بدا انتصار الشعب الفلسطيني في هبّة باب العامود في القدس المحتلة حافلاً بالدلالات، لجهة تأكيد خيار المقاومة الشعبية، كما الهوية الفلسطينية العربية الإسلامية المسيحية للمدينة في مواجهة التهويد والاستيطان. وبالتأكيد اعتماد المقدسيين على أنفسهم، أولاً وأخيراً، في التحدّيات والمعارك المطروحة أمامهم. لكن، قبل التمعّن في دلالات (وتداعيات) الانتصار على المشهد المقدسي، والفلسطيني بشكل عام، تحديداً في ما يتعلق بالانتخابات التشريعية والرئاسية التي تسعى قيادة السلطة للتهرّب منها بحجة عدم موافقة إسرائيل على إجرائها في القدس رغم تصويت المقدسيين الشعبي الصريح والقاطع لصالح مواطنيتهم وهويتهم، لا بدّ من إلقاء نظرة أولاً على خلفيات ما جرى ويجري في الحيّ والحرم القدسي والمدينة بشكل عام.
لم تكن هبّة باب العامود وليدة اللحظة، ولا حتى شهر رمضان، إنّما انفجرت فقط في الشهر الكريم نتيجة تراكمات وأحداث حصلت خلال السنوات الماضية، تحديداً منذ اعتراف الرئيس الأميركي المنصرف، دونالد ترامب، بالقدس عاصمة لإسرائيل (ديسمبر/ كانون الأول 2017)، ومن ثم تصاعد الممارسات والخطوات التهويدية الاستيطانية لتكريس تلك الحقيقة الواقعة على الأرض.
في هذا الصدد، تمكن الإشارة إلى تزايد مصادرة الممتلكات والبيوت، وطرد أصحابها وسكانها المقدسيين منها لتسليمها إلى جماعاتٍ استيطانيةٍ متطرّفة، بدعم واضح من المؤسسة السياسية والقضائية الإسرائيلية، ونتحدّث تحديداً عن حيّ الشيخ جرّاح، المجاور لباب العامود، حيث المحاولات جارية لطرد عشرات العائلات ومئات السكان، كما يجري الحديث عن خطط لمصادرة عشرين ألف بيت في القدس وهدمها وطرد 150 ألفاً من سكانها، ما يعني أننا أمام تهجير قسري (ترانسفير) موصوف، يتعارض مع كلّ المواثيق والقرارات الدولية، وهو أمر لا يقبل به المقدسيون.
لم تكن هبّة باب العامود وليدة اللحظة، ولا حتى شهر رمضان، إنّما انفجرت فقط في الشهر الكريم نتيجة تراكمات وأحداث كثيرة
في السنوات الماضية أيضاً، تسارعت وتيرة التهويد الرسمية عبر مشاريع استيطانية وسياحية، وأخرى تتعلق بالتكنولوجيا والمواصلات، لفرض الطابع اليهودي، التوراتي تحديداً، في محيط الحرم القدسي الشريف. وتمكن الإشارة أيضاً، على سبيل المثال، إلى مشروع القطار الخفيف، كما مدينة التكنولوجيا الذكية في وادي الجوز المجاور أيضاً لباب العامود. وفي الفترة الماضية، تصاعدت أيضاً حملات القمع الإسرائيلية بحق المصلين، وشيوخ المسجد الأقصى، وموظفيه، والمرابطين، عبر حملات اعتقال ومنع من دخول الحرم القدسي، وحتى منع من السفر، إضافة إلى التضييق على خطط الترميم والإعمار لمرافق الحرم وأمور متعلقة ذات صلة، من قبيل الدروس والحلقات التعليمية وما إلى ذلك. وشهدنا، في الأسابيع والشهور الماضية، ارتفاعاً مطّرداً في أعداد وفترات اقتحام المستوطنين المتطرفين من تيار الصهيونية الدينية الحرم القدسي، بالتوازي مع الدعوات إلى فرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، وإن في المرحلة الأولى، وصولاً إلى إعادة بناء الهيكل الثالث المزعوم.
مع دخول شهر رمضان، واصلت سلطات الاحتلال التضييق على المقدسيين والمصلين وإقامة الشعائر الدينية الرمضانية في ساحات القدس، حيث إقامة صلاة التراويح في الساحات ثم الجلسات والسهرات الرمضانية فيها، بل وصل الأمر بالاحتلال إلى قطع أسلاك ميكروفونات المسجد الأقصى للتشويش على إقامة أول صلاة للتراويح، ومنعها بالتالي في الساحات المحيطة به. وشهد بدء الشهر الكريم وضع سلطات الاحتلال سلاسل وحواجز معدنية في ساحة باب العامود لمنع الصلاة، أو إحياء الليالي الرمضانية فيها، ما أدّى إلى تفاقم الغضب في الشارع الفلسطيني. ولا يمكن تجاهل الاحتقان الناتج عن مماطلة الاحتلال في الموافقة على إجراء الانتخابات الفلسطينية، التشريعية ثم الرئاسية، في القدس، بل إبلاغ السلطة بالرفض، وإن شفوياً (العربي الجديد، الاثنين 26 إبريل/ نيسان)، وسعي الأخيرة إلى استغلال ذلك لتأجيل العملية الانتخابية برمتها، وحتى إلغائها.
وأخيراً، جاءت النقطة التي أفاضت الكأس عبر تظاهرة جماعة لاهافا المتطرّفة، الخميس الماضي (22 إبريل/ نيسان)، في محيط الحرم القدسي، وباب العامود تحديداً، والتي ردّدوا خلالها شعارات تحريضية عنصرية ضد المقدسيين والعرب، وأخرى تتعلق بتهويد مدينة القدس وفرض السيطرة التوراتية عليها. وهؤلاء المتطرّفون لم يعودوا هامشيين، بل باتوا في صلب الطبقة السياسية بعدما شرعنهم أو بيّض صورتهم بنيامين نتنياهو قبل انتخابات الشهر الماضي (مارس/ آذار)، التي أوصلت فتيان التلال العنصريين إلى الكنيست، وربما الحكومة.
مقاومة شعبية سلمية وعناد وإصرار على الدفاع عن الهوية والحقوق
وقد واجه المقدسيون طوال الوقت ذلك كله وحدهم بقيادة محلية من الدعاة والمشايخ ورجال الدين، بمساعدة موظفي الأوقاف والمرابطين والناشطين الميدانيين، عبر مقاومة شعبية سلمية وعناد وإصرار على الدفاع عن الهوية والحقوق. وفي رمضان، استمرّوا في أداء الصلوات والشعائر والطقوس الرمضانية في الحرم والساحات المحيطة به، ثم تصدّوا بشجاعة لتظاهرة المستوطنين المهووسين، فخشي الاحتلال من انفجار الأوضاع وخروجها عن السيطرة تماماً، فتراجع تماماً كما حصل في معركة البوابات الإلكترونية صيف العام 2017.
وعجزت السلطة الفلسطينية، في الفترة الماضية، عن نجدة المقدسيين أو إغاثتهم بشكل جدي وملموس، وجاءت المواقف الخطابية التي تبنتها سلطة رام الله تجاه هبة باب العامود، كما العادة على قاعدة سياساتها ومواقفها التقليدية القاضية بتخفيض التصعيد ومنع تحول الهبّة إلى انتفاضة. وجاء موقف سلطة غزة أفضل نسبياً، ولكن على قاعدة الالتزام بالتهدئة مع الاحتلال لعدم ذهاب الأوضاع السيئة أصلاً في غزة إلى الأسوأ، مع الانتباه إلى إطلاق قذائف هاون، لا صواريخ بأمديتها المختلفة، على المستوطنات المحيطة بغزة، وليس من حركة حماس التي انفتحت على الجهود المصرية والدولية للتهدئة. وكانت سلطة غزة محرجةً طبعاً، نظراً إلى سقفها السياسي المرتفع، وحاولت استغلال الأمر قدر الإمكان في سياق حملتها الانتخابية لرفع أسهمها، والقول إنّها لم تتخلَّ عن خيار المقاومة.
المقدسيون وحدهم في الميدان عزّل إلّا من روحهم الجهادية العالية، وإرادتهم وإصرارهم على عدم الخضوع للاحتلال
في الدلالات، نحن بالتأكيد أمام انتصار واضح لخيار المقاومة الشعبية السلمية، المكفول للشعب الفلسطيني بالمواثيق الدولية، والذي يتفهمه العالم، ويحرج إسرائيل ويمنعها من استخدام الحد الأقصى من القوة ضد المتظاهرين العزّل. لذلك، اضطرت للتراجع ورفع السلاسل والحواجز في باب العامود، خشية خروج الأوضاع عن السيطرة وانفجار الواقع الراهن في الضفة وغزة الذي يعمل لصالحها أساساً من دون أن يعني ذلك القطع مع فكرة فرض الوقائع على الأرض كلما سنحت الفرصة. وفي الدلالات أيضاً، نحن أمام تصويت فعلي للمقدسيين بالأقدام والحناجر، لا الأيادي فقط، وتأكيد الهوية الفلسطينية العربية للمدينة، ورفض الخضوع لإرادة الاحتلال، وبالتالي إمكانية تكرار ذلك يوم الانتخابات رغماً عنه، غير أنّ السلطة الفلسطينية تبدو مصرّةً للأسف على صمّ الآذان، وعلى عدم التقاط أو فهم الرسالة.
في الأخير، وباختصار، أكّدت هبّة باب العامود دلالات معركة البوابات الإلكترونية قبل أربعة أعوام، حيث المقدسيون وحدهم في الميدان عزّل إلّا من روحهم الجهادية العالية، وإرادتهم وإصرارهم على عدم الخضوع للاحتلال ومشاريعه. لكن، ونتيجة واقع “أوسلو” والانقسام والعجز عن الوحدة، عجزت القيادة، بل القيادات الفلسطينية، عن نجدتهم جدّياً، حتى مع تبنّيهم النظري فكرة المقاومة الشعبية السلمية. وفى كل الأحوال، أثبتت الهبّة، بما لا يدع مجالاً للشكّ، إمكانية إجراء الانتخابات في القدس، وخوض المعركة لتعزيز هويتها، وعدم الخضوع لمشيئة الاحتلال في المدينة، وفلسطين عموماً.
ماجد العزام
العربي الجديد