كنت من المقتنعين عندما دعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس لانتخابات أنه بهذه الانتخابات سيشعل شمعة في ظلام فلسطيني دامس. كان شعوري أنه سيفتح الباب للشعب الفلسطيني لتجديد حركته الوطنية من خلال برامج جديدة ووجوه مختلفة. وبنفس الوقت كانت الانتخابات ستفتح الباب لبروز قيادات جديدة من بين الشباب الفلسطيني. هذه الانتخابات كانت تحمل بدرجة محددة الوعد بإصلاح الوضع الفلسطيني، وفتح الباب لنشوء قوى جديدة أكثر قدرة على مواجهة الإحتلال الإسرائيلي وسلوكياته الظالمة. كما أن الانتخابات كانت خير تمهيد للم شمل فتح وحماس ومناطق غزة والضفة الغربية. لقد وجدت شخصيا في الجدل الفلسطيني بين فتح وحماس، ثم ضمن حركة فتح وبين البرغوثي والقدوة والشارع والقوى الشبابية في المجتمع جدلا صحيا ومفيدا لكسر الجمود الرتيب في الوضع الراهن الذي يخسر الفلسطينيين من خلاله المزيد من الأراضي والحقوق والتأثير.
ويذكر الوضع الفلسطيني الراهن بما آلت اليه أوضاع الشعب الفلسطيني بعد نكبة عام 1948. حالة الفراغ في تلك المرحلة الشاقة أدت للفراغ الكبير والإنتظار. و عندما ندقق بالوضع على الأرض نكتشف بأن الشعب الفلسطيني يخسر المزيد من أراضيه للمشروع الصهيوني، كما وتزداد عليه الضغوط لترك بلاده والهجرة منها. هناك كماشة اليوم تقبض على روح الحركة الفلسطينية وذلك من حيث حصار غزة من كل الجهات وحصار مناطق الضفة الغربية من كل جهة، ثم حصار القدس وشعبها. الحصار القائم اليوم يفرض على الفلسطينيين تبعية اقتصادية، وبطالة كبيرة، ومعيشة قاسية، ومخاسر في الأرض والمكان والحقوق يومية.
لكن من جهة اخرى هناك مقاومة مستمرة، فهبة القدس في أواخر نيسان/ إبريل 2021 والاشتباكات المستمرة مع المتظاهرين تأكيد على حجم روح المقاومة، وحجم شعور الشعب الفلسطيني بأن الوضع الراهن بكل أبعاده لا يمكن أن يستمر. في الواقع الفلسطيني يوجد صراع يزداد احتداما بين تيار إصلاحي آمن بإمكانية أن تؤدي الانتخابات لإصلاحات جادة، وبين تيار أكثر ثورية يتفاعل ضمن الشارع الفلسطيني، هذا التيار أكثر استعدادا للسير نحو آفاق أكثر تجديدا بما في ذلك تصعيد المقاومة بحيث تؤثر على الحسابات السياسية في مناطق السلطة الفلسطينية.
الوضع الفلسطيني جاهز لإطلاق طاقاته ضمن حراك شعبي متجدد، وهو جاهز لتجدبد حركته الشعبية وللعودة للشعب والإحتكام إليه
إن الغاء الانتخابات الفلسطينية بمبررات ضعيفة كالقول بأن إسرائيل لم تسمح بانتخابات في القدس، رهن قرار الانتخابات الفلسطينية بالقرارات الإسرائيلية. لقد وجه هذا الإلغاء ضربة قاسية للتيار الفلسطيني الإصلاحي. لكن بنفس الوقت إن إلغاء الانتخابات عنى أن تيار المقاومة والمواجهة الشعبية ضد أسس الابارتهايد والاحتلال أخذ دفعة كبيرة. إن تأجيل الانتخابات، قدم إشارة واضحة إلى مدى عجز السلطة ومدى ضعف إنتاجيتها في التعامل مع الوضع الصعب الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني. لكن الالغاء أكد بنفس الوقت على أن السلطة الفلسطينية لن تستطيع السير في طريق الإصلاح السياسي.
وبسبب تأجيل الانتخابات تبين أن مخاوف السلطة الفلسطينية من الانتخابات أكبر من مخاوفها من الاحتلال. هذا انطباع آمل أن تثبت الأيام عكسه. فالسلطة أكثر تركيزا على بقائها بالشكل الراهن، وبالطبع هي أقل اهتماما باعادة تحريك الوضع الفلسطيني على أسس تحررية. بل تخشى السلطة الفلسطينية إن سارت في مسار تحرري ستعاني من قرار إسرائيلي بحلها. لقد تبنت السلطة نفسها، وتحولت لسلطة من أجل السلطة، بل نتج عن تشكليها مع الوقت أنها تحولت لنظام عربي آخر من الأنظمة الكثيرة التي يعج بها الوطن العربي.
السلطة في المنطقة العربية مشروع واضح للدولة الفاشلة أو للبقاء في السلطة مهما كانت الانجازات محدودة والنتائج سلبية. وهذا ما آلت اليه أحوال الوضع الفلسطيني في الضفة الغربية. لكن هذا لا يعني أن حماس افضل حالا، ربما هي أفضل حالا بدرجات محددة، لكنها أيضا أصبحت جزءا من مأزق السلطة والنظام السياسي الفلسطيني التقليدي. فحماس هي الأخرى تواجه طريقا مسدودا، فإن أشعلت حربا دمرت غزة وإن سكتت عن الانتهاكات الإسرائيلية سيزداد واقع العجز. الوضع الفلسطيني جاهز لإطلاق طاقاته ضمن حراك شعبي متجدد، وهو جاهز لتجديد حركته الشعبية وللعودة للشعب والإحتكام إليه. الحالة الشعبية المقاومة كامنة في الوضع الفلسطيني، وإن نجحت في التعبير الصاخب عن نفسها ستقلب معادلات الإحتلال والظلم. لقد جاء تأجيل الانتخابات كضربة واضحة لمشاريع التغير والاصلاح، لكنها فتحت، بدون قصد، الباب لتغير كبير في المزاج الشعبي الفلسطيني وذلك لصالح مواجهة أكثر جذرية مع الإحتلال وجميع تعبيراته.
د.شفيق ناظم الغبرا
القدس العربي