نفّذت قطاعات عريضة ومتعددة ومتنوعة من أبناء الشعب الفلسطيني إضراباُ عاماً شمل مختلف أرجاء فلسطين التاريخية على جانبي ما يُعرف باسم «الخط الأخضر» تضامناً مع أهل غزة الذين يتعرضون لعدوان همجي جديد تشنه دولة الاحتلال الإسرائيلي، واستنكاراً لاستمرار أعمال القصف الوحشية تحت سمع وبصر وتواطؤ قوى عظمى تزعم رفع رايات حقوق الإنسان والقانون الدولي.
ولقد توحدت فعاليات الاحتجاج في رام الله والخليل ونابلس مع تظاهرات التعبير عن التضامن في اللد والجليل ومدن ساحل المتوسط فضلاً عن عشرات البلدات والقرى الفلسطينية الأخرى، فتحقق بذلك مقدار وافر من مضمون الشعار الذي رُفع مسبقاً، أي الإضراب من البر إلى البحر. وكانت الدلالة الكبرى الأولى هي البرهنة مجدداً على وحدة الشعب الفلسطيني أينما تواجد على أرض فلسطين التاريخية، وبذلك كان المحتشدون المتظاهرون أمام حاجز بيت إيل أخوة في المصير مع كل فلسطيني أغلق متجره أو أضرب في مدرسته وجامعته وعمله.
الدلالة الثانية هي أن الشعب الفلسطيني يمكن بالفعل أن يتوحد في المنعطفات المصيرية، متجاوزاً جميع الانقسامات السياسية والعقائدية والحزبية والفصائلية، وقادراً على وضع كل خلاف جانباً مهما كانت جذوره، لصالح مجابهة هذه المحنة أو تلك والالتفاف حول ضحايا إرهاب الدولة الإسرائيلي وتمكين المقاومين من الثبات والصمود.
الدلالة الثالثة هي أن أسلحة الشعب الفلسطيني في ردّ الهمجية الإسرائيلية لم تقتصر في أي يوم على مقايضة العنف بالعنف أو قذائف دولة الاحتلال الأكثر فتكاً بصواريخ المقاومة البسيطة، بل توفرت على الدوام وسائل كفاحية أخرى سلمية الطابع وحضارية المحتوى تكفل المزيد من تعاطف الرأي العام العالمي واحترامه، وليس مجرد استعطافه والاكتفاء بما تثيره آلة الحرب الإسرائيلية البربرية من إشفاق إنساني وتضامن تلقائي.
الدلالة الرابعة هي أن سلاح الإضراب الشامل، خاصة إذا شهد طرائق متقدمة في الأداء والتوحيد والشعارات، سوف يربك الأطراف الفلسطينية ذاتها التي تمسك بأعنّة السلطة في رام الله وغزة، والتي يحدث أن تخضع لضغوطات إقليمية أو دولية فتضغط من جانبها على الحراك الشعبي الفلسطيني، وقد تفرغه من بعض مضامينه النضالية بعيدة المدى. وبهذا المعنى فإن الإضراب لا يناهض العدوان على غزة وسياسات دولة الاحتلال الاستيطانية والعنصرية فقط، بل يبعث أيضاً برسائل واضحة إلى السلطات الفلسطينية الحاكمة حول الكمون الكفاحي في قلب حراك الشعب الفلسطيني.
ومن الثابت أن هذه المستويات من دلالات الإضراب لا تثير مخاوف دولة الاحتلال لأنها تُسقط جزءاً غير قليل من الأضاليل الإسرائيلية حول أسباب شن العدوان على غزة فحسب، بل كذلك لأنها تحرج أخلص أصدقاء العدوان الإسرائيلي وتجبرهم على البحث عن خطابات تبريرية واهية ليست أقل افتضاحاً من الأكاذيب الإسرائيلية. وهذه حال تسري أيضاً على وسائل الإعلام العالمية، وكذلك مجموعات الضغط المساندة لدولة الاحتلال، ولا تنجو من تأثيراتها حتى تلك الحصون اليهودية المنيعة التي تمتهن الدفاع عن العدوان وتجمّل وجوهه القبيحة والدامية.
وليس غريباً أن إضراب العام 2021 يعيد التذكير بإضراب العام 1936، من زاوية التشديد مجدداً على حيوية الشعب الفلسطيني وطاقاته النضالية ووحدته كلما تعرضت قضيته العادلة إلى امتحان مصيري.
القدس العربي