إيران والصين: من التعاون إلی الشراکة الاستراتيجية

إيران والصين: من التعاون إلی الشراکة الاستراتيجية

عند زيارة الرئيس شی جین بينغ طهران، عام 2016، طُرحت للمرة الأولی فکرة وضع العلاقات الصينية-الإيرانية علی سکة برنامج بعيد المدى يُسعف القطاعات المختلفة للاقتصاد والصناعات المدنية والعسکرية لدی الدولتين في جدولة الرقي بالعلاقات بينهما. لم يلق الطرح الصيني القبول المُسرع الذي توقعه رئيسها، إلا أنه أنتج حراکًا تطلبت ترجمته وثيقةً موقعةً خمس سنوات من الدبلوماسية والأخذ والرد بين الدولتين. وإن کان الرئيس الصيني، ذو الرؤی الإيجابية تجاه إيران قد بدأ المسار، فإن إيران المستهدفة بعقوبات “الضغط الأقصی” الأميرکية والباحثة عن سُبُل الالتفاف عليها رکزت منذ عام 2019 وبعد خفض التزامات الاتفاق النووي علی التحرك بجدية أکبر تجاه الصين. ويُفهم من صياغة نص الوثيقة من قبل إيران -ثم إدخال بعض التعديلات المقترحة صينيًّا عليه- توصل الدوائر الاستراتيجية الإيرانية إلی ضرورة تطوير العلاقة مع الصين کقوة صاعدة. فما أبعاد وثيقة التعاون وأسباب توقيعها في هذه المرحلة؟ نحاول في هذه الورقة الوقوف علی أهداف الطرفين والجزئيات المنشورة من وثيقة التعاون الموقعة، کما سنمرُّ علی الانتقادات التي وُجِّهت لها وأسباب المؤيدين والمعارضين في ذلك النقاش. وفي النهاية، نعيد الترکيز علی الجانب الاستراتيجي للأهداف الإيرانية قبل أن نختم بخلاصة.

وثيقة تعاون للرقي بالعلاقة
وبتوقيع “برنامج التعاون الشامل الصيني-الإيراني” وهي خطة عمل أي اتفاقية إطار، أصبحت العلاقة الإيرانية بشريکها التجاري الأول ذات إطار يحدد مسار العلاقة ويرسم المسار للرقي بها إلی شراکة استراتيجية. طُرحت فکرة صياغة خطة عمل للتعاون بين البلدين عند زيارة الرئيس الصيني إلی إيران، في يناير/كانون الثاني 2016، وذلك في بيان صدر عن رئيسي البلدين. وتطلب الأمر مفاوضات وزيارات عالية المستوى استمرت حتی بداية 2021 لتهيئة النص والاتفاق علی بنوده وتذليل الخلافات حول بعضها وتوقيعه بالتالي؛ وهو ما جرى نهاية مارس/آذار 2021 عند زيارة وزير الخارجية الصيني طهران.

وتهدف وثيقة التعاون الشامل إلی “تهيئة الأرضية المناسبة لتوسيع العلاقات في أبعادها المختلفة” في إطار برنامج طويل الأمد (25 عامًا) بناءً علی الاحترام المتبادل والمصالح المشترکة علی المستويات الثنائية والإقليمية والدولية، حسب الملخص الصادر عن وزارة الخارجية الإيرانية(1). تتضمن الوثيقة ثلاثة محاور، هي: سياسية-استراتيجية، واقتصادية، وثقافية، تهدف في تفاصيلها، وحسب المُعلن، إلی الرقي بالتعاون في المجالات ذات الاهتمام المشترك والمذکورة بأبعادها العامة. وقد أدت الشکوك المثارة حول فحوى الوثيقة غير المعلن من قبل معارضي الاتفاق إلی تضمين ملخص وزارة الخارجية الإيرانية محورًا تحت عنوان “ما لا يتضمنه برنامج التعاون الشامل الإيراني-الصيني” وأتی علی ذکر بعض الشائعات والادعاءات المذکورة في الإعلام ونفيها کوجود التزامات إيرانية محددة في الوثيقة، أو تضمُّن بعض موادها برامج معادية لأطراف ثالثة، أو أنها تتضمن أي عقدٍ محدد، أو أن تکون إيران قد خوَّلت الصين جزءًا من سيادتها علی أجزاء من أراضيها أو أن تکون قد تنازلت للصين عن إدارة واستخدام أي منطقة من أراضيها(2).

وتتوقف مدی فاعلية وثيقة التعاون الشامل في تطوير العلاقة بين البلدين علی الاتفاقيات التي سيجري التعاقد عليها في المجالات المذکورة فيها. ورغم ترکيز الوثيقة المنشورة علی أبعاد مختلفة إلا أن الاستثمار المشترك في مجالي، البنی التحتية للمواصلات وقطاع الطاقة الإيراني، يبدو محورًا رئيسيًّا في الوثيقة. وينطبق الاستثمار في البنی التحتية للمواصلات الإيرانية مع خطة الصين “الاتجاه غربًا” عبر البرِّ وتأتي في إطار مبادرة “حزام واحد، طریق واحد”، کما أنها تنسجم وأولويات إيران التنموية. أما الاستثمار في قطاع الطاقة الإيراني فهو المجال الذي سيحظی، حسب المتفق عليه، بحصة الأسد من الاستثمارات بقيمة تصل إلی 400 مليار دولار(3)، وهما المجالان اللذان تجتمع عليهما مصلحة الدولتين في المرحلة الراهنة(4). وثمة مجالات أخری يجري تسليط الضوء عليها فيما نُشر من الوثيقة أهمها التعاون الأمني والدفاعي، دون تفاصيل تُذکر. وهذه الأبعاد بالتحديد تقلق الدول الغربية وأعداء إيران الغربيين.

ویبدو من الوثيقة والنقاشات المثارة حولها جدية الطرفين في الرقي بالعلاقات بإطار يتسع ليشمل مجالات قَلَّ التعاون حولها رغم استمرار الترکيز علی البُعد الاقتصادي کمحور رئيسي. وعبر توقيع الوثيقة، يُبدي الجانب الصيني التزامه باستمرار التعاون مع إيران بغضِّ النظر عن مسار العلاقات الإيرانية-الأميرکية ومصير الاتفاق النووي وهو ما يتضمن إحداث مسارات مالية واقتصادية موازية إن استمرت العقوبات المفروضة علی إيران. وعلی الجانب الآخر، يُظهر الإيرانيون استعدادهم للتعاون طويل الأمد مع الصين؛ وفي ذلك رسالة طمأنة تقول: إن حل الخلاف مع الغرب لا يعني الابتعاد عن الصين وترجيح الشرکات والأطراف الغربية علی نظيراتها الصينية في السوق الإيرانية. وقد اختار الجانبان اسم “الشراکة الاستراتيجية” لإظهار الجدية في الالتزامات بعيدة المدی.

أهداف وأبعاد الاتفاق
تبحث الصين عن شرکاء في مختلف مناطق العالم، ويتضح من السياسة الصينية في الشرق الأوسط رغبة بيجين في النأي بالنفس عن الصراعات الإقليمية مع توسيع العلاقات مع أطرافها المختلفة. تهتم الصين بإيران والشرق الأوسط لأسباب عدة، علی رأسها: استيراد الطاقة وربط الصين بريًّا بالبحر الأبيض وأوروبا وکذلك إفريقيا؛ وهو ما زادت أهميته نتيجة زيادة الضغط الأميرکي علی مواصلات الصين البحرية في السنوات الماضية. أما اهتمامها بإيران فبالإضافة للسببين السالفين، يرتبط بواقع استقلال إيران السياسي والاستراتيجي عن المنظومتين، العالمية والإقليمية، للولايات المتحدة والغرب بشکل عام. فرغم محاولاتها المستمرة لتنويع علاقاتها شرق الأوسطية، يعلم ساسة الصين أن الأطراف المستقلة عن الإرادة الاستراتيجية الأميرکية في المنطقة محدودة العدد. لذلك، يوضح اختيار إيران للرقي بالعلاقة معها إلی “شراکة استراتيجية” تأطيرًا بعيد المدی لرؤية الصين لإمکانية بناء تحالف مستقبلي مع إيران أمام المنافسين، إلی جانب استثمار کل من الجانبين قدرات الآخر اقتصاديًّا ومواصلاتيًّا وتقنيًّا وأمنيًّا.

إيرانيًّا، وبعد خوض طهران جولة غير مسبوقة من التقارب مع القوى العالمية من البوابة النووية وتوقيعها الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1، اتضح لساستها سقف التقارب مع الدول الغربية، بل وبرزت حدود التعاون الاقتصادي والتقني -المنصوص عليه في الاتفاق النووي- مع المجموعة الغربية. لذلك، عاد النقاش القديم حول “الاتجاه شرقًا” إلی الواجهة من باب موازنة الضغوط الأميرکية-الغربية تحت سياسة الضغط الأقصی، وکان المقترح الصيني ما زال علی الطاولة، فبادرت طهران إلی صياغة وثيقة التعاون الشامل التي جرى توقيع مسودتها النهائية -ولم تُنشر بشکل کامل- في مارس/آذار 2021. ويمکن تلخيص الأهداف والمصالح الإيرانية من اتفاقية الإطار في البنود التالية:
– الموازنة دوليًّا: تعرضت إيران لضغوط جمَّة طيلة العقود الأربع الماضية نتيجة العلاقة العدائية بينها وبين واشنطن. وکانت -ولا تزال- تحاول أن تبني إطارًا أوسع لمواجهة تلك الضغوط وإسقاطاتها الإقليمية. فعلی المستوی الإقليمي، تجتمع إيران والدول والحرکات المناکفة لحضور الولايات المتحدة في حلف “محور المقاومة” وتوازن بذلك أعداءها في الشرق الأوسط. ولکن طالما اتسم المستوى الدولي بانعدام التوازن بالنسبة لإيران مع عداء أميرکي مستمر لسياسة إيران الإقليمية أو ديمومة حياة نظامها في الداخل. مع توقيع وثيقة التعاون، تقترب إيران من قوة موازنة للدور الأميرکي في المنطقة وإزاء إيران بشکل محدد. يُشجع إيران في هذا الاتجاه دأبها تنويع علاقاتها الدولية، من جهة، وتجربة التعاون الإقليمي الناجحة مع روسيا في الأعوام القليلة الماضية، من جهة أخری.
– مواجهة الضغط الاقتصادي: وإذ يُعتبر الضغط الاقتصادي أداة واشنطن المفضَّلة أمام إيران منذ عقود، فإن استخدام تلك الأداة وصل إلی ذروته في حقبة الرئيس ترامب وأتی بصعوبات اقتصادية ومالية جمة علی إيران. تفتح وثيقة التعاون للشريك الصيني بابًا يؤسس لمرحلة من الشراکة يتراجع فيها مفعول العقوبات الأميرکية، أو هکذا تأمل طهران. ويبدو أثر استمرار الصين في العمل الاقتصادي -المعلن وغير المعلن- مع إيران تحت الضغط الأقصی في دفع الأخيرة باتجاه توقيع وثيقة التعاون في هذه المرحلة. ففي ظل انعدام الثقة مع واشنطن والدول الأوروبية، أبدت الصين أنها أهل لثقة طهران وتلقت الرد الإيراني علی مقترح الرئيس، شي جين بينغ، نتيجة ذلك.
– إعادة توجيه السياسة الخارجية: في الإطار الأوسع وعلی المستوى الاستراتيجي، يُظهر الاتجاه نحو الصين ترجيحًا لرؤية علی حساب أخرى -ترجح الاتجاه غربًا- في نقاشات السياسة الخارجية في إيران. فطالما رکزت مجموعة کبيرة من الدوائر الاستراتيجية علی ضرورة حل الخلافات بين إيران والغرب وقد تُوِّج مسعی تلك المجموعة بتوقيع الاتفاق النووي، عام 2015. إلا أن مآلات الاتفاق وتنصُّل الولايات المتحدة من التزاماتها أضعف تلك الرؤية وزاد من قوة الدفع تجاه الشرق في السياسة الخارجية الإيرانية. بذلك، يمکن اعتبار وثيقة التعاون الشامل خطوة أولی في طريق بناء الشراکة الاستراتيجية مع الصين تضاهي في أهميتها وحجمها الاتفاق النووي، أي تُعادل من المنظور الاستراتيجي الخطوة الأولی في تطبيع العلاقة مع الولايات المتحدة.

بتوقيع وثيقة التعاون، أظهر الجانبان رؤيتهما الآخر شريکًا استراتيجيًّا مستقبليًّا يجب العمل لتوثيق العلاقات معه. ويعوِّل الجانبان، کما يبدو، علی وضع وثيقة التعاون اللبنات الرئيسية للشراکة المرجوة علی المستوی الاستراتيجي في نظام عالمي يتطور وفي شرق أوسط بات أقل ترحيبًا بالدور والحضور الأميرکيين. إلا أن ما سيُبنی بناءً علی هذه الوثيقة من اتفاقيات في مجالات اقتصادية وأمنية وعسکرية، وهو المرجح أن يبدأ في الأشهر المقبلة ويتطور في السنوات الآتية، سيُظهر مدی إمکانية ترجمة الإمکانيات المذکورة في الإطار إلی الواقع.

بين معارض وموافق
ومن رکام النقاشات بعد هدوئها ومن محاور الاستدلالات المطروحة من قبل کلا الجانبين، يمکن الوقوف علی أهمية الوثيقة وأثرها علی المستويات المختلفة. وقد أدت فکرة الشراکة الاستراتيجية مع الصين منذ ستة أعوام إلی بروز تيارين في الداخل الإيراني وفي خارجها: أحدهما متخوف منتقد للوثيقة يُبدي قلقه من إسقاطاتها علی الداخل والمنطقة بل وحتی علی العالم والآخر متحمس مشجع لتوقيعها يرى فيها ضمانًا أمام الضغوط الغربية وموازنة واشنطن بشکل محدد وحلفائها في المنطقة. ورغم أن النقاش في الداخل الإيراني ازداد حدَّة بعد توقيع الوثيقة ووصل لحد اتهام الأطراف المختلفة لبعضها بالعمالة لهذه الجهة أو تلك، إلا أن الکثير مما أُثير حول الموضوع لا يرتبط بواقع الوثيقة وکونها إطارًا لتوسيع العلاقات وأهم من ذلك أنها غير حصرية ويمکن لإيران تأطير نمو علاقاتها بدول أخری بوثائق مشابهة -کما هي الحال بالنسبة للصين السبَّاقة في توقيع وثائق الشراکة هذه.

أما علی المستوى الإقليمي، فقد ظهر أعداء إيران ومنافسوها في الإقليم علی رأس الدول القلقة من إسقاطات الاتفاق علی أمنها وأمن المنطقة، بينما أظهر حلفاء إيران وأصدقاؤها سرورهم بتوقيع الاتفاق واعتبروه نموذجًا يُحتذی به لتنويع العلاقات الدولية وتقليص آثار الضغط الناجم عن الأحادية الأميرکية عليها. ودوليًّا، اتضح قلق الولايات المتحدة والأطراف الغربية وظهر الرئیس الأميرکي بلهجة صريحة علی الشاشات ليتکلم عن قلقه منذ سنوات من التقارب الإيراني-الصيني(5).

إنها مرحلة جديدة طال انتظارها حسب البعض وتعجلت طهران في دخولها حسب البعض الآخر. يرى مؤيدو وثيقة التعاون الشامل في الداخل الإيراني -وهم الأغلبية علی ما يبدو- أن توقيعها يعزز علاقات إيران بأهم قوة عالمية صاعدة علی مستوی النظام الدولي ويأتي بمصالح اقتصادية هائلة للبلاد، ناهيك عن تعزيز موقف إيران التفاوضي أمام الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في محاولاتهم ضخ الروح في الاتفاق النووي لعام 2015. بينما يرى منتقدوها أن من شأن الوثيقة إضعاف استقلال البلاد بإطلاق يد الصين فيها اقتصاديًّا وأمنيًّا وعسکريًّا، کما أن من شأنها تعقيد المفاوضات مع الأطراف الغربية إذ قد تحدُّ من رغبة تلك الأطراف في إلغاء العقوبات؛ إذ ينتقد هؤلاء توقيع الوثيقة من منظور ترجيح طهران العمل مع الصين علی حل الخلافات مع الدول الغربية(6).

يرد مؤيدو الوثيقة بأنها ليست إلا إطارًا مبنيًّا علی الربح المشترك(7) لا تمنح أية ميزة حصرية للطرف الصيني ولا تُضعف استقلال البلاد بأي التزام من شأنه إطلاق يد الصين في أي من المجالات المتفق عليها إذ لا يوجد شيء محدد جری الاتفاق عليه حتی الآن غير الإطار العام من جهة ولم تلتزم طهران بأي من أجزاء الإطار ببند قد يُقيد يدها في التعامل علی قدم المساواة مع الصين مستقبلًا من جهة أخرى (8). کما يرى هؤلاء أن من شأن الأطراف الغربية أن تقوم بتوقيع اتفاقيات مشابهة إيران؛ وهو ما يجب أن يدفعها للتسريع بالعودة للاتفاق النووي. وأمام هذه الردود يتمسك منتقدو الوثيقة بسريتها دليلًا علی ضررها المحتمل للمصلحة القومية الإيرانية واستقلال البلاد(9). کما يرکز المنتقدون علی أنه لم يجرِ التوقيع علی الاتفاق بين إيران والصين من قبل البرلمان الإيراني وذلك حسب الدستور وبعد وقوف نواب الشعب علی تفاصيل المسودة. يرد مؤيدو وثيقة التعاون بأن الوثيقة هي خطة عمل لا اتفاقية دولية بحاجة لتأييد مجلس النواب(10). ولم تُقنع إجابة الناطق باسم الحکومة بأن السرية قد تکون مطلبًا صينيًّا(11) المنتقدين کما لم تقلص تخوفَهم حججُ مؤيدي الوثيقة بأن سريتها ترتبط بضرورة عدم الکشف عن تفاصيل العلاقات وأبعادها تحت الضغط الأقصی الذي قد يستهدفها بالتالي.

إقليميًّا، يُستشف من القلق البادي لدى منافسي إيران وأعدائها انبعاثه من “التهديد” المتمثل بتثبيت الموازنة الراهنة في المنطقة جرَّاء الاتفاق الإيراني-الصيني، وهي موازنة تصب لصالح إيران وحلفائها، حسب رؤيتهم. ورغم الخطاب الإيراني الداعي لتوسيع التفاهم الإقليمي حول القضايا الخلافية، ورغم تنوع العلاقات الصينية التي تربطها باقتصادات شرق أوسطية عدة، يری هؤلاء أن الشراکة الاستراتيجية الإيرانية مع الصين بمقدورها الحد من وطأة الضغط الأميرکي علی إيران وإطلاق يد إيران في المنطقة بشکل أکبر من ذي قبل. ولا تُسعف إيران أو الصين محاولات الحد من المخاوف إذ التقاليد الاستراتيجية الدارجة في المنطقة مهووسة بالأبعاد الأمنية لأي تطور علی مستوی وثيقة التعاون الصيني-الإيراني.
وفي السياق الدولي، تُبدي واشنطن القلق لسببين رئيسيين قد تضاف لها أخری أقل أهمية: الأول: أن الاتفاق يعطي إيران بابًا واسعًا للتعاون الدولي أمام باب الغرب الموصد بالضغط الأقصی وبأسباب حضارية أعمق؛ وهو ما يُرجح عدم تراجع إيران عن مواقفها في الملفات الخلافية الثلاث: الاتفاق النووي، وسياسة إيران الإقليمية، وبرنامجها للصواريخ البالستية. أما الثاني فله علاقة بالتنافس العالمي بين واشنطن وبيجين. فمن المقلق أن ترى الولايات المتحدة أکبر تهديد أمام “قيادتها العالمية” يقترب من أکبر تحدي أمام “مصالحها شرق الأوسطية” ويقومان ببناء شراکة استراتيجية تهدف بشکل أو بآخر إلی إضعاف السياسة الأميرکية إزاءهما ودورَيْ واشنطن، الدولي والإقليمي. کما يجب عدم ترك البُعد الاقتصادي خارج الحسابات الغربية تجاه وثيقة التعاون. فالواضح أن الأطراف الغربية تنظر إلی المشاريع الاقتصادية الصينية في إيران بعين المنافس الذي لا يستطيع التحرك حاليًّا علی الأقل نتيجة تمسکه بالضغط الأقصی ومحاولته اقتطاع تراجعات من إيران قبل إلغاء عقوباته.

حسابات إيران الاستراتيجية
نمت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين إيران والصين من مليار دولار إلی 51 مليار دولار علی مدى ثلاثة عقود. ومن الواضح أن الزيادة المطردة للترابط الاقتصادي شکلت دافعًا لتأطير العلاقة وتوسيع مجالاتها بخطة عمل. إلا أن التطور الکبير يجب أن لا يُحشر في تلك الزاوية التحليلية المرکِّزة علی الاقتصاد فقط. فإن کان الأمر لا يُشکِّل استثناءً في علاقات الصين العالمية، فإنها المرة الأولی التي تدخل إيران فيها إطارًا استراتيجيًّا لتطوير العلاقات مع قوة عالمية؛ ولذلك إسقاطات داخلية وإقليمية ودولية.

علی المستوى الداخلی، يجتمع الکثير من نخب إيران الأکاديمية والسياسية علی إيجابية الوثيقة. فطالما انتُقدت سياسة إيران الخارجية من باب ضعفها في بناء أو دخول تحالفات دولية. ويُعتبر الاتفاق مع الصين تحرکًا جديًّا في کسر حاجز التعاقد والمضي تجاه التحالف مع القوى العالمية. وفي الإطار السياسي، تتوازن التوجهات التحالفية إزاء الشرق والغرب. فطالما رجَّحت تيارات سياسية حلَّ الخلافات مع الدول الغربية والولايات المتحدة بشکل محدد کخطوة في سبيل حل القضايا العالقة إقليميًّا وإعادة تکامل الاقتصاد الإيراني بالعالمي. وکان التنظير الموازي “التوجه شرقًا” في إطار الخطاب المعادي للغرب سياسيًّا وموزانته نظريًّا بالتقارب مع منافسيه العالميين وهو -حسب تلك القراءة- يزيد من حيز المناورة الإيراني بين القوی العالمية. بذلك، وإلی جانب الموازنة الدولية، تتوازن الرؤى الاستراتيجية بين المتجهين غربًا -في إطار الاتفاق النووي ومحاولات إحيائه- والمتجهين شرقًا -في إطار وثيقة التعاون مع الصين والتعاون الإقليمي مع روسيا-. بذلك، أتی توقيع الوثيقة إلی جانب المحادثات النووية للموازنة بين توجهات السياسة الخارجية الإيرانية في الداخل.

علی المستوى الإقليمي، أثقل افتقار المنطقة للتوازن السياسي والدولي -المنبعث من اصطفاف واشنطن إلی جانب منافسي وأعداء إيران الإقليميين- السياسة الإقليمية الإيرانية بأعباء لم تکن لتوجد لو کان ثمة اتجاه أکثر توازنًا علی المستوی الدولي في المنطقة. تُبدي الصين جنوحًا للتوازن بدل الاصطفاف وذلك عبر ترکيزها علی تنمية علاقاتها مع کل أطراف الصراعات الإقليمية ومحاولتها الالتفاف علی تلك الصراعات والحد منها عبر توسيع دائرة عملها المرکِّزة علی بناء بنی تحتية تخدم مشروعها الضخم “حزام واحد، طريق واحد”. وبکل تقدير، يرجح ساسة إيران واستراتيجيوها مضاعفات التوازن الدولي إقليميًّا علی إسقاطات الأحادية الغربية فيه. بذلك، يُصبح التقارب مع الصين جزءًا من إعادة التوازن الإقليمي، وإذ تُشارك إيران في تدشين هذه المرحلة فهي تتوقع ألا يترهل التوازن الدولي في المنطقة ويأتي عليها کما کانت الحال في العقود الأربع الماضية.

دوليًّا، لا يشغل حديثٌ کواقع انتقال القوة عالميًّا منظِّري العلاقات الدولية في السنوات الأخيرة. وثمة بُعدان مهمان في ذلک الحديث: الأول: صعود القوى المنافسة للولايات المتحدة وعلی رأسها الصين، والثاني: تراجع نظام القطب الأوحد الذي حدد معالم النظام العالمي في الفترة بعد الحرب الباردة. وقد عانت إيران، لتمسکها باستقلالها، تحت ضغط القطب الأوحد وحاولت توضيف علاقاتها بالأقطاب المنافسة له للحد من تأثير تلك الضغوط. إلا أن المرحلة الجديدة توحي بوصول التنافس إلی حدودٍ يمکن استثمارها من قبل لاعبين کإيران لموازنة الأقطاب العالمية أمام بعضهم البعض أولًا وللمناورة وزيادة المکاسب ثانيًا دون أن تدخل إيران في قطب علی حساب آخر أو أن تتراجع عن أجزاء من سيادتها کما کان دارجًا في تحالفات الحرب الباردة. فبينما تواصل إيران محاولاتها إحياء الاتفاق النووي بکافة الوسائل المتاحة، توقِّع من جانب آخر وثيقة التعاون الشامل مع الصين. إنها من هذا المنظور، خطوة للرقي بدور إيران الإقليمي بل والعالمي في المرحلة الجديدة عبر تکثيف العمل مع الأقطاب الأصلية في المرحلة الانتقالية الراهنة. بذلك، تزيد إيران بتوقيع وثيقة التعاون مع الصين من ثقلها الدولي(12).

خلاصة
بتوقيع وثيقة التعاون الشامل، أظهرت کل من إيران والصين التزامًا غير مسبوق بتطوير علاقاتهما الثنائية ومنع الأطراف الثالثة -منها الولايات المتحدة وعقوباتها- من التأثير سلبًا علی تلک العلاقات. وإذ يُشکِّك البعض بجدوی تلك الوثيقة في حال استمرار العقوبات الأميرکية، يری مؤيدو الوثيقة في إيران أن توقيع الصين يعني التزامها بإحداث آليات مالية موازية للعمل التجاري والاقتصادي وغيره مع إيران حال استمرار العقوبات. وأظهرت الضجة المثارة بعد توقيع وثيقة التعاون الإيراني-الصيني الأبعاد التي يُنظر من خلالها إلی أي تقارب إيراني-صيني علی کافة المستويات الداخلية والإقليمية والدولية. ولکل مؤيد ومعارض حججه التي ترتبط بأحد أبعاد مصالح إيران وأمنها القومي. وإلی جانب أهداف اقتصادية ومالية، يُمکن اعتبار الموازنة دوليًّا وإقليميًّا بل وحتی داخليًّا -بين توجهات السياسة الخارجية الرئيسية- البُعد الاستراتيجي الأغلب لدی طهران في توقيع الوثيقة. کما يُبدي توقيع الصين رؤيتها إيران شريکًا استراتيجيًّا؛ وهو مرتبط بواقع استقلال الأخيرة من الإطار الاستراتيجي الأميرکي في الشرق الأوسط وخارجه. وإذ يُشير الجانبان إلی بدء مرحلة جديدة في العلاقة الثنائية، فإن مخرجات الوثيقة ومدی فاعليتها مرتبطان بالاتفاقيات التي سيجري التعاقد عليها في الأشهر والسنوات المقبلة في إطار وثيقة التعاون؛ فهل نحن مقبلون علی حلف بدأ بتوقيع الوثيقة؟ کل ذلك مرتبط بمدی جدية الطرفين ومستوی قبولهما کلفة المضي في تطوير العلاقات.

حسين أحمديان

مركز الجزيرة للدراسات