تشهد منطقة الشرق الأوسط تغيرا سياسيا صامتا في الآونة الأخيرة. فالسياسة التي كانت متعبة ومرهقة بالنسبة إلى جميع البلدان في السنوات القليلة الماضية، يتم استبدالها من جديد بِسياسة براغماتية. وتراقب دول شرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود والشرق الأوسط عن كثب العلاقات في ما بينها، وتتخذ قرارات جديدة، بناء على التوازنات المتغيرة. والظاهر أن هذا الأمر ينبئ بحدوث تغييرات جديدة في سياسة المنطقة.
يبدو أن الفراغ الجيوسياسي الناجم عن انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، سيستمر في فترة بايدن أيضا، ما يزيد من اهتمام القوى العالمية مثل الصين وروسيا في المنطقة، حيث تحاول بكين حماية شبكاتها التجارية بشكل استراتيجي، من خلال الاستثمارات الاقتصادية. في حين تتخذ موسكو خطوات لتحقيق مزيد من التقارب مع الدول العربية بعد إيران. وفي السياق ذاته، يستعد الاتحاد الأوروبي أيضا للتقارب مع تركيا من جديد.
تغير التوازنات والتهديدات الجديدة في المنطقة، جعلت تركيا تشعر بالحاجة إلى اتباع سياسة أكثر براغماتية
وفي الوقت الذي يتعرض فيه المعسكر المناهض لإيران في الشرق الأوسط للضعف، يجبر الوضع الجديد دول الخليج وإسرائيل على تطوير علاقات جديدة. في خضم ذلك، يقود رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وساطة بين السعودية وإيران. ولا شك بأن تخفيف التوترات مع إيران، يبدو سهلا على دول الخليج، أمّا إسرائيل فإنها مضطرة لإيجاد دعم جديد ضد الجانب الإيراني. ومن المتوقع أن تعطي الولايات المتحدة الأولوية للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وحل قضية الميليشيات الشيعية والصواريخ الباليستية مع مرور الوقت. وستكون إسرائيل الدولة الأكثر انزعاجا من هذا الوضع. ويصبح تحسين العلاقات مع تركيا، في هذا السياق، أولوية لكل من الدول الخليجية وإسرائيل. فدول الخليج تشعر بالحاجة إلى فاعلين مثل تركيا وإسرائيل حتى لا تبقى ضعيفة في مواجهة النفوذ الإيراني. ويمكننا هنا الإشارة إلى فشل المساعي الخليجية بقيادة السعودية والإمارات لفرض وضع إقليمي جديد في عهد ترامب. وبينما تبدأ اليونان في التفاوض مع تركيا تحت ضغط من الاتحاد الأوروبي، تسعى إسرائيل إلى تطوير تعاون جديد مع مصر والسعودية ضد أنقرة. هذه الأحداث المهمة وتغير التوازنات والتهديدات الجديدة في المنطقة، جعلت تركيا تشعر بالحاجة إلى اتباع سياسة أكثر براغماتية، تأخذ في الاعتبار مصالحها واحتياجاتها قبل كل شيء. لقد حددت الدبلوماسية التركية خريطة طريق جديدة في ضوء هذه العوامل. وبناء على ذلك، ستتصرف تركيا من الآن فصاعدا «بشكل براغماتي» مع التحلي بالمرونة التي تتطلبها مصالحها، بجانب حفاظها على موقفها «المبدئي» تجاه بعض القضايا مثل الانقلابات العسكرية. وكانت تصريحات وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، خلال مقابلة شاملة مع قناة «خبر تورك» الشهر المنصرم، قد تضمنت رسائل مهمة وإيجابية في هذا الصدد. تحدث الوزير تشاووش أوغلو عن الطابع «المبدئي والبراغماتي» الذي لا يزال قائما في السياسة الخارجية التركية التقليدية، وأشار إلى أهمية اتباع مثل هذه الاستراتيجية في منطقتنا. وكما قال الوزير، فإن تركيا التي تنتهج سياسة متوازنة، قادرة على مواصلة علاقاتها وتعاونها الجيد مع بعض الدول رغم الخلافات القائمة. وأحدث مثال على ذلك، هو دخول العلاقات مع كل من مصر والسعودية إلى مسار التحسن وفقا لهذا النهج.
خلاصة الكلام، ينبغي أن لا نتوقع من الديناميكية الجديدة متعددة الفاعلين والقائمة على قضية معينة بذاتها في الشرق الأوسط، أن تخلق معادلة دائمة خلال وقت قصير. ومن الواضح أيضا أنه ستكون هناك دائما توترات ساخنة في منطقتنا، رغم التركيز على الدبلوماسية بالدرجة الأولى. ومن المؤكد أن أنقرة أحسنت استخدام قوتها الصلبة في مناطق الأزمات، خلال السنوات الخمس الماضية، وهي قادرة على تبني أدوار حاسمة في هذه اللعبة الإقليمية الجديدة. لقد حان الوقت بالنسبة إلى تركيا لانتهاج الدبلوماسية النشيطة والمرنة.
توران قشلاقجي
القدس العربي