مسرحية يمارسها نظام طهران

مسرحية يمارسها نظام طهران

عندما يحدّد علي خامنئي المرشحين لرئاسة إيران بقائمة من سبعة أسماء أبرزها رئيس القضاة إبراهيم رئيسي، فهذا يوحي بأن “مرشد الجمهورية” لا يريد إصلاحيين في السلطة خلال العقد الثاني من الألفية الثالثة. لا ضير من بقائهم واتساع رقعة تيارهم بعيدا عن الأضواء خلال هذه الفترة، ولكن الدفة يجب أن يقودها المحافظون لأنها ستضع البلاد على محكات عدة في اختيار خليفة لخامنئي من جهة، وفي رسم الحضور الإقليمي والعالمي لإيران بعد الاتفاق النووي الجديد مع الولايات المتحدة، من جهة ثانية.

هكذا يبدو المشهد العام للانتخابات الرئاسية المقبلة في إيران، وقد ينطوي ذلك على جانب من الصواب، ولكن ثمة بضع نقاط مظلمة لا ترى بالعين المجرّدة، إن جاز التعبير.

نظام ولاية الفقيه لا يسمح بغير الإصلاحيين والمحافظين في الحياة السياسية، وهو يحارب كل أحزاب أو تكتلات أو حتى أنشطة فردية خارجهما بذريعة مخالفة الدستور. ومن يخالف الدستور “يخالف الله ورسوله” ويجوز “قتاله وقتله”. الأمثلة على ذلك كثيرة وتاريخ “الثورة الإسلامية” منذ 1979 يحفظ الكثير من أسماء الضحايا.

المحافظون والإصلاحيون وجهان لعملة واحدة عندما يتعلق الأمر بتنفيذ أوامر “المرشد”. هو صاحب القول الفصل في شؤون البلاد، وهو من يضع الخطط بالتنسيق مع بطانته في الحرس الثوري وأجهزة الأمن والمؤسسات الدينية. أما الحكومة، سواء كانت إصلاحية أم محافظة، فهي تترجم هذه الخطط إلى ممارسات وتعالج تداعياتها الداخلية والخارجية. فإن أراد خامنئي الصدام والمباشرة والمواجهة مع خصوم النظام، أنشأ حكومة من المحافظين، وإن أراد المواربة والخبث لجأ إلى حكومة إصلاحيين.

الهدف الأسمى هو الحفاظ على نظام “الثورة الإسلامية” صاحب المشروع “العقائدي” الذي يحلم بالهيمنة على المنطقة العربية. والتيارات السياسية “المعترف” بها في البلاد، تخدم هذا الهدف لأنه يحافظ على استمرارهما. بتعبير آخر، العلاقة بين النظام والتيارات السياسية الحالية في إيران تتناسب طردا، كلّما قوي نظام المرشد زاد نفوذها، وعندما يضعف يصبح مصيرها على المحك ويقترب زوالها.

تحت هذا السقف يسمح لثالوث المرشد والإصلاحيين والمحافظين بالصدام والاختلاف. تحته فقط يمكن للتيارين أن يختلفا في سياساتهما، ويمكنهما الاختلاف مع خامنئي وبطانته في السياسة والجيش والحياة العامة. أما الحديث عن تباينات تقدم الإصلاحيين كملائكة ومعارضة تقاوم شرّ المحافظين، فهذا تشويه للحقائق ومبالغة كبيرة تخدم فقط نظام خامنئي الذي يوهم العالم بأن لديه ديمقراطية ومنافسة شرسة بين توجهين متعارضين تماما ستفصل صناديق الاقتراع في قوتهما خلال الانتخابات المقبلة.

ثمة مثال واضح على هذه العلاقة كشفت في تسريبات وزير الخارجية محمد جواد ظريف تحدث فيها عن هيمنة القائد السابق لفيلق القدس قاسم سليماني على عمل وزارته. لم يعترض ظريف في حديثه أمام اجتماع حكومي متخصص، على سياسة إيران العدائية في الخارج، وهيمنتها على أربع دول عربية، وإنما كان اعتراضه فقط على تدخل سليماني في حماية هذه السياسة وترويجها دبلوماسيا بعض الأحيان.

المحافظون والإصلاحيون وجهان لعملة واحدة عندما يتعلق الأمر بتنفيذ أوامر “المرشد” فإن أراد الصدام والمواجهة مع خصوم النظام أنشأ حكومة من المحافظين وإن أراد المواربة والخبث لجأ إلى حكومة إصلاحيين

مثال آخر على العلاقة بين ثالوث المرشد والإصلاحيين والمحافظين، فعندما اختار خامنئي قائمة المرشحين لانتخابات الثامن عشر من يونيو 2021، بحيث تنتهي بوصول المحافظين إلى السلطة، لم يندّد الرئيس حسن روحاني، زعيم الإصلاحيين، باستبداد المرشد ولم يحشد التظاهرات ضده، وإنما بعث له برسالة عتاب تحثه على إعادة النظر في تلك القائمة القصيرة لعلها تتسع لشخصيات معروفة في تياره الإصلاحي.

استجابة خامنئي “الديمقراطية” لطلب روحاني كانت مشهدا آخر في مسرحية الانتخابات التي يمارسها نظام طهران “الولي الفقيه” كل أربع سنوات. وكي يخرج العمل بأفضل إخراج ممكن، تلقف مجلس صيانة الدستور إشارة المرشد لمظلومية بعض المرشحين، ومضى في دراستها دون وعود بالتعديل، ليقول إن إيران “دولة مؤسسات” وليست إقطاعية للمرشد يأمر وينهي بها كيفما يشاء.

يعرف الإصلاحيون والمحافظون جيدا أين تفضي هذه المسرحية، وكيف تدار الأمور بعيدا عن أعين الناس ووسائل الإعلام، لذلك خرج روحاني قبل أيام ليعلن بشكل غير مباشر أن إنجاز الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة سيكون مهمة الحكومة المقبلة، بمعنى أن مفاوضات فيينا الحالية بين طهران والدول الست الكبرى، لن تكون بأي حال من الأحوال عاملا مؤثرا في الانتخابات الرئاسية المقبلة. لقد قُضي الأمر، وقال خامنئي كلمته التي ستترجم في صناديق الاقتراع بأصوات لصالح المرشح الذي يريده رئيسا للدولة، وربما خليفة له، وقد باتت حالته الصحية تتراجع بوضوح يوما بعد يوم وشهرا بعد آخر.

تشعر الدائرة المحافظة المقربة من خامنئي بأن استمرار الإصلاحيين في سدة الحكم لأربع سنوات أخرى، سيخل في توازن الحضور السياسي الداخلي والخارجي بين التيارين. وربما يؤثر على اختيار المرشد المقبل لـ”الجمهورية”، لذلك هم يفضلون إزاحة الإصلاحيين عن المشهد السياسي لبعض الوقت عبر لعبة الانتخابات التي لم تعد تجذب الإيرانيين.

جميع استطلاعات الرأي تتوقع مقاطعة شعبية كبيرة للانتخابات، وخاصة في ظل إصرار خامنئي على عدم خوض المرشحين بالملفات الخلافية خلال المناظرات التلفزيونية. ولأن الوضع بات مقلقا ويهدد بتشويه مسرحية الانتخابات، فقد تدخل المرشد بنفسه ليربط التصويت بالإيمان، ويحرّم الاحتجاج على الانتخابات ولو بورقة بيضاء ترمى في صناديق الاقتراع، لأن ذلك “يضعف النظام الإسلامي” على حد وصفه.

بقيت نقطة واحدة في الانتخابات تستحق تسليط الضوء عليها، وهي ماذا يمكن أن يتوقع الشارع الإيراني من المرشح المحافظ لرئاسة الدولة إبراهيم رئيسي، والإجابة باختصار تكمن في تاريخ هذا الرجل الذي صعد على جثث السجناء السياسيين خلال إعدامات عام 1988، أما شعار مكافحة الفساد والفقر الذي يرفعه في حملته الانتخابية، فهو مجرد دعاية ينتهي مفعولها مع وصوله إلى الرئاسة، فمن يحكم على الناس بالموت لمجرد التعبير عن آرائهم، لن يهتم بأي حال لموتهم جوعا أو تعذيبا.

العرب