تثير تصريحات مترددة لمسؤولين أميركيين بشأن الانسحاب العسكري من الشرق الأوسط قلقا لدى دول صديقة وخاصة في الخليج الذي تحتاج دوله إلى الوضوح في مواقف واشنطن لتبني عليها علاقاتها الخارجية المستقبلية، كما تثير بعض التساؤلات لعل أبرزها ما إذا كانت واشنطن ستظل حليفا موثوقا أم تنوع تلك الدول خياراتها بالبحث عن شركاء جدّيّين مثل الروس والصينيين.
وقالت مصادر خليجية مطلعة إن الارتباك الأميركي يثير قلقا بالغا في السعودية، خاصة إثر استلام إدارة الرئيس جو بايدن السلطة ورسائله غير الودية تجاه الرياض وما يتعلق باليمن أو صفقات الأسلحة، ورهان واشنطن على مفاوضات غير مشروطة مع إيران بشكل لا يولي أمن السعودية ومخاوفها والتزاماتها الإقليمية أي أهمية.
وأشارت هذه المصادر إلى أن السعوديين، الذين عُرفوا بهدوئهم وقدرتهم على امتصاص الأزمات، باتوا يفكرون جديا في خيار تنويع الشركاء الدوليين، وفي إمكانية أن تتحول الولايات المتحدة إلى شريك على نفس الدرجة مع الصين وروسيا بعد أن ظلت لعقود طويلة في مرتبة الشريك المميز الذي يحصل على الأولوية في الصفقات الكبرى، كما أن الوعود الأميركية المتناقضة ما عادت تغريهم.
ولا تُعرَف إلى حدّ الآن بالضبط ما هي إستراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط؛ هل تعني فعلا الانسحاب العسكري والاكتفاء بوجود رمزي أم أن حديث المسؤولين بمثابة بالون اختبار تخويف دول بعينها ودفعها إلى الارتباط أكثر بالمصالح الأميركية؟
ويؤدي هذا الغموض إلى نتائج سريعة لدى دولة مثل السعودية التي لم تعد تخفي استعدادها للبحث عن شركاء آخرين، إضافة إلى استعدادها لفتح قنوات تواصل مع إيران وحل الخلافات الإقليمية بينهما عن طريق الحوار المباشر، مثلما جاء على لسان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في موقف اعتبره مراقبون ردا على محاولات ابتزاز غربية تقوم على تضخيم الخطر الإيراني مقابل ربط أيدي السعوديين من خلال وقف الحصول على الأسلحة التي تمكنهم من إدارة صراع إقليمي متكافئ مع إيران.
ويعتقد محللون أن الانسحاب الأميركي من الخليج في هذه الظروف سيعني دفع الدول الحليفة إلى الاعتماد على الذات والبحث عن تحالفات، معتبرين أن مبرر التفرغ لمواجهة الصين غير مقنع خاصة أن الأخيرة باتت تتمدد في أماكن أخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وتهدد النفوذ الأميركي التقليدي.
واعتبر المحلل السياسي البحريني عبدالله الجنيد ما يتم تداوله بشأن اعتزام الولايات المتحدة تخليها عن تواجدها في منطقة الشرق الأوسط عسكريًّا يتنافى مع إستراتيجية الدفاع الوطني المعتمدة التي حددت أن الصين هي الخصم الأول لأميركا.
وقال الجنيد في تصريح لـ”العرب” إن “الولايات المتحدة تراهن على أن يتحمل حلفاؤها أدوارا أمنية متقدمة على المستوى الإقليمي أو الجيوسياسي. وبمقارنة الرؤية الصينية وشكل تحالفات بكين مع إيران وباكستان وطالبان فإنها بالتأكيد لا تعطي إشارات مشجعة لدول الخليج العربي على التوجه شرقا”.
ويعتقد ليونيد سوكيانين، أستاذ العلاقات الدولية في المدرسة العليا للاقتصاد والسياسة في موسكو، أن بلاده تجد في الانسحاب الأميركي العسكري والإستراتيجي فرصة لا تعوض لتوطيد تعاونها مع دول المنطقة.
وأضاف سوكيانين في تصريح لـ”العرب” أن موسكو ترى المنطقة شريكًا وليس مجرد وجود عسكري كما فعلت واشنطن، وأن استقرار المنطقة من استقرار روسيا.
وأشار إلى أن التعاون الروسي – العربي لن يقتصر على مجال محدد، بل سيتوسع اقتصاديًّا وسياسيا وأمنيا وعسكريا، كما تُولي روسيا تحقيقَ الأمن والاستقرار في المنطقة أهميةً كبيرةً، خصوصا لما لها من علاقات مع كل الأطراف المتناقضة في المنطقة مثل إيران وإسرائيل.وقال فرانك ماكينزي، القائد الأعلى للقوات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، إنه موافق على قيام بلاده بتقليص وجودها العسكري في جميع أنحاء المنطقة للتركيز على منافسة القوى العظمى وخاصة الصين وروسيا، لكنه حذّر من أن الولايات المتحدة تخاطر بمنح هاتين الدولتين فرصة لسدّ الفجوة وتوسيع نفوذهما في المنطقة.
ويعكس تصريح ماكينزي، بعد زيارة أخيرة تفقد فيها قوات بلاده في العراق وسوريا والسعودية، غموض الدواعي التي دفعت إلى قرار تخفيض الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، وهو خيار بدأ مع الرئيس الأسبق باراك أوباما ثم استمر فيه الرئيس السابق دونالد ترامب ثم حذت حذوهما إدارة بايدن الحالية، ويشمل العراق والخليج وأفغانستان، وهي المنطقة التي تتمركز في قلبها إيران.
ويشعر الخليجيون بالقلق من أن اتجاه الولايات المتحدة نحو آسيا يعني أنهم سيُتركون دون القوات والسفن والطائرات والأسلحة التي يحتاجون إليها لمحاربة الميليشيات المدعومة من إيران، خاصة بعد قرار بايدن وقف بيع أسلحة هجومية للرياض، وهو قرار إن استمرّ سيمثل بداية قطيعة فعلية بين الولايات المتحدة وحلفائها.
وفي سياق التناقضات الأميركية يمكن الإشارة إلى أنه في الوقت الذي يروج فيه الأميركيون للانسحاب من الخليج أرسل بايدن خلال الأشهر الماضية مسؤولين كبارا في إدارته إلى منطقة الخليج لطمأنة الحلفاء. وكانت آخر تلك الخطوات الاتصال الذي أجراه وزير الدفاع لويد أستون مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وناقش مسألة “دعم الدفاعات السعودية” في مواجهة الهجمات الحوثية.
صحيفة العرب