موقف أوروبا من دور الأسد

موقف أوروبا من دور الأسد

630

الانقسام الظاهر في الموقف الأوروبي من الأسد, لا يقتصر فقط على المشهد الأوروبي، بل يمتد إلى أميركا ومجلس الأمن كما لخصه الفيتو الروسي والصيني, وكذلك إلى الجامعة العربية.

“الاتحاد الأوروبي في وضع لا يحسد عليه” استطاع هذا التصريح على لسان رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر أمام أعضاء البرلمان الأوروبي في سارسبورغ أن يتصدر كبرى الجرائد وأجهزة الصحافة الغربية (10-11/9/2015) في وقت تعود فيه الحدود الداخلية للظهور أو تكاد، وتعلق فيه حركة القطارات بين العديد من دول الاتحاد بما يهدد نظام شينغن، وترتفع فيه أصوات السياسيين حول الموقف من أزمة اللجوء، ما حدا برئيس المفوضية للقول أيضاً: أوروبا تفتقر للتماسك.

تعود خلفيات الاضطراب الحاصل في المشهد الأوروبي إلى أزمة اللاجئين التي أحدثها الدفق اليومي المتزايد من أعداد الفارين من الموت في سوريا على وجه الخصوص القادمين عبر شبكات التهريب المتجاوزة للحدود والأنظمة والسياسات الحكومية.

تباينت مواقف الدول الغربية من اللاجئ السوري بحسب قدرتها الاقتصادية ومكانها القديم بين المعسكرين الشرقي والغربي، وتعددت المخاوف من الأثر الذي يمكن أن يحدثه استقبال أعداد كبيرة من السوريين، كان أصرحها ما ورد في تحذيرات رئيس الوزراء المجري “فيكتور أوربان” من الهوية الإسلامية المغايرة لجذور الثقافة الأوروبية المسيحية. بينما شهد العديد من العواصم الغربية مظاهرات حاشدة تطالب حكوماتها بالمزيد من التعاطف مع اللاجئين الوافدين.

هذه مفارقة جديدة بين السياسي والمواطن الغربي دفعت بالخطاب السياسي إلى المزيد من المواربة لستر عورة الدور الأوروبي جراء السكوت عن جرائم الأسد، والتركيز بدلاً عن ذلك على جرائم تنظيم الدولة باعتباره أصل معاناة اللاجئين الإنسانية.

ولأنه لا يمكن فصل بداية المشكلة عن آخرها ولا يستقيم معها حلٌ لا يراعي جذورها، كان هذا من سوء طالع السياسيين الأوروبيين، فهم إن استطاعوا الاتفاق على ما ينبغي فعله للخروج من حالة العجز حيال أزمة اللاجئين في أوروبا، إلا أن واحدهم لا يزال يقف بعجز أكبر أمام ما ينبغي فعله في سوريا حيال تساقط براميل الموت على المدن الآهلة وإيقاف حركة النزوح من أصلها. وهو إفلاسٌ أفرزته العولمة وقدمه مجلس الأمن وباركته الولايات المتحدة الأميركية.

“الانقسام الظاهر في الموقف من الأسد بوصفه جزءا من الحل أو سببا للمشكلة، لا يقتصر فقط على المشهد الأوروبي، فقد سبقته انقسامات على امتداد أعوام الصراع السوري ولا تزال”

الملف السوري ومتوالية الانقسامات
قال وزير الخارجية النمساوي سباستيان كورتس -خلال زيارة رسمية لطهران- إنه ينبغي على الغرب ضمُّ الرئيس السوري بشار الأسد لقتال تنظيم الدولة الإسلامية. فيما قال نظيره الإسباني -الذي يزور طهران أيضا- إنّ المفاوضات مع الأسد ضرورية لإنهاء الحرب وإحلال السلام في سوريا.

هذا الانقسام الظاهر في الموقف من الأسد بوصفه جزءا من الحل أو سببا للمشكلة، لا يقتصر فقط على المشهد الأوروبي، فقد سبقته انقسامات على امتداد أعوام الصراع السوري ولا تزال، من انقسام في البيت الأبيض بين مؤيدٍ لسياسة أوباما ومنادٍ بتوجيه ضربة عسكرية، إلى انقسام في مجلس الأمن لخصه الفيتو الروسي والصيني أربع مرات، وانقسام في الجامعة العربية حول شرعية الممثل السوري انتهى بترك مقعد سوريا في لقاء الكويت صيف 2014 خالياً من أي تمثيل.

نتج عن هذه المتوالية من الانقسامات حالة من العدمية السياسية التي لا تعرف خطوطاً حمراً سوى ما كان من خطوطٍ تضمن الاستنزاف ولا تحقق الحسم، وهو بالضبط سبب ولادة تيار النزوح السوري وتأزم الوضع في بيت الساسة الأوروبيين.

يتحمل مسؤولية هذه العدمية السياسية القوى الدولية الكبرى القادرة على ملء الفراغ باتخاذ قرارات جريئة واتباع سياسات حاسمة. ومع استعصاء مجلس الأمن وغياب شرطي المرور العالمي عن الشرق الأوسط، غاب الحضور الأوروبي إلا في حدود الدور الكسيح الممارس باسم مجموعة أصدقاء الشعب السوري، وصارت المعادلة المحلية في سوريا رهن إستراتيجيات اللاعبين الإقليميين، وتحديداً المملكة وتركيا وإيران.

أسباب الانقسام
برغم ما حققته اتفاقيات الاتحاد الأوروبي من تقدم نحو نموذج حكم لا مركزي أنتج اليورو وألغى الحدود وسهل عبور البشر والبضائع، غير أنها في المستويات العميقة لم تنجح في بناء أرضية اجتماعية سياسية مشتركة.

لا تمتلك أوروبا داخلياً أرضية متينة بما يكفي للتقدم بحلول جريئة تضع النقاط على الحروف في ملفات خارجية، فاستقرار السياسات الخارجية رهن سلامة تقاطع السياسات الداخلية.

وهذه الأخيرة شديدة التباين من بلد أوروبي لآخر نظراً لتفاوت الأولويات الاقتصادية والقدرة على الاستثمار في أسواق جديدة، ولإملاءات الموقع الجغرافي ومدى قربه من الحدود الخارجية للاتحاد ولا سيما التركية، ولاختلاف نموذج الدولة الحاكم وتأثر دول الاتحاد الشرقية بالنموذج الشيوعي والغربية بالرأسمالي، وكذلك للتاريخ القريب من الحروب الأوروبية خصوصاً الحرب العالمية، بل إن “الاتحاد الأوروبي هو جواب أوروبا للعالم بعد ما اقترفته من حروب فيما بينها” بحسب ما جاء في صحيفة دير شبيغل الألمانية تعليقاً على خطاب رئيس المفوضية المشار إليه في الاستهلال.

لا تمتلك أوروبا المجازفة بعلاقتها مع روسيا ولا سيما مع غياب البدائل عن الغاز الروسي حتى الآن، وبرغم كل الرعود في سماء أوكرانيا لم تهطل فيها أمطار أوروبية أو أميركية بل اجتاحت القوات الروسية جزيرة القرم وجاوزتها للمقاطعات الحدودية.

ولا تمتلك أوروبا الثقة بسلامة تعاملها مع التبدلات الكبيرة في الشرق الأوسط، فرصيد التجربة المسجلة في الساحة السورية منذ 2011 حتى الآن يدفع باتجاه البحث عن ثوابت جديدة في الموقف من الصراع الدائر، وقد أثبتت تجربة السنوات الأربع فشل مجلس الأمن في حل الصراع أو تحجيمه، وفشل إستراتيجية التحالف في القضاء على داعش أو تحجيمه، إضافة لفشل الجهود الأوروبية في ضبط مسارات النظم الجديدة في ليبيا ومصر.

ومع تحول إيران إلى قبلة جاذبة للاستثمار عقب الاتفاق النووي، بالإضافة لبزوغ النجم الروسي وقدرته على المبادرة لامتصاص ضربة أميركية في سوريا أو إعلان تدخل عسكري روسي مؤخراً، قد يبدو لأصحاب القرار الأوروبي أن الوقت قد حان لإعادة النظر في الموقف الأوروبي من الصراع وأطرافه، إنما بما تمليه الوقائع الجديدة وأولها ملف الهجرة.

“لا يزال التشنج يسيطر على أجواء النقاش المتأزم لمسألة توزيع حصص إلزامية لاستيعاب أعداد اللاجئين في كل دول الاتحاد الأوروبي”

أزمة الهجرة غير الشرعية
على هامش الحوار الأوروبي حول ملف اللاجئين وتضاؤل احتمال الوصول لحل توافقي شامل يؤسس لآلية ثابتة في التعامل مع أزمات مشابهة، ثمة مجموعة من نقاط الاتفاق والاختلاف يمكن تلخيصها فيما يلي كملامح لخطة أوروبية.

على صعيد الإجراءات الداخلية للاتحاد، لا يزال التشنج يسيطر على أجواء النقاش المتأزم لمسألة توزيع حصص إلزامية لاستيعاب أعداد اللاجئين في كل دول الاتحاد، وحول إقامة حواجز تفتيش على الحدود الداخلية بما يهدد عملياً نظام شينغن، وكذلك حول صوابية استمرار العمل باتفاقية دبلن الحدودية.

أما على صعيد الإجراءات الخارجية فيبدو التوصل لرؤية مشتركة أمرا أقرب منالاً، وهي رؤية تهدف إلى تأمين الحدود الخارجية للاتحاد وتعطيل تيار الهجرة الوافدة بمعالجة أسباب نشوئه، كما يلي:

• ابتداءً من أكتوبر/تشرين الأول تنتشر قوات بحرية عسكرية أوروبية في مياه المتوسط لإنقاذ الفارين وتعقب شبكات التهريب، والتطلع الآن لنتائج تصويت البرلمان في الرابع والعشرين من الشهر الجاري على منح القوات الحق باستعمال القوة لضرب قوارب التهريب عند الحاجة.

• تحسين ظروف المخيمات في تركيا والأردن بما يوفر على اللاجئين فيها عناء السفر لأوروبا.

• معالجة أسباب النزوح الداخلية بلجم ماكينات العنف داخل سوريا، وهنا لا تزال الضبابية تسيطر على الموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي وإن كادت التصريحات الجديدة تشي بتبدل مكان الاتحاد من الاصطفاف خلف جنيف1 إلى الاختباء خلف الإصبع والقبول بالأسد كجزء من الحل وشريك في حرب الإرهاب.

داعش طوق النجاة للأسد
مع انغلاق أفق الحسم وإصرار مجلس الأمن على أن لا حل عسكريا في سوريا، صار القبول أوروبياً ببقاء الأسد في السلطة مسألةٌ فيها نظر، أو تحتمل أن تكون كذلك، باعتباره شرط توقف الحرب، ولا سيما مع توجه الأولوية الأميركية لمحاربة الإرهاب أولاً، وكذلك مع اقتحام الروس للساحة السورية بالعتاد الثقيل والجنود، وكذلك مع خطة المبعوث الدولي التي لا تنفي بالضرورة وجودا مستقبليا للأسد في السلطة، وشماعة كل ذلك هي تنظيم الدولة، ولطالما اتسع كاهل التنظيم لحمل كبر الواقع الجديد أفلا يتسع لمنح الاتحاد الأوروبي منعطف العدول عن موقفه من الدور المستقبلي للأسد؟

يدرك الساسة الأوروبيون قبل غيرهم حجم المفارقة التي يسجلها الإعلام العالمي حول خطر الإرهاب “الداعشي” بين الواقع والادعاء، وأن الحرب على الإرهاب هي فن سياسي لصناعة المستقبل أكثر منها ضرورة أمنية لحماية المصالح.

وإذ يحاول الساسة الأوروبيون من خلال ضرب داعش تبرئة ذمتهم من جرائم الأسد، فليس من الرشد توهمهم أن الكذب -الذي لم ينطل تماماً على شعوبهم- يمكن أن يجد طريقاً لإقناع من خسر بيته ببرميل أو ابنه باستنشاق الكيمياوي بأن الأسد شريك في الحل وليس أس المشكلة وأساسها.

والحق أن الاستمرار في دعم الدكتاتوريات “الإرهابية على الحقيقة لا الاصطلاح” مقابل إنكار حق الإسلاميين في المشاركة السياسية سينتهي إلى المزيد من الاحتقان والثورات والمواجهات المسلحة وربما ولادة المزيد من التنظيمات “الإرهابية”.

الدور الأوروبي الممكن
في مرحلة الانغماس الروسي والنأي الأميركي لا يبدو أن القوى الإقليمية المناهضة للأسد ستجازف بدخول مواجهة مباشرة في سوريا. وبالتالي فلن تجد بداً من إرخاء الحبل أمام حركة المجاهدين باتجاه الساحة السورية لمجاراة المعادلة الجديدة، خصوصاً أن الحلف الداعم للأسد لطالما تعهد بتوفير المليشيا الوافدة والمرتزقة والدعم العسكري التقليدي.

هي إذن مرحلة المحاربين الوافدين، هذا يعني أن مسار المنطقة يتجه نحو ارتفاع اثنين من المؤشرات المثيرة للقلق في الجوار الأوروبي:

“في مرحلة الانغماس الروسي والنأي الأميركي لا يبدو أن القوى الإقليمية المناهضة للأسد ستجازف بدخول مواجهة مباشرة في سوريا”

• تنامي مستويات العنف في المنطقة، عبر استمرار تدفق السلاح والمقاتلين الأجانب كأفراد أو مليشيات أو جنود عسكريين نظاميين.

• زيادة احتمالات الخطر الأمني في أوروبا، عبر تقدم دور المقاتل الأجنبي كمعادل للتوازن وفرس رهان في المواجهة غير المباشرة.

الاتحاد لديه ما يكفي لدخول حلبة الكبار (بالتدخل المباشر أو بدونه) إن توافرت لديه الرؤية السيادية الجامعة، وأول ما يحتاجه فيها:

• عدم الركون بعد الآن لجدارة الشرطي الأميركي، بل والالتفات لتوفير المزيد من أسباب تماسك الاتحاد وتأمين مصالحه وسيادته على قراره.

• التوقف عن التهويل الممارس منذ مطلع القرن عن خطر الوجود الإسلامي، والاستعداد بدلاً عن ذلك للتعامل بانفتاح مع الإسلام السياسي الصاعد من بين الأحداث الكبرى الجارية في الشرق الأوسط.

خرج الملف السوري من المعادلة العربية بوصوله لمجلس الأمن، وخرج منه إلى ثنائية الحرب الباردة بدخول قوات التحالف الأميركي الأجواء السورية، وخرج من الثنائية القطبية (الأميركي الروسي) إلى المعادلة الإقليمية بالتدخل المباشر لكل من تركيا وإيران صوناً لمصالحهما المستقلة، وخرج من كل ذلك لمعادلة جديدة باقتحام الروس للمشهد لدرجة الانغماس، ولا يزال المشهد مفتوحاً باستمرار على المزيد من التصعيد، ولم يزل الاتحاد الأوروبي حتى الآن ينتظر الإيحاء الأميركي من أجل التعرف على حدود دوره المنتظر، فهل سيجمعه الانتظار بعد أن فرقته أزمة اللاجئين؟

طارق أحمد بلال

المصدر: الجزيرة نت