بدأت قوى مدنية في العراق بطرح سيناريو مقاطعة الانتخابات البرلمانية المبكّرة، وذلك تعبيرا عن قناعة متنامية بعدم إمكانية تحقيق التغيير المنشود من خلال صناديق الاقتراع بفعل عدم توفّر البيئة الانتخابية السليمة والآمنة من التزوير وتهديد السلاح المنفلت وتأثيرات المال المتوفّر بكثرة لدى الأحزاب الكبيرة التي تمكّنت على مدى قرابة العقدين من الزمن من الوصول إلى موارد الدولة ونهب الكثير منها.
وتأتي على رأس القوى المهدّدة بمقاطعة الانتخابات المقرّرة للعاشر من أكتوبر القادم، تلك المنبثقة عن الحراك الاحتجاجي غير المسبوق الذي شهدته مناطق وسط وجنوب العراق بدءا من أكتوبر 2019 وكان وراء إسقاط حكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي وإقرار إجراء انتخابات قبل نهاية المدّة النيابية للبرلمان الحالي الذي طعن المحتجّون في شرعيته باعتباره نتاج انتخابات مزوّرة كانت قد أجريت سنة 2018.وأعلن محتجّو محافظة كربلاء التي شهدت الأسبوع الماضي مقتل الناشط إيهاب الوزني في أحدث حلقة في مسلسل اغتيال نشطاء الحراك الاحتجاجي على يد الميليشيات الشيعية، الإثنين في بيان، معارضتهم لإجراء الانتخابات مهدّدين بالعودة إلى الشارع مجدّدا، بينما شكّكت حركة التغيير الكردية المعارضة في جدوى الاستحقاق الانتخابي إذا كان سيرسّخ المعادلة السياسية القائمة.
ورغم تحذير البعض من أنّ انسحاب القوى المطالبة بالتغيير سيفتح المجال أمام القوى ذاتها التي حكمت العراق منذ سنة 2003 والمسؤولة عن أوضاعه الكارثية للعودة إلى الحكم مجدّدا، إلاّ أن أنصار مقاطعة الانتخابات يجادلون بأنّ المقاطعة أفضل من المشاركة وإضفاء الشرعية على مناسبة انتخابية قد تصبّ في النهاية في مصلحة الأحزاب الكبيرة وما يرتبط بها من فصائل مسلّحة عبر التزوير والتهديد بالسلاح والإغراء بالمال الفاسد.
ويؤكّد البعض أنّ عدم مشاركة “قوى تشرين” في الانتخابات سيفشلها بشكل كبير وينزع الشرعية عما سينتج عنها وذلك بالنظر إلى الثقل الجماهيري الذي أصبحت تمتلكه تلك القوى خصوصا في أوساط الشباب الناقمين على الأحزاب الحاكمة وقياداتها المترهّلة، وذلك بفعل سوء أوضاعهم وانسداد الآفاق أمامهم.
ويحذّر هؤلاء من أنّ انسداد أفق التغيير عبر صناديق الاقتراع لا يترك من خيار أمام مجاميع الشباب الغاضب من خيار سوى العودة إلى الشارع، الأمر الذي سيجعل النظام القائم في ورطة حقيقية لأنّه سيكون قد فقد آخر فرصة لإنقاذ نفسه من الانهيار متمثّلة في الانتخابات التي طالب بها المحتجون ووافقوا على إجرائها بشروط محدّدة.
ووصف السياسي العراقي جاسم الحلفي مقاطعة الانتخابات بأنّها “قرار اعتراض سياسي على التشويهات التي رافقت التحضيرات، وبالأخص في ما يتعلق بتأمين البيئة الانتخابية الضرورية”، معتبرا في مقال نشره على موقع ناس نيوز أنّه “إذا اكتسب هذا القرار تأييدا شعبيا واسعا، فإنه سيوفر إمكانية ردع سلمي تقضّ مضاجع طغمة الحكم، لهذا فالمتوقع هو تعرض هذا الأسلوب إلى هجوم من قبل قوى السلطة عبر وسائل متنوعة”.
كما ذكّر بأن الانتخابات المبكرة كانت في الأساس مطلب المنتفضين لكن بضوابط ضامنة لشفافيتها ونزاهتها، مستدركا بالقول إنّ “طغمة الحكم أفرغت هذا المطلب من محتواه عبر قضمه شيئا فشيئا، بحيث لم تُبق له معنى”، وإنّ “عدم قيام الحكومة العراقية بواجبها في تهيئة الجو المناسب والبيئة الآمنة للانتخابات يعني فتحها الطريق أمام الطغمة لترسيخ نفوذها وتعزيز وجودها في السلطة، والتمترس فيها من دون معارضة رسمية، وبذلك تُسهم في ترسيخ حكم الأقلية المستبدة.. وليس هذا إلا انحيازا واضحا لمصلحة المتنفذين على حساب قوى التغيير”.
Thumbnail
وبحسب الحلفي فإنّ “طغمة الحكم يؤرقها قرار مقاطعة الانتخابات، خاصة إذا اكتسب صفة شعبية، فهو يبيّن عزلها من قبل الشعب ورفضه لها، ما يؤسس لمعارضة شعبية واسعة تنشغل وتجهد لفتح طريق آخر للتغيير”.
وأصدر محتجّو كربلاء الاثنين بيانا عبّروا فيه عن معارضتهم إجراء الانتخابات مهدّدين بالزحف إلى العاصمة بغداد في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، مؤكّدين أنّه لا “انتخابات بوجود السلاح المنفلت واستمرار مسلسل الاغتيالات”، في إشارة إلى اغتيال الوزني.
وفي مظهر آخر على عمق الشكوك في الانتخابات المرتقبة في العراق، قال يوسف محمد رئيس كتلة حركة التغيير في البرلمان العراقي إنّه لا توجد جدوى من انتخابات مبكرة إذا كانت ستنتج ذات المعادلة السياسية الموجودة حاليا، محذّرا من احتمال استخدام عدد كبير من بطاقات الانتخاب الإلكترونیة المزورة خلال الاقتراع.
وجدّد في بيان المطالبة باعتماد البطاقة البايومترية حصرا لتصويت الناخبين بسبب وجود شكوك بأن هناك أکثر من مليون بطاقة إلكترونية كانت قد استخدمت في الانتخابات السابقة وسيعاد استخدامها في الانتخابات المبكرة بما يزعزع ضمان نزاهة العملية، مؤكّدا أنّه “لا يمكن أن ننتظر إجراء انتخابات نزيهة دون مكافحة الفساد والسيطرة على المال السياسي الفاسد وحصر السلاح بيد الدولة”، وأنّ “بقاء الأمر على حاله سيعيد إنتاج ذات المعادلة السياسية الموجودة حاليا على الساحة، لذا فلا جدوى من إجراء انتخابات مبكرة تكون مخرجاتها شبيهة بالعملية السابقة”.
وفي ظلّ توقّعات بتراجع كبير في شعبية الأحزاب الكبيرة وفي مقدمتها الأحزاب الشيعية التي قادت البلاد منذ ثمانية عشر عاما بالنظر إلى فشل تجربتها في الحكم، يتوقّع المتابعون للشّأن العراقي أن تنظيم انتخابات وفقا لمعايير الشفافية والنزاهة سيصب في غير مصلحة تلك الأحزاب التي يُستبعد أن تتنازل عن السلطة وما توفّره من امتيازات ومكاسب كبيرة بسهولة، خصوصا وأن ارتباطاتها المصلحية تمتد إلى خارج البلاد وإلى إيران تحديدا والتي لن تسمح بانسحاب وكلائها العراقيين من السلطة بما سيعني انهيار شبكة نفوذها المتشعّبة في البلد والتي ظلّت تسهر على مدّها طيلة ما يقارب العقدين من الزمن.
صحيفة العرب