الذين كانوا يعملون تحت سلطتها بعدما اكتشفت أنهم يتقاضون رشاوى، وخلال ساعات من ذلك، أحاطت سيارات رباعية الدفع بمنزلها للضغط من أجل إعادة هؤلاء الموظفين إلى وظائفهم.
تستذكر أيضاً أنها ذات مرة رفضت طلب مسؤول في إحدى المحافظات، فقام «بتهديدي بالسحل وإلقائي من النافذة. لو كنت تابعة لحزب ما، لما تجرّأ أحد على لمسي».
وروى المسؤول الذي عمل معها أن السامي قاطعت في إحدى المرات رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي خلال جلسة لمجلس الوزراء حول الميزانية، وقالت له «حبيبي، أنت لا تفهم».
ويضيف أنها تصرخ قائلةً لكلّ من يزور مكتبها «لا أملك مالاً. إنهم يخافون منها».
وفيما كانت تشرح تفاصيل الميزانية، ازدادت حماسة السامي وعلا صوتها وضربت بيدها على مكتبها.
وتقول «يقولون إن صوتي مرتفع وإنني هجومية، لكن هذه طريقتي بالكلام. عندما أفسّر شيئاً ما، أتحمس».
كما يتهمها منتقدوها أيضاً بأنها تملك غطاء سياسياً للقيام ببعض «الخدمات» المالية الصغيرة، من دون أن تكون مخالفة للقانون.
ويرى آخرون أنها بيروقراطية تقليدية بأسلوب حرفي يمنع العراق من الخوض في عباب التحديث واعتماد نظام مالي إلكتروني. لكن، حتى هؤلاء لا يمكنهم إلا الإقرار بخبرتها وتأقلمها مع الزمن.

القدس العربي