لأول مرة منذ زمن برزت مرويات المظلومين في قضية فلسطين مما أدى لتغير النقاش واللغة السائدة في العالم حول قضية فلسطين. فعوضا عن اللغة المستخدمة بأن «جيش الدفاع الإسرائيلي» يدافع عن نفسه ضد إرهابيين، إنبثقت بقوة مصطلحات جديدة تدين إسرائيل «كالابارتهايد والنكبة والعودة والمنزل وقتل الأطفال واستخدام القوة المفرطة». لقد برزت المروية الفلسطينية والرواية التاريخية للنكبة كما لو أنها بدأت اليوم وليس عام 1948 وذلك بسبب مغالاة الصهيونية في سعيها لتكرار النكبة كل عام وعند كل منعطف.
لقد فاز الشعب الفلسطيني ومعه كل من يؤيد الحقوق وينبذ الظلم في معركة صعبة لإيصال صوته. هذه التطورات دفعت العالم لأول مرة للاستماع بصورة أكثر جدية من اي فترة سابقة.
منذ عقود بل ومنذ قرن والأكثر منذ أن إنعقد المؤتمر الصهيوني الأول في العام 1897 والحركة الصهيونية تتحدث عن «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» لكن العالم يزداد وعيا بسبب حجم الكارثة التي صنعتها إسرائيل، فالشعب الفلسطيني كان على أرضه، وكان يشكل الأغلبية المطلقة. وعندما انعقد المؤتمر الصهيوني الأول لم يكن في فلسطين سوى 50 ألف يهودي نصفهم من المهاجرين الجدد من بين 650 ألف فلسطيني عربي. لم تكن الملكية اليهودية حينها لتتجاوز 1 في المئة من الأرض.
وعندما قامت إسرائيل بعد أكثر من 28 عاما من حكم بريطانيا المباشر الذي بدأ عام 1917 وإنتهى 1948 امتلك اليهود من الأرض الفلسطينية ما يقارب 6 الى 6.5. تلك الملكية وصلت ليد القطاع اليهودي عبر كل أساليب الخداع، بما في ذلك ما قدمته بريطانيا من هدايا من أراضي الدولة وأراضي القرى للحركة الصهيونية. تلك الأراضي التي قدمتها بريطانيا بلغت بحدود 3٪ من 6.5٪. لقد كان عدد السكان اليهود قد وصل عام النكبة 1948 لثلث السكان أي بحدود 650 الف من 1.3 مليون فلسطيني عربي. هكذا قررت الأقلية المكونة من المهاجرين الذي أتوا لفلسطين في ثلاثينيات وعشرينيات القرن العشرين مصير فلسطين عبر طرد الشعب الفلسطيني من مدنه وقراه، والسيطرة على أملاكه وممتلكاته، وأراضيه وزراعته، وحقوله، وأعماله ومبانيه ومنازله. تلك هي النكبة التي وقعت عام 1948 ونتج عنها تهجير ما لا يقل عن 800 الف مواطن فلسطيني وسيطرة إسرائيل على 77 في المئة من فلسطين. بل والأخطر أن إسرائيل صادرت كل الاملاك ودمرت أكثر من 450 قرية فلسطينية، كما وقامت بمنع الفلسطينيين من العودة.
من مروا بتجربة النكبة القاسية هم أحفاد الحضارات التي حكمت فلسطين وهم بالطبع نتاج الوجود العربي الإسلامي في فلسطين منذ أن أصبحت فلسطين ضمن الدولة الإسلامية منذ 1400 عام
الذين هجروا هم عرب فلسطين سكان البلاد الأصليون الذين عاشوا فيها لمئات وألوف السنين منذ الوجود الكنعاني في البلاد قبل خمسة آلاف عام. ومن مروا بتجربة النكبة القاسية هم أحفاد الحضارات التي حكمت فلسطين وهم بالطبع نتاج الوجود العربي الإسلامي في فلسطين منذ أن أصبحت فلسطين ضمن الدولة الإسلامية منذ 1400 عام.
أما الطارئون على فلسطين من يهود العالم فجاءت نسب كبيرة منهم حيث مهد الصهيونية الشعبية من روسيا وبولندا، ثم من اوروبا، ثم من يهود العرب. جاؤوا من غير أن تكون لديهم أية علاقة بفلسطين باستثناء العلاقة الروحية التي نجدها لدى كل الديانات.
ما وقع في فلسطين كان أغرب بل وأسوأ تطهير عرقي وقع في القرن العشرين والواحد والعشرين، وقد قتل في حرب النكبة أكثر من عشرة آلاف فلسطيني، كما قتل بين 2500 الى 5000 عربي فلسطيني اثناء محاولات العودة المستميتة من قبل المواطنين والعائلات بعد النكبة وطوال عقد الخمسينيات. التطهير العرقي في فلسطين كان الأسوأ لأنه لم يتوقف منذ حرب 1948، اذ استمر عاما وراء العام وعقد وراء العقد ليومنا هذا، فالقدس الشرقية وحي الشيخ جراح ومناطق الضفة وغزة وفلسطين 1948 تعاني من ذات التطهير العرقي الذي بدأ منذ 1948.
لقد غيرت المواجهة الأخيرة بين الشعب الفلسطيني وبين الكيان الإسرائيلي الكثير من الثوابت، إذ أكدت رسالة المقاومة بأن خلاص إسرائيل من الفلسطينيين كما تخلصت امريكا من سكان البلاد الأصليين ليس ممكنا. فهم على الأرض باقون، وهم متمسكون بحقوقهم التاريخية، وهم أكثر من عدد السكان اليهود في ذات البقعة الجغرافية. لقد دخلت المواجهة في فلسطين مرحلة جديدة مفادها المزيد من التمرد على سياسات التطهير العرقي الصهيوني.
د. شفيق ناظم الغبرا
القدس العربي