يدور النزاع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، هذه الأيام، على البنية التحتية لشبكة الاتصالات العولمية والتقنيات الرقمية التي أضحت مفتاح السطوة والهيمنة في عصرنا الراهن(1). فلقد احتدمت النزاعات الدولية على فضاء المعلومات السيبراني، وتقنيات أمن المعلومات والاتصالات، مع السعي إلى فرض الهيمنة على بيئته الرقمية. وقد رفعت الولايات المتحدة راية الدفاع عن حقوق خصوصية المستخدم وحمايته من التجسس، جاعلة من ذلك ذريعة للوقوف بوجه التقدم اللافت للشركات الصينية وفي مقدمتها شركة هواوي على صعيد تقنيات وتطبيقات اتصالات الجيل الخامس 5G والذي أوشك أن يخرجها ودول أوروبا من ساحة التنافس بهذا المضمار الحيوي.
امتد النزاع الرقمي بين القوى الكبرى إلى منطقة الشرق الأوسط ودول الخليج العربية ليفاقم من التنازع الجيوسياسي بين بلدان المنطقة، على الملف النووي الإيراني، وحرب اليمن، والصراعات التي يعيشها العراق وسوريا ولبنان هذه الأيام.
بدأت الصين بطرح مشاريع جديدة تستمد أهميتها من تطبيقات الجيل الخامس للاتصالات، مثل طريق الحرير الرقمي، لإقناع الدول المترددة بالالتحاق بركب تقنية شركاتها التي باتت تحت مطرقة العقوبات الأميركية كي تحتوي التوسع الرقمي الصيني، وتمنعه من التمدد داخل مناطق النفوذ الأميركية.
تقنية الجيل الخامس: تفوق ومخاطر
تتضمن الرؤية الأمنية للتهديدات المحتملة عن تقنية اتصالات الجيل الخامس (5G) ثلاثة محاور أساسية يمكن تشكيل مادتها من مقومات الخطاطة (البراديغم أو البنية المعرفية) الاتصالية التي تتميز بها التقنية الجديدة، والتي ترتبط بجملة من العوامل التقنية، أهمها: التصميم، والمرونة في الاستجابة للتهديدات الأمنية بمختلف مستوياتها، والنظم الأمنية المؤتْمَتَة التي تستثمر، وبكثافة، القدرات العالية للذكاء الاصطناعي وتقنياته المستحدثة(2).
ولم تغب التهديدات المصاحبة لاستخدامات تقنيات الجيل الخامس عن مجال اهتمامات الاتحاد الدولي للاتصالات ITU الذي عكفت مجاميعه التقنية والبحثية على سبر موارد التهديدات المصاحبة لهذه التقنية العملاقة والتي أعلنت عنها في سلسلة من دراساتها المنشورة على المستويين، التقني والأكاديمي.
تركَّز قلق الاتحاد الدولي للاتصالات على ثلاثة مصادر جديدة للتهديدات الأمنية المحتملة، والتي جاءت بها تقنية الجيل الخامس 5G، هي(3):
السمة الافتراضية لأداء مكونات الشبكات الاتصالية وحضور مواردها من خلال برمجيات ذكية تستعيض بها عن الكثير من الموارد التي استُخدمت في شبكات الأجيال السابقة.
اعتماد تقنية الجيل الخامس على معدات اتصالات بالغة التنوع، وتمتاز بكونها ذات موثوقية عالية، وبانخفاض زمن انتقال فيضها الاتصالي بشكل ملحوظ.
وجود قلق كبير من فرص إنتاج مكوناتها على نطاق عولمي واسع لا يمكن السيطرة على المعايير الأمنية التي أُخذت بعين الاعتبار عند تصنيعها، أو تلك التي ستصاحب عملية تشغيلها في شبكات الاتصالات التي ستستقر فيها.
لقد تحوَّل أداء تقنية الجيل الخامس للاتصالات من الاعتماد إلى حدٍّ كبير على معدات المعلومات الاتصالات التقليدية وتطبيقاتها باتجاه توظيف بيئات برمجية ذكية تقوم بمهام شبكات الاتصال Software Defined Networking(4)، وبرمجيات من نمط آخر تعنى بمهام المعدات الراديوية(5) Software Defined Radio والتي أضحت بديلًا ذكيًّا يستعاض به عن استخدام أجهزة ومعدات الاتصال التقليدية من خلال المهام التي تمارسها البيئة البرمجية الذكية(6) عوضًا عنها. وتعمل شبكات الجيل الخامس وفق مبدأ تقطيع الشبكات الافتراضي(7) Slicing Virtual Networks وعلى التوازي مع تسخير البيئة الشبكاتية التقليدية والتي ستوفر فرصة ثمينة بتشغيل أكثر من شبكة منطقية (برمجية) بوصفها عملية اتصالية مستقلة عن بقية الشبكات وضمن البيئة الاتصالية الفيزيائية الواحدة (تشغيل أكثر من شبكة اتصالية افتراضية بواسطة المعدات المخصصة لشبكة فيزيائية واحدة). الأمر الذي سيمنح الجهة المشغِّلة فرصة توفير حزم متعددة من الخدمات الاتصالية(8) وبمعماريات اتصالية متعددة، على التوازي ودون التأثير على كفاءة أداء المعدات الفيزيائية الاتصالية(9).
وهذا يعني أن اعتمادنا على الحزم البرمجية في إدارة البيئة الاتصالية في شبكات 5G سيوفر فرصة سانحة للقراصنة السيبرانيين لاختراق هذه البرمجيات والتحكم بتشغيل موارد الشبكة المختلفة، وسيمكِّنهم من التلاعب بمقدَّرات أمن المستخدمين، والأمن الوطني بصورة غير مسبوقة.
من جهة أخرى، فإن التحوُّل الحاصل في الأسس النظرية والتطبيقية الاتصالية قد أسهم في استضافة كمٍّ هائل من المتحسِّسات التي ستقيم في جميع أشكال الأجهزة المنزلية والمكتبية، والأجهزة الاتصالية(10) (التي تستوطن منازلنا ومؤسساتنا) وستحكم عملية التواصل معها بواسطة شبكات الجيل الخامس، وبالخصوص معدات إنترنت الأشياء IoT؛ الأمر الذي وسَّع من مساحة مجال التهديدات المحتملة التي يمكن أن تتسلل إلى البيئة الاتصالية عبر جميع أشكال الأدوات والمعدات الرقمية التي نتعامل معها في حياتنا اليومية أو نتواصل بها مع العالم المحيط بنا بحيث يمكن للقراصنة السيبرانيين أن يتحكموا بتشغيل المعدات الآلية في المنزل وخارجه؛ مما يورث الجهات التي تسهر على الأمن السيبراني قلقًا كبيرًا ويتطلب منهم بذل جهود استثنائية لا يمكن أن تضمن الحماية الأكيدة للكيانات الرقمية التي تتواصل من خلال تقنيات الجيل الخامس 5G.
وهذا يعني أنه إذا كانت التهديدات والهجمات التي مُورست على أدوات اتصالات الجيل الرابع 4G مقتصرة على أدوات الاتصالات فحسب، فإن توسع دائرة الخدمات التي تقدمها شبكات الجيل الخامس 5G والتي ستتوغل بجُلِّ الأدوات المكتبية، والمنزلية، والخدمية والاقتصادية، التي نستخدمها بصورة يومية (على مستوى الأفراد، والشركات، والحكومات) ستشكِّل دائرة واسعة وغير مسبوقة للتهديدات المحتملة، مع وجود أكثر من ثغرة للتوغل في منظوماتنا عبر أدوات صغيرة لا يمكن أن تتوافر لها حماية كافية لدرء التهديدات الواسعة.
وأخيرًا، فإن مسألة موثوقية جهات التوريد لمعدات وأدوات الجيل الخامس باتت تشكِّل قلقًا للولايات المتحدة وحلفائها؛ لأن المالك الأكبر لبراءات اختراع في هذا المجال هو شركة هواوي الصينية(11)، وتأتي بعدها الشركتان الكوريتان، سامسونغ وإل جي للإلكترونيات Samsung & LG Electronics، بينما لا نجد بين أفضل عشر شركات على النطاق العولمي في هذا المجال إلا شركتين تستقران في أوروبا، هما: إريكسون ونوكيا(12)، أما بالولايات المتحدة فهناك شركتان، هما: كوالكوم وإنتل(13)، انظر الشكل (1).
1الشكل (1)- مجالات التهديدات الأمنية التي قد تصاحب استخدامات تقنيات الجيل الخامس 5G(14).
وهذا يعني أن غياب معايير موحدة وموثوقة لتصنيع أدوات الجيل الخامس 5G، وبجميع أشكالها، سيمنح الشركات فرصة اعتماد مواصفات متباينة قد لا تتوافق مع الإجراءات الأمنية المطلوبة لاحتواء التهديدات المحتملة، كما سيوفر أكثر من ثغرة أمام القراصنة السيبرانيين لاختراق أدواتنا بسبب عدم كفاية معايير التصنيع في توفير بيئة آمنة لتشغيل المعدات الجديدة.
طريق الحرير الرقمي
في عام 2013، أطلقت الصين مبادرة الحزام وطريق الحرير(15) التي تضمنت خطة واسعة النطاق لربط أراضيها ببقية بلدان آسيا، والتوسع غربًا نحو القارة الإفريقية، والقارة الأوروبية، من خلال شبكة من مشاريع البنى التحتية للنقل البري والسككي، والمطارات، مع ممرات للنقل والتجارة.
أُعلن عن طريق الحرير الرقمي، للمرة الأولى، في سنة 2015، وذُكر أنه سيُعد القاعدة التي سترتكز إليها مبادرة طريق الحرير والحزام الاقتصادي وأنه سيكون عبارة عن حزام معلومات طريق الحرير، وسيتضمن إنشاء شبكة من الألياف الضوئية عابرة للحدود، مرتبطة بشبكات خطوط الاتصالات، والتي ستسهم في الارتقاء بمستوى الارتباطية الشبكاتية ضمن الفضاء الرقمي العولمي.
وقد اكتسب طريق الحرير الرقمي المزيد من الاهتمام منذ أن طُرح بصورة رسمية عام 2015 في المؤتمر العالمي للإنترنت الذي عُقد في مدينة ووزهان Wuzhen، ثم تم التأكيد عليه ثانية عام 2017 في المنتدى العالمي لطريق الحرير والحزام لكسب دعم وتحالف عالمي لهذا المشروع؛ حيث برز دعم سياسي للمشروع وإقبال لعدة دول على استثمار المكاسب التي تضمنتها هذه المبادرة؛ مما دفع بالرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى التأكيد على ضرورة بيان مدى أهمية هذا المشروع كونه سيعزز الاتصالية الرقمية، والمشاركة في المعلومات، وسيدعم التنمية التي تستند إلى الابتكار، مع تعميق التعاون في مجالات تقنية متعددة، مثل: الاقتصاد الرقمي، والذكاء الاصطناعي، والتقنيات النانوية، واستثمار محتوى البيانات العملاقة، وتوسيع دائرة تطبيقات الحوسبة الكمية، والحوسبة السحابية، وترسيخ حضور المدن الذكية، وتحويل هذه التقنيات الواعدة إلى واقع عولمي يستمد قدراته وإمكانياته من البعد الإحاطي(16) لطريق الحرير الرقمي الذي سيتحول إلى واقع ملموس خلال القرن الحادي والعشرين.
وحثَّ الرئيس الصيني (خلال المنتدى الثاني لطريق الحرير الذي عُقد عام 2019) الدول الواقعة على طريق الحرير على الالتزام بتوجهات الثورة الصناعية الرابعة، التي تستمد قدراتها من الفضاء الرقمي للمعلومات ومعالجاته، وعدم تضييع الفرص العديدة التي تولَّدت عن التقدم المتسارع في مجالات التنمية الشبكاتية بالميادين الرقمية، مع السعي الدؤوب إلى الاستفادة من الآفاق التقنية المستجدة، مع تبني نماذج اقتصادية مبتكرة لترسيخ نجاح طريق الحرير الرقمي الذي ستنعكس فوائده على اقتصادات بلدانهم وشعوبهم.
لم يتجاوز عدد الدول التي وقَّعت مذكرة تفاهم حول مبادرة طريق الحرير الرقمي 16 دولة من مجموع الدول الـ 133 التي وقَّعت مذكرة تفاهم مبادرة طريق الحرير والحزام؛ ذلك لأن نطاق هذا المشروع يتجاوز كثيرًا مجال توقيع الاتفاقيات الثنائية، إلا أن الحكومة الصينية لا تزال تخطِّط لزيادة العدد إلى 167 دولة لترسِّخ نجاح المشروع وتحقق الغايات المرجوة منه(17).
وسيوفر طريق الحرير الرقمي فرصة سانحة للدول الملتحقة به في الاستثمار بميدان التقنيات الرقمية وتطبيقاتها والتي ستتوزع على ثلاثة محاور أساسية، انظر الشكل (2):
2الشكل (2)- فئات وأصناف مشاريع مبادرة طريق الحرير الرقمي(18)
ومما لا شك فيه أن كثيرًا من المشاريع التي تنضوي تحت هذه المحاور، سترتبط بكثير من البنى التحتية للمشاريع التقليدية التي تستوطن مبادرة طريق الحرير والحزام؛ مما سيسهم في توسيع شبكة ارتباطاتها، ويعمِّق التأثير الجيوسياسي المرتبط بها.
لقد التحقت دول الخليج العربية بمبادرة طريق الحرير الرقمي، مثل: الإمارات والسعودية والكويت والبحرين وعُمان، بتوقيع عقود كبيرة مع شركة هواوي خلال عام 2020 في سعيها –أي دول الخليج- لإدخال تقنية الجيل الخامس قبل بقية بلدان المنطقة، بحيث ستصبح هذه الدول مع حلول عام 2025 مركزًا مهمًّا لمستخدمي تقنية 5G على المستوى العولمي، وقد بلغ حجم الاستثمارات في هذا القطاع في منطقة الخليج حوالي 164 مليار دولار سنويًّا في مجال أدوات المعلومات والاتصالات، بالإضافة إلى استثمار مليارات الدولارات في مجال تقنيات الحوسبة السحابية؛ الأمر الذي سينعكس على اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي بشكل ملموس(19).
ويؤمَّل أن تترسخ العلاقات الاقتصادية والتقنية لدول الخليج العربية مع الصين بعد أن توطَّن فيها نماذج الاقتصاد الرقمي الصيني؛ حيث ستصبح البيانات مورد الموارد والجسر الراسخ الذي سيربط الطرفين، مع دعم التحول الخليجي بالانتقال من الاقتصاد الريعي الذي يعتمد على النفط إلى نماذج اقتصادية حديثة، مثل مشروع نيوم NEOM بالمملكة العربية السعودية، والمشاريع الواعدة في دولة قطر، والتحول نحو الأنموذج الذكي في إدارة الدولة كما في دولة الامارات. وستعتمد هذه المشاريع على بنية تحتية متطورة للمعلومات والاتصالات التي ستستمد قدراتها من خدمات تقنية الجيل الخامس، بالإضافة إلى تطوير نقل وإنشاء المشاريع الواعدة لتنمية بلدان الخليج العربية في مجالات الاقتصاد الرقمي، وتقنيات الذكاء الاصطناعي، والتقنيات النانوية، والحوسبة الكمومية (الكوانتية). كما سيمنح هذه البلدان فرصة لتطوير قدرات مواردها البشرية في مجالات تحليل محتوى البيانات العملاقة، والحوسبة السحابية، مع التوسع في إنشاء المدن الذكية.
كذلك، ستمنح مبادرة طريق الحرير الرقمي دول الخليج العربية فرصة كبيرة لتوفير بيئة ملائمة لاحتضان الاستثمار في مشاريع الابتكار وريادة الأعمال، وستصبح منطقة جاذبة للاستثمارات نظرًا لما تمتلكه هذه البلدان من بنية تحتية متماسكة للمعلومات والاتصالات والموقع الاستراتيجي(20).
المسار النظيف: البديل الأميركي
في 29 أبريل/نيسان عام 2020، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية، على لسان وزيرها، مايك بومبيو، عن ضرورة وجود مسار نظيف لفيض الاتصالات على جميع شبكات الجيل الخامس 5G التي تدخل وتغادر المؤسسات الدبلوماسية في الولايات المتحدة. وبعدها ببضعة أسابيع، في 15 مايو/أيار 2020، وضعت وزارة التجارة الأميركية قيودًا صارمة للهيمنة على عمليات الاستيراد من عملاق شركات الاتصالات الصينية هواوي في خطوة أولى على طريق المسار النظيف للتعامل مع تقنيات الجيل الخامس(21).
إن المراجعة المتأنية، وغير المتحيزة، لمبادرة المسار النظيف تفصح عن مبادرة أميركية وطنية صِرْف، تسعى إلى احتواء التهديد الأمني الرقمي الذي سيصاحب النمو الهائل في قدرات شركات الاتصالات الصينية في مجال تقنيات الجيل الخامس، في محاولة لدرء أنشطة التجسس والتهديد المعلوماتي الذي قد تمارسه الصين (على الأمد الطويل) ضد الولايات المتحدة وحلفائها.
ولجعل المبادرة أكثر قبولًا وإخراجها من توجه أحادي في دائرة تنازع الهيمنة بين الولايات المتحدة والصين، فقد أضفى إعلان بومبيو على الصيغة الأحادية التي نادى بها الرئيس السابق، دونالد ترامب، جملة من الأهداف والغايات التي يمكن أن تجعل المشروع أكثر قبولًا بعد توسعة دائرة أهدافه بحيث أضحى مفهوم المسار النظيف ينطوي على مبادرة طويلة الأمد لحماية خصوصية البيانات للدول، وأمنها، وحقوق الإنسان، والتعاون المشترك لبلوغ عالم حرٍّ من القوى الاستبدادية المهيمنة (في إشارة مبطنة إلى الصين). وأكد بومبيو أن المسار النظيف سوف يرتكز على معايير رقمية موثوق بها دوليًّا، وأنها ستشكِّل الأساس المتين لاستراتيجية طويلة الأمد، ولجميع الحكومات العالمية، وستُبنى على تحالفات بين شركاء موثوقين، وفي بيئة يسودها تقدم تقني متسارع، واقتصاديات السوق العولمية المفتوحة(22).
يحتوي الشكل (3) على أهم المضامين التي جاءت بها التوسعة على مبادرة المسار النظيف (والتي جاءت بإعلان بومبيو في 5 أغسطس/آب 2020)، والتي لم تتضمن سوى وعود ذات صلة بأمن المعلومات والاتصالات، وتبنِّي معايير مشتركة، واستخدام تقنيات وتطبيقات رقمية آمنة، تستبطن توجهًا تقوده الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للوقوف بوجه المد التقني الاتصالي الصيني، الذي لم تعد عملية مواجهته أمرًا سهلًا بعد ولادة الجيل الخامس للاتصالات واستمرار هيمنة شركة هواوي وامتلاكها للمفاتيح المعلنة وغير المعلنة لهذه التقنية العملاقة.
3الشكل (3)- أهداف مبادرة المسار النظيف التي دعت إليها وزارة الخارجية الأميركية(23)
دول الخليج وشبكات الجيل الخامس
في أغسطس/آب عام 2016، أنشأت شركة الاتصالات الإماراتية (دو du) بوابة خدمات الجيل الخامس الابتكارية (U5GIG)، التي تألَّفت من تحالف مجموعة من الخبراء الأكاديميين والتقنيين وشركات عولمية، لتجهيز خدمات الجيل الخامس، بهدف سدِّ الفجوة بين الشركات المصنِّعة لأدوات الاتصالات والقطاع الأكاديمي بالإمارات. وقد تحالفت شركة بتلكو للاتصالات البحرينية مع شركة دو الإماراتية في عقد شراكة لتوفير مراكز خدمات اتصالات وبيانات مشتركة. ثم لم تمر سوى مدة قصيرة حتى تحالفت شركتا الاتصال الإماراتية والبحرينية مع شركة عُمان تل العمانية، وشركة أوريدو القطرية، وشركتي زين وإس تي سي السعوديتين على صعيد توفير خدمات الجيل الخامس لمشاريع المدن الذكية. وعلى التوازي، أنشأت الدول الخليجية مجموعة من التحالفات مع الشركات الكبرى للاتصالات، مثل: هواوي وإريكسون ونوكيا لتوفير معدات وخدمات الجيل الخامس لفضاء اتصالات دول الخليج العربية(24).
ورغم وجود دعوة خليجية مشتركة إلى تنويع المصادر في التجهيز لتجاوز مسألة الاحتكار فلقد بقيت اتفاقات الدول الخليجية لغاية عام 2020 راجحة مع هواوي (13 اتفاقية) مقابل (4 اتفاقيات مع نوكيا + 6 اتفاقيات مع إريكسون) من الشركات المجهزة الأميركية والأوروبية.
إضافة إلى ذلك، فإن حضور كبريات شركات الاتصالات الصينية ما زال قائمًا منذ أكثر من عقد، على صعيد تجهيز أجيال الاتصالات السابقة وخدماتها، والمساهمة في مشاريع خدمات المدن الذكية، وترسيخ خدمات التحول نحو مجتمع المعرفة، والتي لم يعد بمقدور دول مجلس التعاون الخليجي التفريط في تطويرها خلال الأفق المنظور.
مستقبل دول الخليج في الصراع الرقمي
مما لا شك فيه، أن دول الخليج العربية، مجتمعة، تسعى إلى التحرك بسرعة لكي تكون من أوليات الدول في المنطقة على صعيد إنشاء وتشغيل شبكات ملائمة وواسعة لتقنية الجيل الخامس 5G. بالمقابل، فإن مبادرة طريق الحرير الرقمي ومشاريعها الواعدة تعد فرصة ثمينة لهذه الدول لتحقيق نهضة رقمية على المستويات الاتصالية، وتفعيل مشاريع المدن الذكية، وتكثيف أنشطة التجارة الإلكترونية التي تصب في توجهاتها نحو تنويع الموارد وتقليل الاعتماد على ريع النفط.
كما أن التقنيات المتقدمة التي تمتلكها الشركات الصينية مع انخفاض كلفة المشاريع، بالمقارنة مع منافسيها، ترسِّخ مكانة شركات الاتصالات الصينية، وفي مقدمتها هواوي، بوصفها الخيار الأمثل لتجهيز جزء كبير من تقنيات الجيل الخامس وخدماته الفريدة. الأمر الذي سيجعل مسألة العلاقة بين دول مجلس التعاون الخليجي وشركة هواوي الصينية، في مجال شبكات الجيل الخامس 5G وفرصة التحاقها بمبادرة طريق الحرير الرقمي، من أكثر المسائل التي ستثير قلق الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي.
ورغم الحملة العنيفة التي شنَّتها إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ضد شركة هواوي، واتهامها بالعمل مع المخابرات الصينية لتسريب المعلومات من الدول التي تستخدم تقنيات الجيل الخامس التي تصنِّعها، إلا أن الحكومة الأميركية لم تقدم أدلة واضحة وقاطعة تؤيد ما ذهبت إليه، أو تبرر الأسلوب العدائي الذي اتبعته مع الشركة مع السعي إلى تغييبها عن ساحة التنافس العولمي.
ويبدو أن الدول الخليجية قد اتخذت قرارًا حاسمًا بهذا الموضوع(25)، شأن بعض الدول الأوروبية(26)، التي لم تنصع لسياسات الولايات المتحدة، وحسمت أمرها بترجيح كفة المنافع المترتبة على استخدام التقنيات المتقدمة التي توفرها شركة هواوي وأسعارها التنافسية، والخدمات المصاحبة لها، بالإضافة إلى العروض السخية التي ستصاحب مشاريع طريق الحرير الرقمي، والتي ستكون أكبر بكثير من المخاطر الأمنية المحتملة عن استخدام هذه الأدوات الاتصالية، والتي يمكن التعامل معها وفق استراتيجية أمنية رشيدة، وعبر سلسلة من الاتفاقيات الأمنية المتبادلة بحيث ترجح كفة التحول إلى تقنية هواوي وطريق الحرير الرقمي، قبالة عوائد الطريق النظيف الذي اقترحته الولايات المتحدة والذي يستبطن حماية أمنها وآلتها الاقتصادية أكثر من حماية الدول التي دعتها إلى الالتحاق معها بحجج تفتقد الموضوعية.
أما بصدد التهديدات الأمنية على صعيد خصوصية المستخدم والأمن الوطني لدول الخليج العربية، فقد أوضحت الحكومة الصينية، وشركات القطاع الخاص، وفي أكثر من لقاء رسمي، تداعيات هذه المسألة والتقليل من المخاوف بصددها، واعتبرتها أمرًا طبيعيًّا إزاء الانتشار الواسع لاستخدامات تقنية المعلومات والاتصالات وتكاثر حضور البيانات العملاقة في حياتنا المعاصرة، وتسلُّل أدوات وتطبيقات إنترنت الأشياء إلى مؤسساتنا ومنازلنا، شيئًا فشيئًا، إلا أن هناك الكثير من تقنيات أمن المعلومات والاتصالات التي تمتلك القدرة على كف ومنع مثل هذه الأنماط من التهديدات، والتي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الآثار المصاحبة للتحولات الرقمية المعاصرة.
بالمقابل، يمكن لدول الخليج العربية انتهاج سبيل دول أخرى استثمرت التقنية الصينية، بمعداتها وبرامجها المتطورة، وكلفتها الاقتصادية المنافسة، عن طريق اقتناء أجزاء محددة من منظومات اتصالات الجيل الخامس 5G من الجانب الصيني، لا تشكِّل الثغرات المحتملة فيها تهديدًا لأمنها السيبراني، وذلك لامتلاكها تقنيات وخبرات أمنية قادرة على احتوائها(27)، أو تبني النهج الذي اعتمدته دول الاتحاد الأوروبي في إنشاء صندوق أدوات أمن الجيل الخامس لدول الخليج العربية(28)، والذي سينهض بمهمة تحديد معايير مشتركة لدول الخليج العربية في التعامل مع الجهات التي ستورِّد أدوات تقنيات الجيل الخامس، وبما يضمن حماية خصوصية المستخدم الخليجي، والأمن الوطني السيبراني بعيدًا عن استغلال الشركات المصنِّعة، سواء كانت شركة هواوي أو غيرها.
حسن مظقر الرزو
مركز الجزيرة للدراسات