تستمر تداعيات تسريب المقابلة المسجلة مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، وبالفعل فقد صب التسريب الزيت على نار الصراع بين أركان النظام وتفاقم احتدام النزاع الداخلي في موازاة محادثات فيينا النووية وعشية الانتخابات الرئاسية في الثامن عشر من يونيو القادم.
وإذا كانت صناعة القرار في طهران معقدة وواضحة المعالم في آن معا بالنسبة إلى المتابعين، فقد أسهم ظريف في كشف خفايا لعب فيلق القدس دور “الدولة العميقة” وحجم الدور الروسي ضمن الصراع الدولي حول إيران، مما يبيّن وصول الانقسامات والأزمات داخل النظام إلى مستويات غير مسبوقة، وسيتوقف الأمر على خلاصات المساومة حول العودة للاتفاق النووي والتي ستؤثر على الاتجاه في الانتخابات الرئاسية. وعندها ربما يكون ظريف مفاجأة الترشيحات في اللحظة الأخيرة (خاصة مع تضعضع التيار الإصلاحي) أو يأخذ تقاعده في الولايات المتحدة الأميركية حيث عاش طويلا.
بعيدا عن التركيز على مستقبل الثنائي روحاني – ظريف في التركيبة الإيرانية، نلاحظ انهيار الوفاق أو الإجماع داخل النظام حيال القضايا المركزية والمتصلة بالأمن القومي، وهذا ما حدا بظريف نفسه للطلب من المرشد علي خامنئي عدم الضغط على المفاوضين في فيينا، وقيام وزارته بالتحذير من انعكاس الانقسام الداخلي على قوة الموقف الإيراني.
بالنسبة إلى محيط المرشد والمحافظين المتشددين، تمثل الأدهى في قيام محمد جواد ظريف بمهاجمة روسيا ويأتي الكشف عن ذلك في لحظة احتدام التوتر بين بايدن وبوتين
ومما لا شك فيه أن الخشية من إمساك الحرس الثوري الإيراني بمفاصل الدولة زاد من التطاحن بين الأجنحة، وأتت تسريبات ظريف لتكشف مدى “الهيمنة العسكرية” (أو بالأحرى هيمنة الدولة العميقة من خلال فيلق القدس الجناح الخارجي للحرس الثوري الإيراني) على القرارات المصيرية، ولَم تنجح محاولة احتواء آثار عاصفة تسريبات ظريف مع قرار روحاني بإقالة مستشاره حسام الدين آشنا وجعله كبش الفداء، إذ أن المتشددين اتهموا فريق الرئيس بانتهاك الخطوط الحمراء للنظام من خلال “سارق الملفات الصوتية الموجود بينهم”. ومن الواضح أن مسؤولية التسريب يتقاذفها فريق المتشددين المحافظين وجماعة الحرس من جهة وفريق روحاني – ظريف من جهة أخرى. ويصل الصراع إلى حد الاتهام بالخيانة وخدمة الأجندة الخارجية. ويبرهن هذا الشرخ على حالة الاضطراب والأزمة التي يعيشها النظام في تحديد خياراته والتي لا تحجب الأزمة الاجتماعية الحادة ومسلسل الاحتجاجات منذ نهاية 2017.
من ناحية التسلسل الزمني جرى تسجيل مقابلة ظريف في مارس الماضي في إطار أرشيف تأريخ النشاط الرئاسي والدبلوماسي، وكان من المفترض أن تبث بعد رحيل الحكومة. ونظرا إلى كشفها جوانب خفية داخلية وخارجية، لا يمكن فصلها عن وصول الصراع الداخلي للذروة مع التوجه لإحكام السيطرة الأيديولوجية – العسكرية والعلاقات مع روسيا والصين على حساب دعاة الانفتاح على الغرب من الطبقة الوسطى وأنصار “اللعبة الديمقراطية”. والأرجح أنه لهذا السبب قام البعض من مكتب روحاني بتسريب المقابلة بقصد التحريض على التفاوض مع الولايات المتحدة، مع علمهم أن ذلك غير ممكن من دون قرار المرشد وغطائه. وإذا أراد أصحاب التسريب لفت أنظار وتوجيه تحذيرات عن مستقبل الوضع الإيراني بعد الانتخابات الرئاسية إذ أن وصول رئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي أو الجنرال حسين دهقان، يمكن أن ينقل النزعة العسكرية من طابعها المستتر تحت جناح توازنات النظام إلى منحها “الشرعية الشعبية” بالإضافة إلى شرعية الولي الفقيه. أما التحذير الآخر الكامن وراء التسريب فيتعلق بدور روسيا الاتحادية ونفوذ موسكو في صنع قرار القوة الخارجية للحرس الثوري (فيلق القدس). وأبرز الدروس المستقاة من الشريط المسرب إنهاء افتراض مشاركة الرئيس المنتخب وفريقه في اتخاذ القرارات حيث يعود كل شيء، عمليا ونظريا، إلى المرشد الأعلى والقائد الأعلى للقوات المسلحة. ونظرا إلى إمكانية تأثير موسكو في اختبار خليفة المرشد خامنئي من خلال نفوذها وتمكنها داخل فيلق القدس والمؤسسات الإيرانية، وفي هذا الصدد يعتبر أحد الدبلوماسيين الغربيين السابقين في إيران أن طهران تشهد نزاعا خفيا بين لوبي روسي مكون من البعض في الحرس الثوري وسياسيين (مثل الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد)، ولوبي قريب لواشنطن يقوده محمد جواد ظريف بالذات. أما الصين والقوى الأوروبية فلا تمتلك نفس رافعات النفوذ على الساحة الإيرانية.
بالنسبة إلى محيط المرشد والمحافظين المتشددين، تمثل الأدهى في قيام محمد جواد ظريف بمهاجمة روسيا ويأتي الكشف عن ذلك في لحظة احتدام التوتر بين بايدن وبوتين، وقد سبق لظريف أن انتقد في عدة مناسبات فيلق القدس، فرع الحرس المسؤول عن عمليات خارج الحدود الإقليمية، متهما قائده السابق قاسم سليماني بالإضرار بالجهود السياسية لوزارته، لاسيما أثناء وبعد التوقيع في العام 2015 الاتفاق على ملف طهران. وقال ظريف في سياق المقابلة “أستطيع أن أقول بجرأة إنني ساعدت المجال العسكري باستخدام الدبلوماسية أكثر مما خدم المجال العسكري للدبلوماسية”.
بعيدا عن التركيز على مستقبل الثنائي روحاني – ظريف في التركيبة الإيرانية، نلاحظ انهيار الوفاق أو الإجماع داخل النظام حيال القضايا المركزية والمتصلة بالأمن القومي
من خلال تصريحات ظريف نكتشف معطيات جديدة عن اتخاذ القرارات في الحروب السورية، إذ أن الرواية السائدة كانت طلب إيران للتدخل الروسي الكثيف بعد زيارة قاسم سليماني إلى موسكو، نفهم من ظريف أن الرئيس بوتين هو الذي “أرغم طهران على إرسال قوات برية إلى سوريا” (في هذا المجال هناك شك بوجود تشجيع إسرائيلي للتدخل الروسي الواسع وتسليم أميركي بذلك). وفي نفس المنحى كان من اللافت تأكيد ظريف على أن روسيا عارضت “خطة العمل الشاملة المشتركة” وعملت بشكل وثيق مع فيلق القدس على تقويض الاتفاق النووي، على الرغم من أنها ساعدت في التفاوض على وضعه. وإذا صحّت رواية ظريف يمكن القول إن القيصر الجديد عمل على منع أوباما من تحقيق رهانه في بلورة شراكة مع إيران.
سيستمر الجدل حول الشريط المسرّب الذي نستنتج من خلال كلام حسين شريعتمداري المقرّب من المرشد على صحة ما ورد فيه، ويبيّن ذلك احتدام الصراع على السلطة بين السياسيين المدنيين والعسكريين تحت عباءة المرشد، في موازاة تصدع المشهد السياسي إزاء استحقاقات مصيرية حول مستقبل النظام وإيران والمنطقة
د.خطار أبو دياب
العرب