كتاب للمناقشة‮:‬ قراءة في نظام هنري كيسنجر العالمي

كتاب للمناقشة‮:‬ قراءة في نظام هنري كيسنجر العالمي

2015-635785300484409916-440
تقدم‮ “‬مكتبة السياسة الدولية‮” ‬في هذا العدد قراءة نقدية ممتعة في كتاب لا تزال عملية ترجمته إلي عدد متزايد من لغات العالم متواصلة،‮ ‬منذ إصداره في سبتمبر‮ ‬2014،‮ ‬وتجاوزت طبعاته بالإنجليزية العشرين حتي نهاية أبريل‮ ‬‭.‬2015  ولا عجب في ذلك، فالكتاب لهنري كيسنجر الذي أسهم في تشكيل الفكر والواقع في آن معا علي مدي عقود طويلة‮. ‬فهو أستاذ مخضرم في العلاقات الدولية في إحدى أعرق جامعات العالم‮ (‬هارفارد‮)‬،‮ ‬وهو أحد أهم وزراء خارجية الولايات المتحدة والعالم،‮ ‬وأكثرهم شهرة في القرن العشرين وحتى اليوم‮.‬

ولأنه جمع بين إنتاج المعرفة والسياسة، والعمل في المطبخ السياسي‮ “‬الحاكم‮” ‬للعالم في فترة دقيقة بين‮ ‬1969‮ ‬و1977،‮ ‬فهو أكثر وزير في العالم نشر كتبا‮. ‬وبخلاف ما يفعله وزراء عاديون لا ينشرون إلا مذكراتهم، فقد أثري د‮. ‬هنري كيسنجر مكتبة العلاقات الدولية بعدد كبير من الكتب التي يتفق أو يختلف علي منهجها، ولكن لا يوجد اختلاف علي أهميتها‮.‬
وفي هذه الكتب كلها، ومنذ أولها الصادر عام‮ ‬1957‮ ‬من واقع أطروحته للدكتوراه، وعلي مدي ما يقرب من ستة عقود، لم يتغير منهج كيسنجر المحافظ،‮ ‬بل المفرط في محافظته‮ ‬Ultra Conservative‮. ‬فهو يؤمن بأن هناك قواعد تحكم العالم لم تتغير منذ معاهدة وستفاليا عام‮ ‬1648،‮ ‬أي منذ نحو أربعة قرون، الأمر الذي يستحيل تخيله بالنسبة إلي أي أكاديمي أو سياسي‮ ‬غير محافظ،‮ ‬حتي إذا لم يكن تفكيره ليبراليا أو تقدميا‮. ‬ولا‮ ‬يزال كتابه المأخوذ من أطروحته للدكتوراه تحت عنوان‮ (‬استعادة العالم‮: ‬مترنيخ وكاستليرج ومشاكل السلام‮ ‬1812‮-‬1822‮) ‬هو أكثر الكتب كلاسيكية في مجال العلاقات الدولية‮. ‬وهو كتاب يقرظ دور سياسيين محافظين عملا بدأب علي مدي عشر سنوات‮ ‬1812‮-‬1822‮ ‬من أجل‮ “‬هندسة‮” ‬نظام للتحالفات الدولية بهدف تحقيق الاستقرار في نهاية الحروب النابليونية، وهما الأمير مترنيخ وزير خارجية النمسا، والكونت كاستليرج‮ ‬Castleragh‮ ‬وزير خارجية بريطانيا‮.‬
ولا‮ ‬يزال نموذج مفاوضات‮ ‬1812‮-‬1822‮ ‬وقطباها النمساوي والإنجليزي في قلب وعقل كيسنجر، إلي حد أن بعض ناقديه يرون أنه ربما حلم بالعيش في ذلك العصر، وتخيل نفسه بينهما‮.‬
ويعد كتاب‮ “‬النظام العالمي‮” ‬الذي يقرؤه لنا الباحث المتميز جمال أبو الحسن تتويجا لمجموعة كتب سيظل لها مكانها المهم في المكتبة العالمية‮. ‬فإلي جانب كتابه التأسيسي عن مترنيخ وكاستليرج، وعمله الضخم عن تجربته في صنع القرار الأمريكي مستشارا للأمن القومي‮ ‬1969‮-‬1973،‮ ‬ثم وزيرا للخارجية‮ ‬1973‮-‬1977،‮ ‬قدم كيسنجر عددا من الكتب البالغة الأهمية‮. ‬وربما يكون هو أكثر من استفادوا من خبرتهم في مطبخ صنع القرار، وربطوا هذه الخبرة بمعرفتهم الأكاديمية، الأمر الذي انعكس في معظم كتبه‮.‬
فالملاحظ أنه علي مدي‮ ‬12‮ ‬عاما بين نشر كتابه الأول، ودخوله البيت الأبيض، لم ينشر إلا كتابا واحدا معروفا لدينا هو‮ “‬الأسلحة النووية والسياسة الخارجية‮”. ‬أما باقي كتبه،‮ ‬فقد تتابعت فور خروجه من‮ “‬مطبخ صنع القرار‮” ‬عام‮ ‬1977،‮ ‬وصولا إلي كتابه عن الظام العالمي الذي نقدم قراءة فيه‮.‬
واللافت في هذه القراءة أن كاتبها يميل إلي المنهج المحافظ في العلاقات الدولية، إن لم يكن هذا هو منهجه بالفعل‮. ‬ومع ذلك، قرأ الكتاب بعقل نقدي واع، رغم أن معظم الأكاديميين والباحثين ذوي المنهج المحافظ‮ “‬يقدسون‮” ‬مؤلفه،‮ ‬ويكتفون بالتعلم ممن يعدونه المعلم الأول في العلاقات الدولية‮. ‬فقد قدم جمال أبو الحسن قراءة نقدية عميقة تدل علي أن بين أصحاب المنهج المحافظ في العلاقات الدولية شبابا واعدين يمكن أن يسهموا في تطوير هذا المنهج في قادم الأيام‮.‬
النظام العالمي من ويستفاليا إلي تويتر
لا يمكن أن ينتج عصرنا الحالي قادة أو رجال دولة بوزن تشرشل، أو برؤية روزفلت، أو بشجاعة ديجول‮. ‬في عصر وسائل الاتصال الاجتماعي،‮ ‬لا مكان لأمثال هؤلاء الذين جمعوا بين الشجاعة والرؤية‮.‬
لماذا يعتقد كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي،‮ ‬مستشار الأمن القومي الأسبق، أن عصرنا لا يمكن أن يفرز هذا الصنف النموذجي من الرجال/القادة؟ يري كيسنجر أن عصر الإنترنت يركز علي الحقائق، لا التصورات،‮ ‬علي المعلومات،‮ ‬لا المعرفة أو الحكمة‮. ‬يقدم آليات‮ ‬غير مسبوقة لحفظ المعلومات، ولكنه لا يساعد علي إدراك دلالتها في سياق تاريخي‮. ‬الأخطر أن هذا العصر، وبسبب الاتصال اللحظي،‮ ‬والشفافية المتزايدة،‮ ‬ووسائط التواصل الاجتماعي، يجعل القادة أسري لإرضاء الجمهور‮. ‬يجعل من الصعب علي الساسة اتخاذ قرارات تتحدي الإجماع الذي يتشكل لحظيا علي الفضاء الإلكتروني،‮ ‬هكذا،‮ ‬يختفي القائد الذي يستطيع اتخاذ قراره بمفرده، وبوحي من قراءته للتاريخ والواقع‮. ‬هكذا،‮ ‬تفقد حرفة السياسة الخارجية وقيادة الدول معناها في عصر تويتر‮.‬
في كتابه‮ “‬النظام العالمي‮”‬، يتشبث كيسنجر بالتاريخ،‮ ‬لأنه يشعر بأن عصر تويتر يستخف به،‮ ‬ويتجاهل دروسه،‮ ‬ويتعالي عليه‮. ‬علي نحو ما، لا يشعر كيسنجر بأنه ينتمي إلي عصرنا الحاضر‮. ‬هو يشعر بذاته وتحققه فعليا في العصر الذي شهد فجر الدبلوماسية الأوروبية منذ القرن السابع عشر‮. ‬إنه عصر المؤتمرات التي تعيد تشكيل الدول،‮ ‬ورسم الحدود،‮ ‬وإرساء القواعد‮. ‬عصر صنعه رجال مثل الكاردينال روشيليو،‮ ‬وبالمرستون،‮ ‬وميترنخ،‮ ‬وبسمارك‮. ‬هؤلاء هم الرجال الذين يشعر كيسنجر‮ -‬في داخله‮- ‬بأنه واحد منهم‮.‬
كيف‮ “‬تهندس‮” ‬نظاما عالميا؟
تتحقق قمة النجاح الدبلوماسي‮ -‬عند كيسنجر‮- ‬عندما تتاح الفرصة لرجال متبصرين مثل هؤلاء لصياغة نظام عالمي‮. ‬النظام العالمي هو تصور كل حضارة أو منطقة عن النموذج الأمثل لتراتبية السلطة وتوزيع القوة في العالم‮. ‬أهم عناصر النظام هو القواعد والقيم التي تحدد السلوك الشرعي والمقبول‮. ‬كيسنجر يشعر قارئه بأنه كان يجلس فعليا مع المبعوثين الأوروبيين وهم يضعون هذه القواعد في ويستفاليا‮ ‬1648،‮ ‬وفيينا‮ ‬‭.‬1815
الفكرة المحورية في كتابه هي أن النظام العالمي،‮ ‬كما نعرفه اليوم،‮ ‬هو وليد هذه التجربة الأوروبية الفريدة‮. ‬انتشار هذا النظام في القرنين التاسع والعشرين‮ -‬عبر الاستعمار‮- ‬ليشمل المعمورة كلها لا يعني أنه يعكس توافقا إنسانيا علي فلسفته‮.‬ فالحقيقة أن العالم شهد أكثر من نظام عبر مراحل التطور التاريخي المختلفة‮. ‬الإقرار بالنظام‮ “‬الويستفالي‮” ‬لا ينبغي أن يؤخذ كمسلمة، إذ إن هناك قوي أساسية في عالم اليوم لم تشارك في صنعه، ولا ترضي بمكانها فيه، وربما تسعي لتعديله‮ (‬الصين مثلا‮).‬ وهناك قوي أخري لا تعرف من الأصل بهذا النظام أو بالفلسفة التي يتأسس عليها‮ (‬الإسلام السياسي،‮ ‬خاصة في تجلياته الجهادية،‮ ‬وآخرها داعش‮).‬
ولكن ما سر عبقرية النظام الويستفالي؟ صلح ويستفاليا هو معاهدة سياسية أنهت حرب الثلاثين عاما التي مزقت أوروبا‮. ‬هذا الصلح وضع نقطة النهاية للحروب الدينية، ولكنه أفرز شيئا جديدا وعبقريا‮: ‬الدولة ذات السيادة‮. ‬أساس التوافق الذي أنتج‮ “‬ويستفاليا‮” ‬هو الإقرار بسيادة الدولة، وبمبدأ عدم جواز التدخل في الشئون الداخلية، وهو المبدأ المؤسس للنظام العالمي المعاصر‮. ‬المنطق الذي يحرك الحروب الدينية هو الصراع الشامل من أجل فرض العقيدة‮. ‬فكرة‮ “‬ويستفاليا‮” -‬في المقابل‮- ‬ترتكز علي عدم جواز التدخل في العقيدة الدينية لشعوب الدول‮  ‬الأخري‮. ‬من رحم هذه الفكرة،‮ ‬ولد مفهوم السيادة، بل وظهرت الدولة الحديثة ذاتها ككيان قانوني مستقل عن الملوك والعائلات الحاكمة‮.‬
صلح‮ “‬ويستفاليا‮” ‬لا يمنع الصراعات والنزاعات،‮ ‬وإنما يحصرها في نطاق معقول،‮ ‬يحددها ويحتويها‮. ‬بدلا من النزاعات الخلاصية المقدسة التي دمرت أوروبا، يتخذ الصراع صورة حروب محدودة من أجل تحقيق المصلحة القومية للدولة‮. ‬في‮ “‬النظام الويستفالي‮”‬،‮ ‬لا توجد فكرة أو عقيدة مهيمنة، وإنما مجموعة من المصالح المتضاربة‮. ‬جوهر النظام هو التعدد،‮ ‬لا المركز الواحد المهيمن‮ (‬كما كان في عهد الإمبراطورية أو السيطرة الكنسية‮). ‬فلسفته تستند إلي أفكار أوروبية جديدة، لا التصور القروسطي القائم علي مركزية الدين‮. ‬هذا النظام يقبل بالدول والمجتمعات كمعطي، كوضع قائم ومستقر، لا كهدف للتغيير‮.‬
الفكرة الأخري المهمة في النظام الويستفالي هي التوازن‮. ‬توازن القوي هو جوهر فلسفة‮ “‬كيسنجر‮” ‬السياسية،‮ ‬ومفتاح فهم أفكاره عن الدبلوماسية العالمية‮. ‬اقتناعه أن النظام الدولي الذي يتأسس علي هذه الفكرة هو الأكثر استقرارا‮. ‬العثور علي نقطة التوازن يمر عبر عمليات معقدة من الأحلاف والأحلاف المضادة‮. ‬لعبت بريطانيا دور‮ “‬ضابط التوازن الأوروبي‮” ‬عبر التحالف باستمرار مع الطرف الأضعف، وبهدف منع سيطرة أي قوة منفردة علي أوروبا‮.‬
علي أن التوازن له مشكلاته ومعضلاته‮. ‬هو نظام يفترض أن الدول‮ -‬باختلاف ثقافاتها وتاريخها‮- ‬تنظر للواقع بصورة متماثلة‮. ‬يفترض كذلك أن الواقع ذاته ثابت لا يتغير‮. ‬لا هذا صحيح ولا ذاك‮. ‬الحقيقة أن التهديد الرئيسي لهذا النظام يكمن في أن موازين القوي بين الدول تخضع لعملية تغيير مستمرة‮. ‬احتواء الدول الصاعدة داخل النظام يصير أكبر تحد يواجه استمراره‮.‬
كيف يكون النظام شرعيا؟
حملت الثورة الفرنسية‮ (‬1789م‮) ‬فكرة تمثل النقيض الكامل لفلسفة‮ “‬ويستفاليا‮”. ‬هذه الثورة سعت إلي‮ “‬إعادة ترتيب العالم‮”‬، ليس علي أساس الدين،‮ ‬كما كان الحال في العصور الوسطي، وإنما انطلاقا من فلسفة التنوير‮. ‬جوهر الثورة الفرنسية هو سيادة الشعب‮. ‬ولكن ما هو الشعب؟ عند كيسنجر، هو كيان‮ ‬غامض تعبر عنه فكرة‮ ‬غامضة أخري هي‮ “‬الإرادة العامة‮”‬، التي يصبح الثوريون حصريا هم المتحدثين باسمها‮. ‬إنها فكرة‮ -‬بحسب كيسنجر‮- ‬أبعد ما تكون عن الديمقراطية وتوازن السلطة، وقد شكلت المحرك لجميع الحركات الشمولية في القرن العشرين‮. ‬هذه الحركات التي استلهمت الثورة الفرنسية أثبتت أن التهديد الأخطر لنظام‮ “‬ويستفاليا‮” ‬يأتي من تغييرات تحدث داخل الدول ذاتها‮.‬
مرة أخري، اجتمعت أوروبا في مواجهة الزخم الثوري الفرنسي‮ -‬كما جسدته حروب نابليون‮- ‬وردت هذا الأخير علي عقبه‮. ‬سعت القوي الأوروبية المنتصرة بعد ذلك لتأسيس نظام سياسي يعد الأكثر كمالا في نظر كيسنجر‮. ‬مؤتمر فيينا‮ (‬1815‮) -‬الذي وضع تسوية ما بعد الحروب النابليونية‮- ‬أنتج قرنا كاملا من السلام بين القوي الكبري‮. ‬كانت تلك الفترة أطول فترة من السلام النسبي تشهدها أوروبا‮. ‬كيسنجر يعزو السر إلي براعة التسوية التي استوعبت المهزوم والمنتصر في نظام توازن دقيق‮. ‬هو يرصد سرا آخر لنجاح التسوية‮: ‬الحفاظ علي الشرعية‮.‬
أي منظومة دولية تنجح فقط إذا مزجت بين عاملين‮: ‬القوة والشرعية‮. ‬القوة تنضبط بالتوازن المستمر‮.‬ أما الشرعية،‮ ‬فتعكس مجموعة من القيم والقواعد المستقرة التي يتأسس عليها النظام‮. ‬في ضوء هذه القيم، يتحدد ما هو مقبول وشرعي، وما هو مرفوض ويتعين مقاومته وردعه‮. ‬أمام التحدي الذي أشعلته الثورة الفرنسية،‮ ‬كان مطلوبا وضع أساس جديد للسلوك بين القوي الأوروبية‮. ‬كان ضروريا الاتفاق علي جملة من القيم والقواعد‮. ‬احتضنت تسوية فيينا النظم الأوروبية القائمة‮ (‬الملكيات المحافظة‮) ‬كأساس للشرعية داخل النظام‮. ‬كانت تلك تسوية محافظة في جوهرها، ولهذا نجد كيسنجر منحازا إليها،‮ ‬ومنبهرا بالرجال الذين صاغوها‮.‬
كيسنجر فيلسوف سياسي،‮ ‬ودبلوماسي محافظ‮. ‬هو يقبل العالم كما هو، لا كما ينبغي أن يكون‮. ‬بالنسبة له، الصراع جزء أصيل في الطبيعة البشرية ذاتها‮. ‬محاولة نفي ذلك أو كبته تحت دعاوي مثالية لا تنتج إلا صراعات أوسع وأشد ضراوة‮. ‬ما يستطيع السياسي‮ -‬وما يجب عليه‮- ‬فعله هو هندسة منظومة تجعل الصراعات محكومة قدر الإمكان،‮ ‬أي ترشيد الصراع،‮ ‬وليس القضاء عليه بالكلية‮. ‬كان هذا بالضبط هو سر إبداع تسوية فيينا‮.‬
كان علي أوروبا أن تعبر في حربين عالميتين مدمرتين لكي تصل إلي نقطة توازن جديدة في‭.‬1945‮ ‬التوازن هذه المرة طرأ عليه عنصر جديد‮. ‬القوة الأساسية التي تضبط التوازن في أوروبا‮ (‬الولايات المتحدة‮) ‬صارت خارجها‮. ‬كيف وصلت الأمور إلي هذه النقطة؟‮.‬
مدينة علي تل أم قوة كبري كغيرها؟
الولايات المتحدة لا تعد فقط القوة الرئيسية في النظام العالمي اليوم، ولكنها أيضا الدولة التي أسهمت بالنصيب الأكبر في صناعة هذا النظام،‮ ‬وتشكيله،‮ ‬والحفاظ عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية‮. ‬ولكنها ليست قوة تقليدية،‮ ‬بل دولة لديها فكرة،‮ ‬وتظن أنها صاحبة رسالة إلهية لتخليص البشرية كلها من نير الطغيان‮. ‬إنها‮ “‬مدينة علي التل‮”‬، عليها واجب مقدس لنشر الحرية ومبادئ الحكومة الذاتية في ربوع الأرض،‮ ‬من خلال توسيع ما أطلق عليه توماس جيفرسون، الرئيس الأمريكي الثالث، ‮”‬امبراطورية الحرية‮”.‬
إنها المعضلة الأبدية في السياسة الخارجية الأمريكية،‮ ‬كما يراها كيسنجر‮. ‬الصراع بين نزعة مثالية ترسم للولايات المتحدة دورا في خلاص العالم كله، ونزعة واقعية تري العالم بتوازناته القائمة،‮ ‬وتعقيداته المتأصلة‮. ‬السياسة الأمريكية هي حصيلة تفاعل مستمر بين هذين الوجهين المتناقضين‮.‬
في البداية، وكأي دولة مستقلة حديثة، نأت الولايات المتحدة بنفسها‮ -‬ولقرن كامل‮- ‬عن سياسات التوازن الأوروبي‮. ‬في عام‮ ‬1890،‮ ‬كان جيشها يحتل مرتبة تالية لبلغاريا‮. ‬ولكن شيئا ما مذهلا كان يحدث بالتدريج طوال القرن التاسع عشر‮. ‬كانت الولايات المتحدة تتحول، وبواقع إمكاناتها الذاتية الهائلة، إلي قوة كبري‮.‬
كان ثيودور روزفلت، الذي تولي الرئاسة في‮ ‬1901،‮ ‬هو أول رئيس أمريكي يدرك مغزي قوة أمريكا ودورها في العالم‮. ‬هذا رجل دولة آخر يعدّه كيسنجر النموذج المثالي لما يجب أن يكون عليه القائد‮. ‬كان روزفلت رجلا محافطا قرأ الخريطة العالمية كما هي عليه، واستشعر أن لأمريكا، بواقع قوتها البازغة،‮ ‬وأمنها في مواجهة الأعداء،‮ ‬وإطلالها علي المحيطين الهادي والأطلنطي، مصالح في هذا العالم، وأن بإمكانها أن تلعب الدور الذي لعبته بريطانيا في القرن التاسع عشر‮. ‬ولكن من أجل القيام بهذا الدور، كان علي الولايات المتحدة أن تكسر عزلتها،‮ ‬وتجرب حظها مع لعبة التوازن الأوروبي‮. ‬كان عليها أن تلعب هذه اللعبة كما هي،‮ ‬وبقواعدها المرسومة، لا بواقع أفكار مثالية،‮ ‬أو دعاوي أخلاقية‮.‬
سعي روزفلت لبناء البحرية الأمريكية، وانغمس في السياسة الدولية، فنال جائزة نوبل عن وساطته في إنهاء الحرب بين روسيا واليابان في‭.‬1905‮ ‬بل إنه تنبه لقوة اليابان البازغة، فعمد إلي إبراز قوة أمريكا وسيادتها في المحيط الهادي،‮ ‬عبر رحلة مسالمة تستعرض إمكانيات الأسطول الأمريكي‮. ‬هو صاحب المقولة الشهيرة‮: “‬تحدث بلين، ولكن لوح بعصا‮ ‬غليظة‮”. ‬كان روزفلت يري أن المجتمعات الليبرالية تستخف‮ -‬بطبيعتها‮- ‬بالنزعة العدائية السائدة في العالم، وكان يمقت‮” ‬تلك النزعة الإنسانية الزائفة التي تري أن الترقي الحضاري يتعين أن ينطوي علي إضعاف لروح القتال، وهو ما سيقود في النهاية لدمار الحضارات المتقدمة علي يد من هم دونها رقيا‮”.‬
علي الجانب الآخر،‮ ‬كان ودرو ويلسون‮ (‬تولي الرئاسة من‮ ‬1913‮ ‬وحتي‮ ‬1921‮) ‬هو النقيض الكامل لكل ما يمثله روزفلت‮. ‬كان يجسد المثالية الأمريكية في أنقي صورها‮. ‬قاد ويلسون الولايات المتحدة لدخول الحرب العالمية الأولي،‮ ‬لا لتعديل توازن القوي، ولكن‮ “‬لجعل العالم مكانا أكثر أمنا لبزوغ‮ ‬الديمقراطية‮”. ‬كان يؤمن بـ‮ “‬الرسالة الإلهية‮” ‬لأمريكا، وتأسست سياسته الخارجية علي نشر المبادئ التي قام عليها النظام الداخلي الأمريكي في العالم كله‮. ‬كانت تلك فكرة طموحا وخطيرة في الوقت ذاته‮.‬
التسوية التي أنهت الحرب العالمية الأولي لم تعد بناء توازن للقوي، كما حدث في فيينا‮ ‬1815،‮ ‬وإنما وضعت نظاما مختلفا كليا‮. ‬في رأي ويلسون‮ (‬الأكاديمي الدخيل علي السياسة‮)‬، مثلت العائلات المالكة والدبلوماسية السرية‮ -‬لا التناقض المتأصل بين مصالح الدول كما يري كيسنجر‮-  ‬السبب وراء إشعال الحرب‮. ‬إذا مورست الدبلوماسية بشفافية،‮ ‬وعرضت الحقائق أمام الناس، وقامت نظم ديمقراطية حقا في العالم كله، فإنه يصبح ممكنا استئصال الصراع من العلاقات الدولية، لأن أغلبية البشر عقلاء،‮ ‬ولن يختاروا الحرب،‮ ‬إن توافرت لهم حرية حقيقية‮.  ‬يتعين إذن استئصال شأفة جميع النظم‮ ‬غير الديمقراطية،  وإقامة نظام دولي جديد يتأسس علي مبادئ الحكم الذاتي،‮ ‬وحق تقرير المصير‮. ‬وهكذا، أعيدت هندسة الواقع الأوروبي والعالمي،‮ ‬ليس علي أساس التوازن، وإنما المبادئ‮.‬
ولكن كيف يتحقق الأمن في‮ ‬غياب توازن القوي؟ كان الحل الذي طرحه الرئيس الأمريكي هو تأسيس نظام عالمي لما يسمي بالأمن الجماعي‮. ‬إنه نظام قائم علي تضافر القوي العالمية لردع الاعتداء، أيا كان مصدره أو هدفه‮. ‬كانت هذه هي الفكرة التي تأسست عليها عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة فيما بعد‮. ‬المعضلة أن هذا النظام يفترض أن الدول تعرف أمنها بالطريقة ذاتها، وأنها تكون مستعدة للتحرك بشكل جماعي في مواجهة أي حالة من حالات الاعتداء‮. ‬تبين فيما بعد أن هذا الافتراض يجافي الواقع‮. ‬الدول‮ -‬في واقع الأمر‮- ‬لا تري خرق السلم العالمي بالطريقة نفسها‮. ‬من الصعب أن تتوافق القوي العالمية علي الحوادث التي تشكل خرقا خطيرا ينبغي ردعه، وتلك التي يمكن التجاوز عنها‮. ‬ولهذا،‮ ‬فإن هذا النظام صار معطلا وعاجزا في مواجهة الأزمات الخطيرة التي هددت السلم الدولي بعد الحرب الأولي، مثل‮ ‬غزو إيطاليا للحبشة في عام‮ ‬1931،‮ ‬أو‮ ‬غزو اليابان لمنشوريا في عام‮ ‬1933،‮ ‬ثم التوسع الألماني فيما بعد‮.‬
برغم فشل النظام الذي بشر به ويلسون في حفظ الأمن العالمي، فإن الويلسونية ذاتها لم تمت‮. ‬جري إحياؤها فيما بعد، سواء في الأمم المتحدة ومبادئها، أو في توجهات السياسة الأمريكية ذاتها‮. ‬لقد اختارت الولايات المتحدة الانغماس في النظام العالمي الذي قامت بتأسيسه،‮ ‬والدفاع عنه في مواجهة قوة توسعية أخري‮ -‬الاتحاد السوفيتي‮- ‬مزجت بين الحماس الأيديولوجي،‮ ‬والنهم الجيوستراتيجي للتوسع المستمر‮. ‬كان الحل الذي قدمته أمريكا هو الاحتواء،‮ ‬لا المواجهة المباشرة‮.‬
الاحتواء ينظر إلي العالم في شموله كرقعة كبري‮. ‬الخسارة في مكان تؤثر في الموقف الاستراتيجي الشامل‮. ‬علي هذا الأساس،‮ ‬وجدت أمريكا نفسها تخوض حروبا في هامش النظام‮: ‬في كوريا،‮ ‬ثم فيتنام‮. ‬يلاحظ كيسنجر أن الولايات المتحدة دخلت خمس حروب من أجل الحفاظ علي النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية‮. ‬انتهت هذه الحروب‮ -‬باستثناء حرب تحرير الكويت‮- ‬إلي نتائج‮ ‬غير حاسمة تراوحت بين التعادل‮ (‬الحرب الكورية‮ ‬1951‮)‬، والانسحاب‮ (‬فيتنام،‮ ‬وأفغانستان،‮ ‬والعراق‮).‬
لا يري كيسنجر أن هذه الحروب كانت عبثية‮. ‬يعدّها ضريبة مقبولة للحفاظ علي النظام الدولي نفسه‮. ‬هو يقتبس من‮ “‬لي كوان يو‮”‬، العقل السياسي الأشهر في آسيا، قوله إن جنوب شرق آسيا كانت لتسقط في قبضة الشيوعية لولا تدخل الولايات المتحدة في فيتنام‮. ‬مع ذلك، يشير كيسنجر إلي أن هذه الحروب جميعا انحرفت عند نقطة معينة عن مسارها، وبالتالي صار مستحيلا إحراز النصر فيها‮. ‬في أفغانستان والعراق، تحولت الحروب‮ -‬التي يقول كيسنجر إنه أيدها علنا بحسبانها الخيار الصحيح‮- ‬إلي مشروعات مستحيلة لإعادة بناء الدول‮. ‬جوهر الاستحالة أن أفغانستان كانت تفتقر إلي أي تراث ديمقراطي،‮ ‬بل إلي معني الدولة ذاته، فتاريخها هو حالة مستمرة من الاحتراب القبلي‮. ‬أما العراق،‮ ‬فلم تكن تربته المشبعة بالطائفية تصلح لأي‮ ‬غرس ديمقراطي، وجيرانه عمدوا إلي إفشال التجربة بكل سبيل‮. ‬باختصار،‮ ‬كانت هذه المهام ضرورية، ولكنها اندفعت إلي آفاق مستحيلة‮.‬
كيسنجر مؤمن بالدور الأمريكي في العالم‮. ‬هو يري أن الريادة تقتضي الانغماس والاشتباك، لا التراجع والتردد‮. ‬وبالتالي، لا يقر سياسة أوباما الانسحابية‮. ‬يراها عارية من أي استراتيجية، وتضعف القيادة الأمريكية‮. ‬بطبيعية الحال، يتوجه نظر كيسنجر إلي المراكز التي تشكل‮ -‬لأسباب مختلفة‮- ‬تهديدا للقيادة الأمريكية،‮ ‬وتحديا لشرعية النظام العالمي الذي تقوده، ولذلك يفرد قسما كبيرا من كتابه لمناقشة المعضلة الصينية، والآسيوية بوجه عام‮.‬
القوي البازغة‮:‬
إن كانت أمريكا تظن أنها استثنائية، فالصين تري نفسها كذلك أيضا‮. ‬هي الأخري عبرت في تجربة فريدة،‮ ‬حتي أقامت قوتها الاقتصادية الكبري في عالم اليوم‮. ‬مفهوم الصين عن النظام العالمي مستمد من خبرتها التاريخية‮. ‬هي كانت لقرون طويلة نظاما عالميا مستقلا بذاته‮. ‬تعاملت مع الدول المحيطة بحسبانها برابرة،‮ ‬يتحدد مستوي حضارتهم بمدي قربهم أو ابتعادهم عن النموذج الصيني‮. ‬قامت تجربتها علي الهيمنة الكاملة علي محيطها، بواقع قوتها الاقتصادية الهائلة،‮ ‬حتي في أوقات ضعفها العسكري‮. ‬حتي منتصف القرن التاسع عشر، كانت وزارة الخارجية في الصين تسمي وزارة الشئون الحدودية‮. ‬كانت مهمتها تنحصر في التعامل مع القبائل الرحالة المحيطة بها‮. ‬إنها تجربة تختلف جوهريا عن خبرة الدول الأوروبية التي تنطلق من تعدد المراكز المتنافسة‮.‬
جوهر التجربة الصينية هو الهيراركية،‮ ‬لا التعددية‮. ‬لذلك،‮ ‬كان طبيعيا أن ترفض طلب المبعوث الإنجليزي الأول،‮ ‬جورج ماكنتري،‮ ‬في نهاية القرن الثامن عشر،‮ ‬بتبادل السفارات والتجارة المفتوحة، ولا تقبل بالانتفاح إلا مكرهة،‮ ‬بعد هزيمتها بصورة حاسمة علي يد بريطانيا في منتصف القرن التالي‮. ‬يلاحظ كيسنجر أن هذه الخبرة تناقض التجربة اليابانية التي أقرت بالخلل الفادح في توازن القوي مع الغرب، فوافقت علي فتح مدنها أمام التبادل التجاري الحر،‮ ‬بعد أن أصابها الذعر لمرأي مدافع الكومودور‮ “‬ماثيو بيري‮” ‬في‭.‬1853‮ ‬اختارت اليابان تحت أسرة الميجي‮ (‬1868‮) ‬طريق التحديث الغربي السريع، فكانت أول دولة تنضم للنظام الدولي من خارج الغرب‮.‬
النظام الآسيوي حصيلة لهذه التجارب التاريخية المختلفة‮. ‬هو يضم مراكز حضارية وثقافية متعددة لا يجمعها شيء سوي الخروج حديثا من أسر الاستعمار الغربي، والشعور بأن العصر الحالي يشهد نهضة الأمم الآسيوية،‮ ‬وعودتها لمكانتها الطبيعية في العالم،‮ ‬بعد فترة انقطاع في القرون الماضية،‮ ‬احتل خلالها الغرب‮ -‬بصورة استثنائية‮- ‬قمة النظام العالمي‮. ‬المعضلة أن ثمة أكثر من دولة تشعر بأنها صاعدة، وأنها تستحق مكانا أفضل في النظام الدولي، وأن العالم عليه التعامل مع هذا الصعود‮. ‬التنافس بين هذه القوي، في‮ ‬غياب دولة تقوم بدور الموازن‮ (‬كما الحال في النظام الويستفالي‮)‬،‮ ‬قد يقود إلي الصراع في المستقبل‮.‬
مراحل صعود القوي هي الأخطر في أي نظام عالمي‮. ‬التوتر بين قوة صاعدة وقوة قائمة يكاد يكون حتميا، ويقود في أغلب الأحيان إلي الصراع‮. ‬تنزع القوة الصاعدة إلي الولوج إلي مناطق نفوذ القوة القائمة‮. ‬هي تخشي من أن الأخيرة ستحاول إجهاض صعودها قبل فوات الأوان، فتتجه إلي الاستباق‮. ‬يري البعض في أمريكا في الصعود الصيني تهديدا أمنيا حتميا لا يختلف كثيرا عن التهديد الذي شكله الاتحاد السوفيتي‮. ‬بكين تنظر للسياسة الأمريكية التي ترفع لواء حقوق الإنسان بحسبانها مؤامرة لتقويض الاستقرار الداخلي للصين، وتتمسك في مواجهة ذلك بمبادئ ويستفاليا بخصوص السيادة،‮ ‬وعدم التدخل في الشئون الداخلية‮.‬
ليس في تجربة الصين التاريخية ما يؤهلها للقيام بدورها الطبيعي في عالم اليوم‮ (‬أن تكون قوة قائدة إلي جانب قوي أخري‮). ‬ليس في التجربة الأمريكية‮ -‬في المقابل‮- ‬خبرة في التعامل مع طرف في مستواها، يكون لها ندا أو شريكا‮. ‬التفاعل‮ -‬صراعا أو تعاونا‮- ‬بين هاتين الدولتين، المحملتين بتجارب وخبرات ورؤي جد مختلفة عن العالم، هو الذي سيحدد مستقبل النظام العالمي‮.‬
وإذا كان التوازن الآسيوي هو المعضلة الكبري أمام تشكيل نظام عالمي جديد، فإنه بالقطع ليس المعضلة الوحيدة‮. ‬آسيا ليست المنطقة الوحيدة التي بزغت فيها تصورات ومنظومات تناقض التصور الويستفالي الغربي عن العالم‮. ‬الشرق الأوسط المعاصر يعج بأيديولوجيات ومشاريع سياسية لإسقاط النظام الإقليمي والعالمي،‮ ‬انطلاقا من رؤي كونية وخلاصية‮. ‬كالعادة،‮ ‬يعود كيسنجر للتاريخ ليري الحاضر في ظلاله الممتدة‮.‬
حرب الثلاثين عاما من جديد
يعيش الشرق الأوسط اليوم حالة شبيهة بالحروب الدينية التي خاضتها أوروبا قبل صلح ويستفاليا‮. ‬جوهر المعضلة أن الحضارة الإسلامية تحمل نظرة مغايرة لنظام ويستفاليا‮. ‬نقطة الانطلاق في التجربة التاريخية الإسلامية لم تكن الدولة، وإنما‮  ‬مفهوم‮ “‬دار الإسلام ودار الحرب‮”‬، وفكرة الجهاد المقدس‮.‬
يعترف كيسنجر بأن تلك الأفكار لا يعتنقها بالضرورة‮ ‬غالبية المسلمين اليوم، ولكنها تظل ذات وزن وتأثير كبيرين في الواقع‮. ‬تعود جذور النظرة الإسلامية إلي النظام الدولي إلي فترة انتشار الإسلام في القرن السابع، وهو حدث تاريخي فريد،‮ ‬ولا مثيل له في تاريخ العلاقات الدولية‮. ‬لم تنظر الإمبراطورية الإسلامية إلي العالم‮ ‬غير المسلم نظرة ندية أو تكافؤ، بل كان في مرتبة أدني‮. ‬تحددت العلاقة مع العالم الخارجي علي أساس فرض الجزية أو الحرب‮. ‬المعاهدات كانت ذات طبيعة مؤقتة، وإلي حين تعديل موازين القوي‮. ‬مبدأ السيادة وعدم التدخل في الشئون الداخلية‮ (‬ركيزة ويستفاليا‮) ‬لا معني له، لأن الولاءات الوطنية انحراف عن الدين، ولأن الحكم القائم في‮ “‬دار الحرب‮” ‬يظل‮ -‬في نظر المسلمين‮- ‬غير شرعي‮.‬
العالم الإسلامي أسس إذن نظاما دوليا قائما بذاته‮. ‬الإمبراطورية العثمانية، التي ظلت لقرون أقوي من أي تحالف للدول الأوروبية، عززت من هذا النظام، ولم تكن تعامل الدول الأوروبية علي قدم المساوة في أية مرحلة‮. ‬وعلي ذلك، فإن الدول العربية التي نشأت من رحم انهيار الإمبراطورية‮ -‬بواقع سايكس‮ – ‬بيكو في‮ ‬1916‮- ‬كانت شيئا جديدا علي تاريخ المنطقة‮. ‬كانت هذه الدول‮ “‬ويستفالية‮” ‬بالاسم فقط، ولكن ظل يعتمل داخلها الصراع بين الفكرة المرتبطة بالإسلام السياسي،‮ ‬والفكرة العلمانية‮.‬
يتتبع كيسنجر التصورات المستمدة من الإسلام السياسي عن النظام العالمي‮. ‬يلاحظ أن نظرة حسن البنا وسيد قطب للنظام الدولي الويستفالي هي، في جوهرها، رافضة له، وراغبة في تقويضه‮. ‬الفرق فقط في درجة الرفض ومرحلية العمل من أجل تغيير هذا النظام‮. ‬يقول إن أفكار البنا عن أستاذية العالم، وأفكار قطب عن الجهاد،‮ ‬لا تعكس خيالا طوباويا، وإنما برامج عمل وجدت من يؤمن بها،‮ ‬ويعمل بحماس من أجل تطبيقها‮.‬
المشروع السلطوي الذي تأسس، بصور مختلفة، في الشرق الأوسط فشل في تحقيق التنمية الاقتصادية‮. ‬سقط هذا المشروع أخيرا أمام موجة عارمة من السخط الشعبي‮. ‬يري كيسنجر في الربيع العربي ظاهرة كشفت تناقضات العالم العربي،‮ ‬دون أن تقدم حلا ناجعا لها‮. ‬يعود لأفكاره التقليدية عن فكرة الثورة ومخاطرها‮. ‬يتوقف أمام الهتاف الأشهر في ثورات الربيع‮: “‬الشعب يريد إسقاط النظام‮”. ‬يتساءل مجددا‮: ‬ما هو الشعب؟،‮ ‬وما هو النظام الذي يراد وضعه محل النظام القديم؟‮. ‬يفتح الباب أمام معضلات كبري أمام السياسة الأمريكية‮: ‬هل ينبغي أن تساند الولايات المتحدة أي وكل انتفاضة شعبية، حتي تلك التي تقع في دول تعد مهمة لاستقرار النظام العالمي؟،‮ ‬هل أي مظاهرات تعد ديمقراطية بالضرورة؟،‮ ‬هل السعودية تظل حليفا للولايات المتحدة فقط إلي أن تندلع فيها مظاهرات؟‮. ‬إنها أسئلة كبيرة تحمل في طياتها اتهاما بفشل السياسة الأمريكية في التعاطي مع ظاهرة الربيع العربي‮.‬
إن النظام الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولي في الشرق الأوسط يتداعي‮. ‬أخطر الظواهر التي تشهدها هذه المنطقة هي انهيار الدولة ذاتها‮. ‬ثمة مناطق لم تعد فيها سلطة مركزية مقبولة كحكم شرعي من جانب أغلبية معتبرة من السكان‮. ‬بديل‮ ‬غياب السلطة هو صراعات القبائل والطوائف، وحروب الجميع ضد الجميع‮. ‬هناك رقع جغرافية تقطنها أعداد كبيرة من السكان خرجت فعليا من النظام الدولي‮. ‬هذه المساحات التي لا تسيطر عليها دول تصير حتما مرتعا للإرهاب، وساحات لصراعات القوي المحيطة‮. ‬الديمقراطية، التي تدعو أمريكا الدول العربية إلي تبنيها، لا تقدم علاجا ناجعا،‮ ‬ما دامت هناك فصائل داخل الدول تعتقد أنها في حالة صراع وجودي من أجل البقاء‮.‬
ثمة دول، في معمعة هذا الصراع الضاري، سوف تفكر كثيرا قبل الاستماع للنصائح الأمريكية،‮ ‬وستسعي لتوسيع هامش حركتها بالاعتماد علي قوي عالمية أخري، بعد أن خبرت تخلي الإدارة الأمريكية عن النظم القائمة،‮ ‬عقب اندلاع ثورات الربيع‮. ‬يري كيسنجر أن مصر قد تتحرك في هذا الطريق، وكذلك السعودية التي تخوض صراع وجود حقيقيا في مواجهة الطموحات الإمبراطورية الإيرانية التي تتسربل برداء الثورة الشيعية المقدسة‮. ‬إن إيران تشكل تهديدا جديا للنظام الويستفالي، إذ إنها لا تزال تنظر لنفسها بحسبانها‮ “‬قضية وهدفا‮”‬، وليس دولة تتعايش جنبا إلي جنب مع دول أخري ذات سيادة واستقلال‮. ‬إن إيران الخمينية لا تعترف بالدولة ككيان شرعي، وإنما كسلاح يمكن اللجوء إليه،‮ ‬وقت الحاجة،‮ ‬من أجل شن الحرب الدينية المقدسة‮.‬
خلاصة‮:‬
هل هذا كتاب في التاريخ؟ ليس بالضبط‮. ‬هل هو كتاب في الدبلوماسية العالمية؟ ليس تماما‮. ‬هل هو سِفر في الفلسفة السياسية؟ ربما‮. ‬الحقيقة أن كتاب كيسنجر هو كل هذه الأمور مجتمعة‮. ‬هو قراءة فلسفية للتاريخ،‮ ‬انطلاقا من فهم للممارسة الدبلوماسية‮. ‬المؤلف يقر في النهاية بأنه كان في صباه يظن في نفسه القدرة علي إدراك كنه التاريخ،‮ ‬ومغزي حركته، ولكنه عرف اليوم‮ (‬92‮ ‬عاما‮) ‬أن التاريخ يمكن استكشافه بصورة مستمرة، لا العثور علي‮ ‬غايته النهائية‮.‬
ما يميز كيسنجر عن أغلب معاصريه، من الأكاديميين والممارسين علي حد سواء، أنه يؤسس طرحه علي فلسفة عميقة،‮ ‬ورؤية للطبيعة البشرية ذاتها‮. ‬هو ينحاز بوضوح إلي تلك النظرة المحافظة للطبيعة الإنسانية بحسبانها تنافسية وصراعية‮. ‬يري أن الفكرة الأوروبية بوضع ضوابط علي هذا التنافس،‮ ‬من خلال توازن القوي،‮ ‬هي قمة الممارسة الدبلوماسية، بل هي عين حرفة السياسة الخارجية ذاتها‮. ‬الوضع المثالي،‮ ‬من وجهة نظره،‮ ‬هو أن يترك لرجال الدولة من ذوي الحكمة والبصيرة المجال لوضع قواعد النظام وصيانته وحمايته‮. ‬الرأي العام والديمقراطية‮ ‬يضعان قيودا تضر في أحيان كثيرة بعمل هؤلاء الرجال‮. ‬المجتمع الديمقراطي ليس لديه ما يكفي من الرؤية والعزيمة لإدراك كنه التفاعلات العالمية،‮ ‬وتحديد المسار‮. ‬الجمهور لا يفهم معني التضحية الآنية من أجل انتصارات علي المدي الطويل‮. ‬لا يفصح كيسنجر عن هذا بوضوح، ولكن تأويل كتابه والفلسفة التي ينطوي عليها قد يوصل لهذا الفهم المحافظ للتاريخ والسياسة العالمية‮.‬
كتاب‮ “‬النظام العالمي‮” ‬هو إنجيل السياسة الواقعية‮. ‬إنها السياسة التي تنطلق مما هو قائم،‮ ‬وتتحرك في هامش محدد في إطاره، لا تتجاوزه أو تتخطاه‮. ‬لا تتبني أفكارا كبري،‮ ‬أو تعتنق قيما إنسانية عليا‮. ‬تتعامل مع الواقع بحسبانه معطي متغيرا‮. ‬لا دليل هاديا لها سوي العبارة الساحرة لبارمستون‮: “‬بريطانيا ليس لها أصدقاء دائمون،‮ ‬أو أعداء دائمون، وإنما مصالح دائمة‮”. ‬تظل أضعف حلقات هذه الرؤية هي الميل اللاشعوري إلي النظر‮  ‬للحاضر بحسبانه مجرد امتداد للماضي علي استقامته‮. ‬الانغماس الكلي في الواقع كما هو يحول دون استكشاف اتجاهات المستقبل‮. ‬يصنع وعيا مستغرقا في أفكار وتصورات مستمدة من التاريخ، ربما يكون تأثيرها في الحاضر محدودا‮.‬
يدرك الدبلوماسي العجوز هذا المعني‮. ‬يقر بأنه لا يستطيع تخيل شكل النظام العالمي،‮ ‬في ظل امتلاك مليار شخص لجهاز لهواتف ذكية توفر من المعلومات والقدرات التحليلية ما يفوق قدرة أجهزة استخباراتية لدول قبل جيل واحد فقط، بل في ظل قدرة فرد واحد‮ -‬خارج سلطة أي دولة‮- ‬علي التسبب في كوارث كبري باستخدام كمبيوتر نقال‮ (‬الإرهاب السايبري‮).‬
رؤية كيسنجر وفلسفته تفيد ولا شك في إدراك كنه المسار الذي أوصلنا إلي اللحظة الحالية من عمر النظام العالمي‮. ‬المستقبل وحده سيكشف إلي أي مدي تصلح هذه الرؤية كبوصلة هادية في لحظة قادمة‮. ‬إنها لحظة‮ ‬غامضة وملتبسة يفتقر خلالها العالم إلي القيمة الأهم علي الإطلاق في نظر كيسنجر‮: ‬النظام‮.‬
المؤلف:هنري كيسنجر
العرض:جمال أبو الحسن