عندما تفكك الاتحاد السوفييتي في أواخر ديسمبر 1991 ظن المراقبون أن الحرب الباردة انتهت إلى غير رجعة، غير أن المتتبع لمسار الأحداث يعلم جيدا أن ذلك لم يحدث على الرغم من أن العالم بقي رهينة لتوجهات اقتصادية وخاصة عسكرية تقودها الولايات المتحدة ومن بعدها الدول الأوروبية في مواجهة روسيا الصاعدة آنذاك.
ومع بروز فلاديمير بوتين رجل المخابرات السوفييتي السابق ووصوله إلى سدة الحكم، أصبحت روسيا وخاصة بعد عام 2011 وما شهده من تغيرات دولية وتحديدا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لاعبا أساسيا بإمكانه تحديد هوية المنتصر وهوية المنهزم في أي صراع. ويبدو أن الجميع أمام نسخة جديدة لأجواء الحرب الباردة في ظل النزعة الغربية لحشر الروس في زاوية أفعالهم.
وفي إطار محاولات روسيا الفاشلة لضم أوكرانيا إلى حضنها، واستعداد الغرب لانضمام حليف جديد إليهم، ظهر في العام 2014 صراع مصالح وإستراتيجيات بين روسيا والدول الغربية لتحديد مسار النظام العالمي وشكله الجديد عبر ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية والتهويل العسكري، لكنه تحول إلى نقطة أكثر سخونة في العام التالي مع تقديم الروس دعما لنظام بشار الأسد وإجهاض محاولات إسقاطه.
فخلال تلك الفترة رأى كثير من المحللين أن العالم يتجه إلى حرب باردة ثانية بلا أدنى شك، حيث وضعت التطورات حينها بشكل فعلي حدا لانقطاع الشراكة والتعاون بين الغرب وروسيا اللذين سادا في ربع القرن الذي انقضى بعد الحرب الباردة.
والآن ومع استمرار تدهور العلاقات بين روسيا والغرب بعد سلسلة من المناوشات الدبلوماسية بين موسكو ودول المعسكر السوفييتي السابق، تعهدت روسيا برد “غير متكافئ” إزاء تعرضها لمزيد من “التهديدات” و”الاستفزازات” من خصومها. والسؤال الملح الذي يراه مارك إيبيسكوبوس مراسل الأمن القومي لمجلة “ناشونال إنتريست” الأميركية هو كيف سينتقم الكرملين لنفسه في ظل ما يحصل؟ وما هي الردود المتوقعة من الغرب على ما تقوم به موسكو؟
ويفسر المحلل الأميركي مسار الأحداث انطلاقا من خطاب بوتين السنوي الذي ألقاه الأسبوع الماضي على خلفية التوتر المتصاعد في ما يتعلق بالصراع في منطقتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين بشرق أوكرانيا، والموجة الجديدة من الاحتجاجات المناهضة للحكومة اعتراضا على سجن الناشط والمعارض الروسي البارز أليكسي نافالني.
وركز الخطاب بصورة كبيرة على القضايا المحلية التي تتضمن مشاريع البنية التحتية الإقليمية والإجراءات التي اتخذتها الحكومة لمواجهة التداعيات الاقتصادية الناجمة عن جائحة فايروس كورونا. ولم يتطرق بوتين إلى الحديث عن السياسة الخارجية إلا في نهاية الخطاب الذي استمر أكثر من ساعة.
وأشار بوتين إلى الاتهام بأن الحكومات الغربية شاركت في مؤامرة لاغتيال رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو في إطار محاولة انقلاب. وصدر هذا الادعاء مؤخرا عن مينسك وأقر به الكرملين بصورة جزئية. وقال بوتين “أشير إلى التدخل المباشر الذي كُشف النقاب عنه مؤخرا في شؤون بيلاروس من خلال محاولة لتدبير انقلاب واغتيال رئيس الدولة”. وانتقد بوتين عدم تعليق القوى الغربية على هذه، وقال “يبدو أن أحدا لم يلحظ ذلك”.
Thumbnail
ولم يكن المتابعون في حاجة إلى الكثير من الوقت لفهم نوايا “قيصر” روسيا الجديد حينما لفت في خطابه انتباه الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الانقلاب المزعوم ضد لوكاشينكو، إلا أنه لم يفصح عن تفاصيل إضافية. ومع ذلك وكردّ معتاد في مثل هكذا ظروف فنّدت وزارة الخارجية الأميركية هذه المزاعم بشدة، ووصفتها بأنها “غير صحيحة على الإطلاق”.
وكان بوتين قد حذر الغرب من “تجاوز الخط الأحمر في ما يخص روسيا”، مشيرا إلى أن رد بلده على التجاوزات المفترضة سيكون “غير متكافئ وسريعا وصارما”. ومن هنا اعتبر إيبيسكوبوس أن ذلك يمثل انحرافا دقيقا، ولكنه ضروري، عن التزام الكرملين منذ فترة طويلة بالتكافؤ، أي بردود الفعل الانتقامية التي تم قياسها بعناية في وجه العقوبات الغربية، وأوجه العقاب الأخرى.
ولا ينحصر التوتر السياسي القائم بين روسيا وأوكرانيا وحلفائها من الغرب في شبه جزيرة القرم الواقعة على ساحل البحر الأسود، والتي قدمها الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشيف إلى أوكرانيا في العام 1954، في صلب إحدى أسوأ المواجهات الدبلوماسية بين موسكو والغرب منذ نهاية الحرب الباردة ولكنه متشعب ليصل إلى منطقتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين.
وتكتسي القرم أهمية إستراتيجية بالنسبة إلى روسيا لأنها توفر لها موطئا على البحر الأسود والبحر المتوسط القريب، فيما تشكل أوكرانيا عنصرا رئيسيا في طموحات بوتين لإعادة بناء تحالف ما بعد الاتحاد السوفييتي قادر على منافسة الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي معا.
ورغم أن المحادثات بين روسيا وأوكرانيا التي تريد الولايات المتحدة ضمها إلى معسكرها قد لا تكون وشيكة، يبدو أن الجولة الأخيرة من التصعيد بين الطرفين تشهد تراجعا. وبعد مرور أسابيع على ما أُطلق عليه أكبر عملية حشد للقوات الروسية على الحدود الأوكرانية منذ عام 2014، يتم حاليا سحب هذه القوات إلى قواعدها الدائمة.
وبحسب الكرملين من المقرر أن يتم الانتهاء من سحب هذه الوحدات الروسية بحلول الأول من مايو المقبل. وعلى الرغم من أن المدى الكامل لنوايا موسكو من وراء الحشد العسكري لا يزال غير واضح، فإن سلوك روسيا يتفق بشكل عام مع نمط الردع القسري.
ومع ذلك تعرضت موسكو لأزمة دبلوماسية جديدة بصورة مفاجئة، حيث قامت التشيك بطرد 18 من العاملين بالسفارة الروسية لديها بعد أن اتهمت موسكو بالتورط في انفجار مستودع للذخيرة شهدته البلاد في 2014 ونفت موسكو اتهامات براغ وقامت على الفور بطرد 20 دبلوماسيا من السفارة التشيكية في موسكو، وهو إجراء قال عنه وزير الخارجية التشيكي جاكوب كولهانك إنه “غير متناسب وقد تسبب في إصابة العمل في سفارتنا بالشلل”.
وفي التصعيد الذي أعقب ذلك أعلن كولهانك أن براغ قررت طرد ما يصل إلى 63 من موظفي السفارة الروسية، موضحا أن الاجراء يهدف إلى تحقيق التكافؤ، كما أشار إلى أن السفارة التشيكية في موسكو لديها عدد أقل بكثير من الموظفين ممّا لدى البعثة الروسية في براغ.
وبنظرة أكثر عمقا لا يمكن تخيل أن الأمور سوف تسير إلى التهدئة، حيث أن أغلب المؤشرات تدل على أن منعطفا جديدا قد يكون نقطة فارقة في العلاقات المستقبلية الروسية – الغربية، خاصة وأنهما مصران على تنفيذ أجنداتهما الجيوستراتيجية على الأرض مهما كانت التكاليف، وهو ما يجعل العالم أمام سيناريوهات أكثر قتامة مع مرور الوقت.
صحيفة العرب