يواجه الرئيس فلاديمير بوتين صعوبات في مواجهة موجة العداء التي يكنها الغرب لروسيا منذ عقود طويلة، لكنه يجد في المناسبات الرمزية كما هو الحال مع إحياء الذكرى الـ76 لانتهاء الحرب العالمية الثانية لحظة مستحبة تمثل له فرصة لكي يثبت أنه لا يزال تحت الأضواء وأنه زعيم لا يقل شأنا عن الزعيم جوزيف ستالين.
ولئن كانت معركة ستالينغراد ملحمة الملاحم بالنسبة إلى الروس وأيضا نقطة التحول التي غيّرت معالم الحرب العالمية الثانية، ووضعت بداية النهاية لدحر جيوش ألمانيا النازية التي خسرت فيها وحلفاؤها 1.5 مليون جندي بين قتيل وجريح وأسير، أي ربع تعداد القوات الألمانية المقاتلة على الجبهة الروسية الألمانية، إلا أنها مناسبة للاقتران بالانتصار في الحرب العالمية الثانية ولتكون في نظر بوتين برهانا على أن عداء الغرب لن يكبل طموحات “روسيا العظمى”.
وجعل بوتين انتصار الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية على ألمانيا النازية محور جهود أيديولوجية طيلة سنوات لحشد الروس وراء رؤيته الخاصة بأمّة قوية لا تعتذر عن ماضيها، وقادرة على الوقوف في وجه الغرب في أعقاب الانهيار المُهين للقوة العظمى السوفييتية، وهي رؤية تتعارض مع أعمال القمع الجماعي إبان حقبة ستالين وتاريخ الاحتلال السوفييتي لأوروبا الشرقية بعد الحرب.
وأثناء الاحتفاء بهذه الذكرى الذي يصادف التاسع من مايو كل عام أكد بوتين الأحد، متوجها إلى أكثر من 12 ألف عسكري ببزاتهم الرسمية شاركوا في العرض بالساحة الحمراء المتاخمة للكرملين مع نحو 190 آلية ومنظومة أسلحة من دبابات وصواريخ وغيرها، أن موسكو ستدافع دائما عن مصالحها الجيوسياسية وفي وقت تتزايد فيه الخلافات مع الغرب.
وفي خطاب يستحضر فيه قدرة بلاده قال بوتين إن “روسيا تدافع بلا كلل عن القانون الدولي. في الوقت نفسه سندافع بحزم عن مصالحنا الوطنية ونضمن سلامة شعبنا”. وأضاف أن أفكارا منبثقة عن النازية “أعيدت صياغتها لتتلاءم مع العصر”، منددا بعودة “الخطابات العنصرية والتفوق القومي ومعاداة السامية وكراهية روسيا”.
خلال عشرين عاما في السلطة جعل بوتين الـ9 من مايو لحظة رمزية لسياسة القوة التي يتبعها عبر تمجيد تضحيات السوفييت
ولم يحدد الرئيس الروسي من يستهدف بانتقاداته لكنه لا يكف منذ سنوات عن الحديث عن صعود قوى قومية وأخرى تتبنى الطروحات النازية لدى الجارة أوكرانيا التي ضم منها شبه جزيرة القرم في العام 2014 بعد ثورة مؤيدة للغرب ودعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا، في الوقت الذي تحمّل فيه المواطنون الروس وطأة سنوات من تراجع الدخل بسبب العقوبات الدولية على بلادهم.
ويتهم بوتين بشكل منهجي خصومه الأميركيين والأوروبيين باتباع سياسات معادية لروسيا ويرفض اتهاماتهم لموسكو التي عوقبت مرات عدة بسبب هجمات إلكترونية وقمع المعارضة ودورها في النزاع في أوكرانيا وفضائح تجسس.
ويأتي العرض العسكري هذا العام على خلفية توتر جديد بعد نشر عشرات الآلاف من الجنود الروس في أبريل الماضي على الحدود الأوكرانية، ما أثار مخاوف في وقت ما من هجوم محتمل. وقد أكدت موسكو أن هذه التدريبات كانت ردا على زيادة أنشطة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في أوروبا الشرقية. ورغم بدء عملية انسحاب الجيش الروسي من تلك المنطقة في الـ23 من أبريل الماضي، إلا أن ذلك ليس كافيا حسب كييف والحلف وواشنطن.
ومن أسباب الخلاف الأخرى فرض عقوبات على مسؤولين روس بسبب عملية تسمم تعرض لها المعارض الرئيسي للكرملين أليكسي نافالني في أغسطس 2020، والذي يمضي عقوبة بالسجن منذ بداية العام.
ويعتبر الكثير من المحللين أن هذا العرض السنوي يشكل فرصة ليس لبوتين من أجل إبراز حقيقة العداء الذي يكنه للغرب، بل يبدو فرصة للجيش الروسي لإظهار قوته عبر عرض أحدث معداته بينما جعل الكرملين تعزيز قدراته العسكرية حجر الزاوية في طموحاته الجيوسياسية.
ولطالما تؤكد روسيا أنها طورت ترسانتها العسكرية، وعلى سبيل المثال تطوير أسلحة تفوق سرعة الصوت قادرة على الإفلات من أنظمة الدفاع الصاروخي الأميركية. كما اكتسبت القوات الروسية خبرة قتالية ثمينة في سوريا وجعلت من موسكو مجددا قوة في الشرق الأوسط.
وخلال أكثر من عشرين عاما في السلطة جعل بوتين يوم التاسع من مايو لحظة رمزية لسياسة القوة التي يتبعها من خلال تمجيد تضحيات السوفييت، لكن مع اتهام خصومه الغربيين بإنكار التاريخ عبر السعي إلى التقليل من دور الاتحاد السوفييتي في إلحاق الهزيمة بهتلر.
وفي معركته ضد النازية سجل الاتحاد السوفييتي أكبر خسائر بشرية، ففي 1946 تحدث ستالين عن سبعة ملايين سوفييتي قتلوا خلال “الحرب الوطنية الكبرى” كما كان يسمي النزاع بين الاتحاد السوفييتي والنازيين. وتحدث عن هذه الحصيلة التي جاءت أقل بكثير من الواقع من أجل تغذية عبادة شخصيته وصورته كقائد عسكري لامع.
ولكن بعد موته أعلن عن حصيلة أكبر بثلاثة أضعاف بلغت 20 مليون قتيل، حتى أن خليفته نيكيتا خروتشوف اعتبر عدم أهلية ستالين سببا في هذه الخسائر الهائلة. وأدى فتح الوثائق حول الحرب العالمية الثانية في عهد الزعيم السوفييتي الأخير ميخائيل غورباتشوف إلى مراجعة جديدة أحصت 26.6 مليون قتيل هم 12 مليون جندي و14.6 مليون مدني.
وأسفرت المجاعة خلال حصار مدينة ستالينغراد عن وفاة عدد يصل إلى مليون شخص، بينما أدت معركة ستالينغراد، التي تعتبر إحدى أهم المعارك الكبرى والفاصلة التي شهدتها الحرب العالمية الثانية إلى سقوط أكثر من مليون قتيل في الجانب السوفييتي.
صحيفة العرب