ميزت أجواء الحراك العربي بطابعها المدني، فغابت عنها الشعارات الدينية بشكل ملحوظ، في مقابل التركيز على إسقاط الاستبداد والقطع مع الفساد ودعم الحقوق والحريات.. كما لقي الحراك اهتماماً دولياً كبيراً، بالنظر إلى فجائيته وتسارعه وانعكاساته المختلفة.
إن ما حدث من تحولات قادته الكثير من فعاليات المجتمع بالمنطقة، يعكس حجم المعضلات والمشاكل التي تراكمت على امتداد عدة عقود، ذلك أن الأنظمة السياسية التي ظهرت بعد حصول الأقطار العربية على استقلالها، لم تنجح في بناء دولة مدنية وحديثة، أو في تحقيق التنمية، على الرغم من الشعارات الكبرى التي أطلقتها في هذا الشأن.
اتخذ الحراك طابعاً سلمياً في بعض البلدان، فيما اتخذ طابعاً دموياً في مناطق أخرى، ويتعلق الأمر بتحولات، يتضارب فيها ما هو داخلي في علاقته بتطلع الشعوب إلى الحرية ،ورغبتها في مواجهة الاستبداد والفساد والريع، ونخب تحاول الحدّ من أهمية هذا الحراك من جهة، مع ما هو خارجي في علاقة ذلك بقوى إقليمية ودولية تحاول توجيه الأحداث في الاتجاه الذي يعود بالنفع على مصالحها المختلفة.
سمح الحراك بمناقشة الكثير من الإشكالات الكبرى: علاقة الدين بالدولة، ومعضلة الفساد، واقتران المال بالسلطة، ودور القوى الأجنبية في المنطقة، كما فتح المجال لقوى ولنخب ونقاشات جديدة، لم تتح لها إمكانية الظهور في السابق.
وكان من حسنات الحراك أيضاً، أنه كشف حقيقة مجموعة من القوى الدولية الكبرى كالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، التي ظلت تتبجح بحماية حقوق الإنسان وتدافع عن الديمقراطية، وتروج لمشاريع (تخدم هذا التوجه) وخصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر لعام 2001، كما انكشفت أيضاً حقيقة بعض القوى الإقليمية أمام الرأي العالمي، بعد أن تحولت من داعية إلى إرساء السلام بالمنطقة، إلى محرض على الطائفية والفرقة داخل سوريا.
ويبدو أن تقييم الحراك في المرحلة الراهنة بصورة دقيقة وموضوعية ينطوي على قدر من المبالغة والمغالاة، فرغم الارتباكات التي شهدتها كل من ليبيا واليمن وسوريا.. لا يمكن القول بفشل الحراك، طالما أن الأمر يعبر في آخر المطاف عن إرادة الشعوب، وطالما أن التجارب الدولية الرائدة، كما هو الشأن بالنسبة للثورة الفرنسية والثورات الإنسانية الرائدة، تؤكد أن ثمن التحول لم يكن مجانياً، بل كان باهظا في بعض الأحيان ،وتطلب الأمر وقتا لم يكن بالهين.
ففي تونس ورغم الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي ترافق التحول السياسي بالبلاد، إلا أن اعتماد دستور جديد، وتنظيم انتخابات تشريعية وأخرى رئاسية، وتبني مجموعة من الإصلاحات، في أجواء طبعتها السلمية والهدوء رغم بعض المحطات القاسية، كلها مؤشرات تحيل إلى بناء تجربة متميزة، يمكن أن تخرج الحراك في المنطقة من قتامته.
أما في ليبيا، فقد أضحى التوصل إلى حلّ يدعم الاستقرار في البلاد، مطلبا ملحّا، تمليه عوامل داخلية مرتبطة بتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية، وتنامي مطالب الليبيين أنفسهم بتجاوز حالة الانتظار وعدم الاستقرار القائمة، ومطلبا دوليا بعد أن أصبحت البلاد فضاء لانتعاش الكثير من الجماعات الإرهابية المسلحة والمخاطر، التي تشكل تهديدا حقيقيا لأمن المنطقة بل وللسلم والأمن الدوليين.
ومن ثمّ، فالمفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة، إذا ما تم التعاطي معها بحسن نية وباستحضار المصالح الاستراتيجية للمنطقة، لا يمكن إلا أن تكون في صالح تحسين الأوضاع السياسية لليبيا وتجاوز المعضلات القائمة، وتقطع الطريق على إعمال خيارات قد تكون تبعاتها على المنطقة أخطر.
أما الوضع السوري، فهو يحيل في الوقت الراهن إلى مفارقتين، فهناك واقع ميداني سمته الدماء والقتل والتهجير، وفي المقابل هناك قوى إقليمية ودولية متواطئة، وعوض سعيها إلى دعم الاستقرار في هذا البلد واحترام إرادة مواطنيه، فهي تجعل منه فضاء لكسب نقاط مصلحية ضيقة.
بغض النظر عن الواقع السوداوي الذي يحاول البعض الترويج له بصدد الحراك، باعتباره مؤامرة خارجية أو بإقرانه بالطائفية والارتباكات الأمنية والإرهاب، فقد كان للحراك ما يبرره على الأرض موضوعيا، فلا تخفى تداعيات الاستبداد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، كما لا تخفى مظاهر الفساد التي ما زالت تعانيها المنطقة، إضافة إلى المعضلة الاجتماعية التي تعيش على إيقاعها الكثير من الدول، ولا يخفى الوضع المتردي للنظام الإقليمي العربي، وما يتصل بذلك من تداعيات سلبية على المنطقة في علاقتها بالتدخلات الأجنبية المتنامية في المنطقة.
تشير الممارسة الدولية إلى وجود تباين واختلاف بين تجارب التحول نحو الديمقراطية على امتداد مناطق مختلفة من العالم، وهذا أمر طبيعي إذا ما استحضرنا أن هذا الأمر تتحكم فيه مجموعة من الاعتبارات والشروط والسياقات المتّصلة بكل مجتمع على حدة، من حيث الثقافة السياسية السائدة وطبيعة النظام السياسي القائم، والظروف التاريخية ومدى انخراط النخب المختلفة فيه، وما إذا كان سلمياً أو تكتنفه مظاهر من العنف، كما لا تخلو تأثيرات انسجام المعارضة وقدرتها على تدبير خلافاتها واختلافاتها، وحدّة حضور العوامل الخارجية وتأثيراتها في هذا الشأن. إن أهداف ورهانات الحراك العربي، لن تتحقق بين عشية وضحاها، خصوصاً إذا ما استحضرنا التحديات التي واجهته على مستوى عدم انخراط النخب أو التحاقها بشكل متأخر، وتحدي المحيط الدولي، وتحدي الدولة العميقة، والتهويل والتخويف مما يجري من ارتباكات أمنية في دول أخرى، وعدم اعتماد آلية العدالة الانتقالية في بعض الدول كسبيل للتخلص من تراكمات الماضي القاسية..
استحضاراً للعديد من التجارب الدولية في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية.. التي لم يكن التحول فيها سهلاً، حيث تطلب ذلك تضحيات جسام وانتظار عقود من الزمن لقطف الثمار، يمكن القول إنه وبرغم الارتباكات التي تعيش على إيقاعها العديد من دول المنطقة، لا يمكن لمستقبل هذه الأخيرة إلا أن يكون بيد شعوبها التي عبّرت بتلقائية عن مواقفها ومطامحها.
د. إدريس لكريني
الخليج