هل يمكن للغرب تفكيك الصين كما فكك الاتحاد السوفييتي؟ هذا هو السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، بعد تأمل الإجراءات التي بدأ الغرب في تنفيذها في مواجهة نظام بكين خلال السنوات الأخيرة، وتفاقمت بشكل لافت مع جائحة فيروس كورونا، وبلغت ذروتها هذه الأيام في ما يشبه انطلاق الحرب الباردة الثانية بشكل مكثف.
ومنذ انتشار جائحة فيروس كورونا، ونجاة الاقتصاد الصيني من التراجع، بل حقق نموا وإن لم يتعد 1%، بينما تراجعت اقتصاديات الغرب ما بين 5% إلى 20%، بدأ خطاب الغرب يتخذ نبرة أكبر، محذرا من قطع الصين المسافة الزمنية بشأن ريادتها للعالم. وكان الحديث يجري في مطلع القرن الجاري عن ريادة الصين للعالم في عقد الأربعينيات، ووضع الحزب الشيوعي تاريخا وهو 1947، وصوله إلى السلطة، وتحويل البلاد إلى دولة شيوعية. وخلال بداية العقد الثاني، بدأت مراكز التفكير مراجعة عامل الزمن، والحديث عن منتصف الثلاثينيات لتصبح الصين أقوى دولة في العالم. وبعد الجائحة، أصبح الحديث عن نهاية العقد الجاري أو بداية الثلاثينيات.
وارتفع ضغط الغرب على الصين خلال الأشهر الأخيرة، وشكلت تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن منتصف الأسبوع الماضي منعطفا حقيقيا عندما شدد على خطورة الصين مستقبلا، ودعا إلى تحالف الديمقراطيات لمواجهة الدول غير الديمقراطية التي تتزعمها الصين وروسيا. وإن كان هذا التشديد لا يحمل الكثير من الجديد، بل يدخل ضمن التذكير بين الفينة والأخرى. وبهذا يستمر بايدن في سياسة الرئيس السابق دونالد ترامب، والأخير في سياسة سلفه باراك أوباما. والجديد قد يتجلى في تطور الخطاب بتأكيد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الخميس 25 مارس/آذار الجاري بقوله «الصين تهدد الوضع العالمي القائم على أسس تضمن الاستقرار العالمي». وهكذا، فقد تعددت الأسباب لفرض الغرب عقوبات على الصين منها، أسباب حقوقية وسياسية وتجارية. وعلى ضوء هذا، هل يمكن لهذه العقوبات، التي هي في بدايتها، وستصبح قوية ومتعددة لاحقا، تفكيك الصين مستقبلا على شاكلة نجاح الغرب في تفكيك الاتحاد السوفييتي بسقوط جدار برلين سنة 1989 بعد عقود من الحرب الباردة؟ تختلف السياقات التاريخية والثقافية أولا في المقارنة بين الصين وروسيا، وثانيا في علاقة الاتحاد السوفييتي بالغرب، مقارنة بعلاقة الصين بالغرب. وعموما، تتوفر للصين عوامل لم تتوفر للاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة الأولى مقارنة مع الحرب الباردة الثانية بين الصين والغرب. وعلى رأس هذه العوامل ما يلي.
* المقام الأول، تحولت الصين إلى قوة اقتصادية ثانية في العالم، في ظرف وجيز حيث أزالت من الطريق دولا مثل فرنسا وبريطانيا وكندا وألمانيا، علما أن اقتصاد الاتحاد السوفييتي لم يتجاوز في الماضي أي دولة غربية كبرى مثل بريطانيا. وخلال الجائحة الحالية، نجحت الصين في قطع مسافة الزمن اقتصاديا، فقد حافظت على اقتصادها من الانهيار، بل ربحت نقطة واحدة، بينما تراجع الاقتصاد الأمريكي بما يقارب 10%، وهذا يعني أن الصين ربحت خمس سنوات من الصراع الاقتصادي.
شدد بايدن على خطورة الصين مستقبلا، ودعا إلى تحالف الديمقراطيات لمواجهة الدول غير الديمقراطية التي تتزعمها الصين وروسيا
*في المقام الثاني، نجحت في بناء طبقة متوسطة هي الأكبر في التاريخ، وذلك في ظرف ثلاثة عقود فقط من الزمن، وتعمل في الصناعات والخدمات المتقدمة المرتبطة بالاستهلاك الداخلي والتصدير، وليس طبقة مرتبطة باستغلال الثروات الطبيعية. وهذا يمنح للنظام استقرارا اقتصاديا صلبا. ولم يكن الاتحاد السوفييتي قائما على طبقة متوسطة، وفشل في بناء طبقة البروليتاريا المستقرة، بسبب الفساد وسوء تطبيق الفكر الشيوعي. في حين تبدع الصين في تطوير الشيوعية بعد اعتمادها على عناصر ليبرالية، بشأن الملكية الفردية التي تبقى مهما كان حجمها تحت مراقبة ورعاية السلطة المركزية.
*في المقام الثالث، تحقق فائضا ماليا سنويا يسمح لها بالاستثمار في مشاريع تجارية تهيكل به التجارة العالمية مثل طريق الحرير، وتجعل عددا من الدول ترتبط بها اقتصاديا وماليا، وبالتالي سياسيا. ولعل من المنعطفات الكبرى في هذا الشأن، الاتفاق الضخم الذي وقعته الصين مع إيران السبت الماضي، ويمتد على 25 سنة، بالاستثمار في مختلف القطاعات مقابل الطاقة. وكانت «القدس العربي» قد عالجت هذه الاتفاقية، إبان الكشف عنها في مقال بعنوان «بكين وطهران نحو أكبر اتفاق جيوسياسي في القرن 21 يمهد للعصر الصيني» (القدس العربي 18 يوليو/تموز 2021). وهو نموذج لاتفاقيات ستوقعها بكين مع دول أخرى، لتعزيز نفوذها في العالم. وفشل الاتحاد السوفييتي في تطوير التجارة العالمية، بما في ذلك بين الدول التي كانت تدور في فلكه.
*وأخيرا، القوة العسكرية الهائلة التي تبنيها في صمت، فكما فاجأت العالم بالتقدم في الإنترنت مثل تفوقها في شبكة الجيل الخامس، بل العمل على تطوير الجيل السادس للسنوات المقبلة، وصناعة هواتف وحواسيب متطورة، وإرسال سفن إلى الفضاء، ومنها الجانب المظلم من القمر، فهي تبدع في مجال الأسلحة. وتحقق الصين تقدما مذهلا في الصناعة الحربية، وقد تعادل الصناعة الأمريكية خلال سنوات قليلة جدا. وإذا كان الاتحاد السوفييتي قد نجح في بناء قوة عسكرية، تسير الصين على خطواته كذلك، وهو ما يجعل الغرب لا يتجرأ على مهاجمتها.
توجد عوامل متعددة توحي بصعوبة تفكيك الغرب للصين، كما فعل مع الاتحاد السوفييتي في الماضي، لكن هذا لا يعني عدم نجاحه في عرقلة ومحاصرة النفوذ الصيني عبر فرض استقطاب عالمي حاد تحت يافطة «مع الغرب أو ضد الغرب». بعد الجائحة، دخل العالم الحرب الباردة الثانية رسميا، وهذه المرة بين الغرب والصين.
حسين مجدوبي
القدس العربي