يوم 22 مايو نشر الملياردير الصهيوني شمولي بوتيك، من ولاية نيوجرسي، إعلانا مدفوعا على صفحة كاملة في جريدة «نيويورك تايمز» بتكلفة ربع مليون دولار، يتهم فيه عارضتي الأزياء الأشهر في الولايات المتحدة، بيلا حديد وأختها جيجي حديد، والمغنية الشهيرة دُوا ليبا (ألبانية واصل اسمها دعاء) خطيبة أنور حديد وهو شقيق الأختين بيلا وجيجي، بمعاداة السامية، وأن السيدات الثلاث يتهمن إسرائيل بالقيام بتطهيرعرقي للفلسطينيين، كما أنهن يشيطن دولة إسرائيل. ولم يجد هذا الكاهن ما يتهم به الاختين حديد المتحدرتين من مدينة الناصرة الفلسطينية، إلا معاداة السامية، نتيجة التأثير الضخم لمواقعهن في إنستغرام وتوتير وغيرهما. فدوا وجيجي يتابعهما 67 مليون شخص، وبيلا يتابعها 43.3 مليون، حيث زاد متابعوها أكثر من ثلاثة ملايين في المدة الأخيرة.
تهمة معاداة السامية وجهت للثلاث، لأنهن انتصرن للحق الفلسطيني، حيث شاركت بيلا حديد في مظاهرة عارمة في بروكلينفي مدينة نيويورك يوم 15 مايو، ووضعت صورا لها وهي ملتفة بالعلم الفلسطيني. وردا على حسابها على تويتر كتبت دوا: «هذا هو الثمن الذي تدفعه للدفاع عن حقوق الإنسان، للفلسطينيين ضد حكومة إسرائيلية تتهم أفعالها، كل من هيومن رايتس ووتش ومنظمة بتسيلم الإسرائيلية لحقوق الإنسان بالاضطهاد والتمييز». أما بيلا حديد فكتبت على حسابها في إنستغرام: «هذا أمر يتعلق بالاستعمار الإسرائيلي والتطهير العرقي والاحتلال العسكري والفصل العنصري على الشعب الفلسطيني الذي يستمر منذ سنوات». وكانت بيلا قد نشرت على حسابها صورة لجواز سفر والدها المولود في الناصرة وكتب في مكان الميلاد فلسطين، كما نشرت صورة زفاف لجدها وجدتها في الناصرة قبل أن توجد دولة إسرائيل. تهمة معاداة السامية أصبحت السلاح الرديء والجاهز والأعمى، الذي ترفعه المنظمات الصهيونية في وجه كل من ينتصر لفلسطين، ومن يدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني، وينتقد الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، لكن هذا السلاح بدأ يفقد فاعليته، لأن جرائم إسرائيل لم تعد ترتكب في الخفاء، بل علنا وأمام العالم أجمع. وهناك جيل من الشباب الفلسطيني والعربي والعالمي، من أنصار الحرية والعدالة والحق، أتقنوا استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، فكشفوا زيف الدعاية الإسرائيلية المضللة.
معاداة السامية ظاهرة أوروبية
تهمة معاداة السامية سلاح رديء وجاهز، ترفعه المنظمات الصهيونية في وجه كل من ينتصر لفلسطين
يوجه الصهاينة المؤيدون للكيان الإسرائيلي تهمة معاداة السامية، أو «كراهية اليهود» لثلاث فئات: كل من ينتقد الصهيونية كعقيدة سياسية تقوم على «الإحلال والتفريغ» بهدف إقامة دولة يهودية في فلسطين، كما وصفها المرحوم فايز الصايغ، كما يوجهون هذه التهمة لكل من ينتقد ممارسات الدولة الإسرائيلية، وارتكابها ما لا يحصى من جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب وجريمة الأبرتهايد، كما يوجهون هذه التهمة لكل من لا يقبل بتعريف اليهودية على أنها جنسية وليس فقط عقيدة دينية. إن شمول المصطلح الفضفاض لانتقادات للعقيدة والأيديولوجية والدولة، أمر مقصود وخطير ولئيم يهدف إلى خلط الأوراق، لتوجيه التهمة على هواهم بهدف إخافة كل مناصر للقضية الفلسطينية، وإذا كان الشخص المعادي للصهيونية أو الممارسات الإسرائيلية من أتباع الدين اليهودي ألصقت به تهمة «يهودي كاره للذات». إن معاداة السامية أو كراهية اليهود ظاهرة أوروبية انتشرت في بلدان أوروبا الشرقية، وصولا إلى ألمانيا، فبقية دول غرب أوروبا، وليس للعرب أو المسلمين دخل في تلك الظاهرة لا من قريب ولا من بعيد. وقد اخذت الظاهرة بعدا دينيا من قبل الكنيسة وأتباع الدين المسيحي، فالعداء كان في جوهره دينيا، وكان بعض اليهود يضطر أن يغير دينه ويعلن مسيحيته حفاظا على نفسه وأولاده وممتلكاته. أما العلمانيون والليبراليون فقد أصبحت الظاهرة منذ عام 1870 تأخذ طابعا عرقيا، ويرفضون تغيير العقيدة اليهودية إلى المسيحية، بل يعتبرون اليهود أقلية عرقية ذات طابع ثقافي مختلف لا يتغير بتحول العقيدة. وبعد عام 1897 ومع نشوء الحركة الصهيونية أخذت الظاهرة شكلا سياسيا من جهة، ومن جهة أخرى تم تشجيعها كي يتم التخلص من الأقليات اليهودية في أوروبا. وهذه الظاهرة جعلت صموئيل هيرتسل يتهم أوروبا «بالهوس في معاداة اليهود» ودفعه للتفكير في تجميع اليهود في مكان ما وإنشاء دولة خاصة بهم في فلسطين أو أي مكان آخر. المؤتمر السادس للمنظمة الصهيونية عام 1903 هو الذي أقر أن تكون فلسطين الدولة المستقبلية لليهود، بعد إقصاء العديد من الاقتراحات.
في الولايات المتحدة، الكراهية ضد اليهود موجودة ومتجذرة، رغم القوانين الصارمة التي تقف ضد جريمة الكراهية، فسكان هذه البلاد معظمهم متحدر من أصول أوروبية، هربوا إلى هذه البلاد وأحضروا معهم ثقافتهم العنصرية، التي أبادت السكان الأصليين، واستعبدت أبناء القارة الافريقية، وظلت قائمة على العنصرية والتمييز بين الأعراق والألوان. الحديث عن ذلك طويل، وهو ليس موضوعنا، ولكنني أود أن أذكر بحادثة الكنيس اليهودي في أكتوبر 2018 في مدينة بيترسبيرغ بولاية بنسلفانيا يوم قتل 11 يهوديا بدون أدنى سبب إلا كراهية اليهود. نحن نقف ضد كل أنواع الكراهية المبنية على اللون أو الدين أو العرق أو الجنس، سواء كان الضحية مسلما أو يهوديا أو أسود، أو لاتينيا أو آسيويا أو امرأة. التمييز بكل أشكاله مرفوض، حيث ينتهك الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري المعتمدة من الأمم المتحدة عام 1965.
العرب ليسوا معادين للسامية
لم يكن العرب أو المسلمون في يوم معادين لليهود كيهود، بل عاشوا في وئام وحسن جوار، وتعرضوا للاضطهاد والمجازر معا أثناء الحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش بعد معارك استعادة الأندلس من أيدي العرب والمسلمين. لقد طردوا معا من البلاد فاختار اليهود أن يستقروا تحت ولاية الدولة العثمانية لحمايتهم، واستقر معظمهم في دول شمال افريقيا من المغرب غربا، حتى ليبيا شرقا. كما ضم العراق أكبر تجمع يهودي بعد المغرب، وكذلك اليمن ومصر وسوريا وفلسطين ولبنان، لكن عند نشوء الحركة الصهيونية، بدأت الفكرة تنتشر بين بعض الجاليات اليهودية، التي تم تجنيدها من قبل المنظمات الصهيونية لترحيل اليهود إلى فلسطين. وقد فشلت تلك المحاولات رغم العديد من المؤامرات والإغراءات، وافتعال الأحداث كما حدث في العراق والمغرب، إلا أن بريطانيا وفرنسا تآمرتا مع عملائهما المحليين لتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين بعد قيام الدولة، ولهذا حديث طويل قد نعود إليه بالتفصيل.
رفض تهمة معاداة السامية
يجب أن نرفض تماما تهمة معاداة السامية عند نقد ممارسات الدولة أو نقد الحركة الصهيونية:
– فهناك صهاينة غير يهود يعلنون تأييدهم المطلق لإسرائيل، وحقها في طرد الفلسطينيين، خاصة الكنيسة الأنجليكية في الولايات المتحدة، التي يقدر تابعوها بالملايين.
– وهناك يهود يعدون بالملايين أيضا، يرفضون الهجرة لإسرائيل، ويتهمونها بالإجرام، وأنها تستغل اليهود لزجهم في حرب استعمارية لا علاقة لليهود بها. هؤلاء يشاركوننا في المظاهرات والنشاطات، ويلقون أبلغ الكلمات في معاداتهم لإسرائيل.
– وهناك جمعيات عديدة لا تعتبر نفسها صهيونية، وتعادي ممارسات إسرائيل مثل «أصوات يهودية للسلام» و»جنود سابقون ضد الاحتلال». وهناك كتاب وصحافيون يتكلمون ضد الصهيونية أبرزهم، نعوم تشومسكي ونورمان فلنكستين وفيليس بينيس ومئات غيرهم.
– وهناك تجمعات ومنظمات إسرائيلية ضد ممارسات هذا الكيان وأبرزها، منظمة «بتسيلم» لحقوق الإنسان التي وصفت إسرائيل في تقريرها الأخير أنها دولة أبرتهايد. كما أن هناك مجموعة من الكتاب والصحافيين الإسرائيليين يقفون إلى جانب الحق الفلسطيني، رغم التهديدات المتواصلة مثل جدعون ليفي وعميرة هاس وعكيفا الدار وغيرهم، إضافة إلى عدد من المؤرخين وفي مقدمتهم إلان بابيه وآفي شليم.
– وهناك وثائق وتقارير دولية تشير إلى جرائم إسرائيل كان آخرها، تقرير هيومان رايتس ووتش، الذي صنف إسرائيل على أنها دولة أبرتهايد. عدا عن قرارات مجلس الأمن العديدة والجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان واليونسكو والرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، وأخيرا قرار المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبتها إسرائيل منذ عام 2014 وحتى الآن.
وفي الختام يجب أن نكون متنبهين في هذا الوقت وأنصار القضية الفلسطينية ينتشرون في كل أصقاع الأرض، وأعدادهم تتضاعف، خاصة بين الفئات الشبابية الذين قلبوا موازين القوى في فترة العدوان على غزة مؤخرا. فقد تسللت إلى بعض المظاهرات فئات قليلة وهامشية جدا، رفعت شعارات في جوهرها معادية للسامية، ما أعطى وسائل الإعلام المعادية فرصة للتركيز على تلك الفئة الصغيرة، والابتعاد عن عشرات الألوف من الذين ينادون بالحرية لفلسطين، ويدينون العدوان الإسرائيلي ويعلنون تضامنهم ووقوفهم مع الشعب الفلسطيني المظلوم. فلا تكترثوا، يا جيل الشباب والشابات بتهمة معاداة السامية، وسيروا في طريق فضح هذا الكيان الاستيطاني العنصري وتعريته أكثر، إلى أن يقر العالم كله بضرورة إنهاء نظام الفصل العنصري في إسرائيل، كما انتهى في جنوب افريقيا ويعود الشعب الفلسطيني إلى وطنه ودياره وأراضيه ويعيش المواطنون جميعهم تحت نظام ديمقراطي يسوده العدل والمساواة والحرية.
عبدالحميد صيام
القدس العربي