يستطيع المراقب أن يجد أسبابا كثيرة للعداوة، ولاستمرار التوتّر السياسيّ، ولشبه القطيعة الدبلوماسية، بين نظامي الحكم في مصر وتركيا.
حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا هو وريث تراث الاضطهاد الذي تعرّضت له التيارات السياسية الإسلامية على يد الحكم العلمانيّ المتشدّد الذي أسّسه مصطفى كمال (أتاتورك) عام 1923، ولمسار محاولة وقف التطوّر الديمقراطي في البلاد، الذي سارت عليه الانقلابات العسكرية المتتالية، الذي شهد الحكم التركيّ ورئيسه الحاليّ رجب طيب اردوغان محاولة الإطاحة به عام 2016.
في المقابل، تمثّل المنظومة المصرية الحاكمة، بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، التي انقلبت عام 2013 على المسار الديمقراطي الناشئ بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، وعلى الرئيس المنتخب محمد مرسي، الذي تجمع حركته السياسية، «الإخوان المسلمون» صلات قربى ووشائج سياسية مع «العدالة والتنمية» التركي، وما كان ممكنا، بالتالي، لقياديي الحزب التركيّ الحاكم ألا ينظروا إلى الحركة العسكرية التي أطاحت بمرسي نظرتهم للانقلابات التركيّة.
لا يُستبعد أيضا أن مخططي انقلاب 2016 التركيّ الفاشل قد استلهموا حركة نظرائهم في مصر، كما لا يُمكن ألا يكون الأتراك، على اختلاف تياراتهم، قد فكّروا بالتأثيرات السياسية لهذه المقارنة، أو، على الأقل، بالتداعيات الممكنة لاصطدام رؤيتين سياسيتين وضعهما التاريخ في موقع التعارض والتنافر والخصومة الأيديولوجية، إما من باب التعاطف التركيّ مع الإسلاميين الذين قتل المئات منهم في فض اعتصامي ساحتي رابعة العدوية والنهضة، أو من باب مناهضة العسكر للجماعة المصرية والحزب التركي.
تؤكد «المشاورات الاستكشافية» الجارية حاليّا التي يجريها وفد تركي في العاصمة المصرية، وهو الحدث الأول من نوعه منذ ما يقرب من عشر سنوات، مع ذلك، المبدأ السياسيّ الشهير، أن هناك مصالح دائمة وليس هناك سياسات دائمة، وأن السياسات تتغيّر حين بتغيّر عناصرها، فما هي العناصر التي تغيّرت ودفعت إلى محاولة أنقرة استكشاف خطّ المصالح مجددا مع القاهرة؟
على المستوى الدوليّ، يمكن اعتبار انتخاب الرئيس الأمريكي جو بايدن، أحد العوامل الكبيرة المؤثرة بالنسبة للطرفين اللذين فقدا مساحة مناورة كان يؤمنها وجود الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث كان السيسي يتمتع بـ«حظوة» ملحوظة لدى الأخير، كما وجد اردوغان طريقة مناسبة للتعامل مع ترامب منعت رفع منسوب التوتّر بين البلدين.
على المستوى الإقليمي يبدو الطرفان مرهقين سياسيا من تداعيات ملفّات عدة متوازية، فعلى صعيد الملف الليبي شهدنا فقدان الجنرال خليفة حفتر، المحسوب على مصر والإمارات، زخمه وسطوته تحت تأثير التدخّل العسكري التركيّ، وفي المقابل فقد أحسّت أنقرة بالضغط اليونانيّ، المدعوم أوروبيا، والذي أثمر حلفا بحريا مع الإمارات وإسرائيل وقبرص ومصر.
يمكن احتساب مجموعة من التطوّرات الإقليمية الأخرى التي لعبت دورها، ومنها وقف الحصار المصري ـ السعودي ـ الإماراتي ـ البحريني ضد قطر، وعودة الأمريكيين والأوروبيين للتفاوض مع إيران على إعادة الاتفاق النووي، وإعلان الرياض، على لسان ولي العهد محمد بن سلمان رغبة مستجدة في التفاوض مع طهران، وكذلك حاجة متزايدة لإقفال الملف اليمني الملتهب.
من المنطقيّ، والحال هذه، أن معظم القوى السياسية في المنطقة، بما فيها نظاما الحكم في تركيا ومصر، باتت تعيد حساباتها وترتّب أوراقها لاستيعاب التغيّرات المقبلة، بتفكيك الخلافات القديمة والبحث عن اصطفافات جديدة، وعليه فإن التقدم في «المباحثات الاستكشافية» بين أنقرة والقاهرة، يعتمد على قدرة الإدارتين الحاكمتين على استشراف هذه التغيّرات ورؤية المصالح المشتركة الممكنة.
سيسعى الطرفان، إذا أرادا السير في هذا المسار إلى حبس أشباح الخصومات الأيديولوجية والتاريخية في قمقم… إلى أن يفضّ ختمها حدث كبير!
القدس العربي