عقد حلف شمال الأطلسي (الناتو) قمة في العاصمة البلجيكية بروكسل شاء زعماء الدول الـ30 الأعضاء في الحلف أن تكون متميزة وفارقة على أكثر من صعيد سياسي وعسكري واقتصادي وبيئي. ولم يتميز اللقاء بمشاركة الرئيس الأمريكي جو بايدن في أول جولة عالمية له فحسب، وإنما أيضاً بقدومه إلى اللقاء مبشراً بعودة الولايات المتحدة إلى المشهد الأورو ـ أطلسي بعد أن كان سلفه دونالد ترامب قد نأى بأمريكا عنه في كثير وليس في قليل فقط.
غير أن استئناف واشنطن علاقتها التاريخية المتميزة مع الحلف لم يأت مجاناً أو على سبيل تصحيح اعوجاج الإدارة السابقة، بل كان أيضاً بمثابة تأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى توظيف الناتو لخدمة مصالحها المختلفة، وتجنيده في قلب الأجندات الجيو – سياسية الأمريكية على نطاق عالمي، وخاصة في إطار التوترات الراهنة مع روسيا والصين. ولم يكن غريباً أن يعيد بايدن التذكير بالمبدأ العتيق السائد منذ تأسيس الحلف سنة 1949، فيقول بصراحة إن الناتو «شديد الأهمية للمصالح الأمريكية، ولو لم يكن موجوداً لتوجب علينا إيجاده».
ورغم أن الحلف أشار إلى وعود ومشاريع إصلاحية وانفتاح في مسائل الدفاع على التكنولوجيا والأبحاث الجامعية، فإن الكثير من الشكوك تحيط بالتزام الدول الأعضاء بمعالجة التغير المناخي وبلوغ الدرجة صفر في نسبة الانبعاثات الغازية التي تتسبب في الاحتباس الحراري، وذلك في موعد أقصاه سنة 2050. وبصرف النظر عن حاجة الحلف ذاته إلى تخفيض النسبة لأسباب عسكرية محضة في المقام الأول، فإن معضلة الوفاء بهذا الموعد تكبلها المطامع الإنتاجية المتزايدة للدول الأعضاء الأعلى تصنيعاً.
وقبل يوم من قمة بايدن مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جنيف، وكذلك تماشياً مع أجواء التصعيد التي تشهدها العلاقات الأمريكية ـ الصينية، لم يتردد الناتو في المسارعة إلى تجنيد نفسه خلف الرئيس الأمريكي، فشدد الأمين العام للحلف على ضرورة تكاتف أوروبا مع أمريكا الشمالية لمواجهة التحديات الأمنية التي تطرحها روسيا والصين.
وهذه النبرة تعيد ترجيع أصداء الحرب الباردة ولا تخدم السلام العالمي ولا حسن العلاقات الدولية، خاصة وأن غالبية الدول الأعضاء في حلف وارسو المنحل هي اليوم منخرطة في الحلف الأطلسي. لكن النبرة ذاتها لا تفلح في إخفاء الحقائق الصلبة حول المصالح الاقتصادية والصناعية التي تجمع عدداً من دول الناتو مع روسيا والصين، والدليل الأوضح هو خط أنابيب الغاز الروسي -الألماني «نوردستريم» أو صفقات السلاح بين تركيا وروسيا التي تزعج واشنطن.
ولعل أهم نجاحات قمة بروكسل تمثلت في اللقاءات الثنائية بين زعماء متخاصمين أو طبعت الخلافات علاقات بلدانهم الثنائية، فالتقى كل من بايدن والرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ ولاح أن اللقاءات خففت بعض التوتر على صعيد شخصي من دون أن تزيل الخلافات أو تستبدلها بتوافقات. بذلك تبدو الحصيلة الأوضح هي أن القمة كانت مناسبة جديدة لتجنيد الحلف خلف الأجندات الأمريكية، خاصة على أعتاب الانسحاب من أفغانستان ومصاعب كوفيد ـ 19 وترتيب البيت الداخلي الأطلسي.
القدس العربي