ألم يحن الوقت لكي يتصالح الأرمن والأتراك؟ ألم يعانِ هذان الشعبان بما فيه الكفاية من ثمن الجريمة التي ارتكباها بيديهما، وهما من ضحايا تدخلات القوى العظمى خلال القرن الماضي؟ نعلم جميعاً أن كلا الجانبين عاشا في أجواء من الأخوة طيلة ألف عام، وكان العثمانيون يصفون الأرمن عبر التاريخ بـ»الأمة الصادقة». وقد تكاتف القومان وحاربا جنباً إلى جنب طيلة ألف عام في معارك كثيرة. حتى أن الأرمن قدموا دعما للسلطان محمد الفاتح بمجموعة عسكرية ضخمة خلال فتح إسطنبول. كما أن الدول الغربية كانت تعرّف الأرمن بأنهم «أتراك مسيحيون» بسبب اندماجهم مع الشعب التركي في منطقة الأناضول.
تحولت الصداقة المستمرة من أعوام طويلة إلى كابوس في القرن الماضي، عندما كان العثمانيون على وشك الانهيار. فقد اختار العديد من الدول الكبرى في تلك الفترة، الأرمن ضحايا لتنفيذ خططها الجيوستراتيجية، وفي مقدمة هذه الدول روسيا وفرنسا. وبينما كانت الدول الأوروبية وروسيا تثير المشاعر القومية الأرمنية من ناحية، كانت تقوم من ناحية أخرى بممارسة البروباغندا لتشكيل منظمات إرهابية مسلحة بين الشباب الأرمن الملتحقين بالمدارس التبشيرية في الأناضول. وبالفعل، تأسست عصابات أرمنية مثل «هنجاق» عام 1887 و»طاشناق» عام 1890. وتم لغاية عام 1891 افتتاح 9 كليات فرنسية و14 إيطالية و9 كليات أمريكية في أراضي الإمبراطورية، بغية تجنيد الأقليات المسيحية. وكانت المنظمات الإرهابية الأرمنية تجذب الشباب القومي إلى صفوفها بدعم من روسيا والدول الأوروبية. كانت الدولة العثمانية تحتضر إبان هذه الفترة، وحلّت عليها مصيبة كبيرة جراء إسقاط السلطان عبد العزيز خان عن العرش، عبر انقلاب غادر في 30 مايو/أيار 1876 واستشهاده على يد 3 بعد أن سرقت أمواله هو وأسرته. حلّ السلطان مراد الخامس، المختل عقلياً، على العرش محل السلطان عبد العزيز، وبعد 3 أشهر اعتلاه السلطان الشاب عبد الحميد الثاني. ومع صعود السلطان عبد الحميد إلى العرش، أشعل مدحت باشا، الذي كان الوزير الأعظم في ذلك الوقت، حرباً مع روسيا بلا سبب. تعرف هذه الواقعة في تاريخنا بـ»كارثة 93» وتسمى الحرب الروسية (1877 – 78). انتهت هذه الحرب بالهزيمة، على الرغم من التضحيات التي قدمها القائدان العظيمان غازي عثمان باشا وغاز أحمد مختار باشا خلالها. وصل الروس حتى أرضروم في الشرق، ويشيل كوي في الغرب. وانتهت الحرب بطرق سياسية عبر مؤتمر برلين. ومع توقيع معاهدة برلين في هذا المؤتمر، فقدت الدولة العثمانية بلغاريا وصربيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك.
كان العثمانيون يصفون الأرمن عبر التاريخ بـ»الأمة الصادقة» وقد تكاتف القومان وحاربا جنباً إلى جنب طيلة ألف عام في معارك كثيرة
بدأت المنظمات الأرمنية تتحول إلى مشكلة سياسية بالنسبة للإمبراطورية العثمانية بعد الحرب مع روسيا (1877-1878). وكانت الدول الغربية توقع على العديد من الاتفاقيات السرية، في ما بينها مثل «سايكس – بيكو» بهدف تقسيم الإمبراطورية العثمانية. رفعت المنظمات الأرمنية علم التمرد في أرضروم يوم 20 يونيو/ حزيران وفي كوم كابي في إسطنبول بتاريخ 15 يوليو/تموز 1890. وشهدت تلك الفترة مقتل 10 أشخاص، وأصدر السلطان عبد الحميد الثاني عفوا خاصا لإظهار حسن النية، وتم بذلك العفو عن 76 أرمنيا. لكن الأرمن لم يتوقفوا، واندلعت أحداث في قيصري ويوزغات وجوروم ومرزيفون بين عامي 1892 و1893. وانتقل التمرد عام 1894 إلى ساسون – بطمان، ودياربكر وزيتون. وفي 26 أغسطس/آب 1896 أطلقت منظمة طاشناق تمرداً في إسطنبول، وكانت تسعى بذلك لدفع الدول الأوروبية إلى التدخل ضد الدولة العثمانية. وقامت عناصر المنظمة، خلال تلك الفترة بإلقاء القنابل وإطلاق النار بالأسلحة على مختلف أنحاء المدينة. وحرصوا على استهداف المخافر بشكل خاص، وقتلوا 129 فرداً من الحرس العسكري. داهموا أيضا البنك العثماني، واحتجزوا 157 شخصا رهائن. وتمت تلبية طلباتهم إثر تدخل من طرف الدول الغربية، وسمح لهم بالذهاب إلى مارسيليا على متن إحدى السفن، خطط الأرمن لعملية اغتيال ضد السلطان عبد الحميد الثاني، يوم 21 يوليو 1905، وهو الذي اعتمد عليهم، ووضع ثروته الشخصية وخزانة الدولة أمانة بيدهم طيلة 33 عاما من الحكم، وأدى ذلك إلى مقتل 26 شخصا. بالمحصلة؛ أشعل الأرمن فتيل نحو 40 عملية تمرد في الفترة بين 1882 و1909.
بينما كانت المنظمات الأرمنية تطلق عمليات التمرد في أجزاء كثيرة من أراضي الأناضول، كان هناك وزراء وبرلمانيون ومسؤولون محليون، وولاة وسفراء من الأرمن أيضا في المناصب العليا للإمبراطورية العثمانية، حتى أن العديد من مستشاري السلطان عبد الحميد، كانوا من الأرمن. ومع تولي حزب الاتحاد والترقي للسلطة عقب إسقاط عبد الحميد عام 1909، توسعت دائرة التمرد، لتشمل جميع الأراضي العثمانية. وفقدت الدولة العثمانية البلقان والقوقاز وشبه الجزيرة العربية خلال 8 أعوام، وعندما دخلت الحرب العالمية الأولى، من دون رغبة، خسرت مئات الآلاف من أبنائها في جبهات عدة. في خضم ذلك، كانت المنظمات الأرمنية تداهم قرى الأناضول، وترتكب المذابح بحق الأهالي. وقد واجهت الدولة العثمانية صعوبة في ضبط التمردات الداخلية للأرمن، بسبب تعرضها لحصار القوى العظمى من جميع الجهات، خلال أشد فترات الحرب العالمية احتداما. استغل الأرمن وفاة عشرات الآلاف من الجنود العثمانيي،ن بسبب البرد الشديد، خلال حربهم ضد الروس في جبهة صاري قاميش الشرقية يوم 10 يناير/كانون الثاني 1915، ليزيدوا الطعن في الجنود العثمانيين وكثفوا هجماتهم على قرى الأناضول.
في فبراير/شباط 1915، قامت الدولة العثمانية، كإجراء احترازي أول، بنزع السلاح من الأرمن، الذين كانوا داخل صفوف جيشها، لكن الوقت كان قد فات، حيث اندلع التمرد في مدينة «وان» بتاريخ 19 إبريل/نيسان 1915 وبعد ذلك سيطر الروس على المدينة، وتكرر ذلك في بتليس أيضًا. وفي 24 إبريل 1915 قرر وزير الداخلية طلعت باشا إغلاق مراكز اللجان الأرمنية وحظر زعمائها. وتم نفي 2345 شخصًا من الأرمن في إسطنبول البالغ عددهم 77 ألفاً و733 إلى الأناضول.
في هذه الفترة بالتحديد، وعندما لم تتوقف الهجمات الأرمنية، طلب فريدريك برونسارت فون شيلندورف (1864-1950)، وهو قائد في الجيش الألماني دعم العثمانيين في الحرب العالمية، تهجير الأرمن مثلما تم تهجير الأتراك من البلقان على يد الأوروبيين، ومن القوقاز على يد الروس. وعلى إثر ذلك، أصدرت الحكومة العثمانية (وبإملاء من رئيس الأركان الألماني) «قانون التهجير»، بتاريخ 27 مايو 1915، تحت إشراف طلعت باشا، أحد القادة الأقوياء في حزب الاتحاد والترقي. ما الذي حدث بعد ذلك؟ دعونا نتحدث عن هذا الأمر بجميع تفاصيله الأسبوع المقبل. وهنا نؤكد أن الشتات الأرمني، ينبغي أن لا يترك اليد الممدودة بعد سنوات طويلة، من قبل الرئيس رجب طيب أردوغان، معلقة في الهواء.
توران قشلاقجي
القدس العربي