بعد أيام قليلة، من إعلان الحزب الشيوعي الصيني نهاية شهر مايو الماضي، تدشين سياسات جديدة تسمح للزوجين بالإنجاب حتى ثلاثة أطفال، أسرعت وكالة الأنباء الصينية الرسمية» شنخوا» بعمل استطلاع رأي للجمهور حول مدى إمكانية الالتزام بتلك التعليمات، التي أصدرها الحزب. لم يكن هدف الوكالة إعلام الناس بالخبر، أو قياس رضى الجمهور بتعليمات صادرة من أعلى سلطة في الدولة، بقدر ما أن تستفيد من الزخم الدائر حول القرار، في وسائط التواصل الاجتماعي الصيني وخارجيا على الفيسبوك، بعد أن شرعت المنصات الإعلامية الصينية بالتوسع في التواجد محليا ودوليا، في تحد واضح للإعلام الغربي.
كان السؤال مباشرا: هل أنت مستعد لأن يكون لديك 3 أطفال؟
لو طرحت وكالة الأنباء هذا الاستطلاع منذ سنوات، لحظت بمئات الملايين من المشاهدات دفعة واحدة، ولكنها لجأت إلى حذف الاستطلاع من موقعها خلال ساعات من ظهر يوم 7 يونيو الجاري، بعد أن صعقها حجم التعليقات التي أطلقها الجمهور. فقد صوت على الاستطلاع 22 ألفا خلال دقائق، قال 20 ألفاً منهم «لا نريد أطفالا». زاد الأمر حدة بعد أن علّق الناس بقولهم «أُف أُف». وكانت تعبيرات التأفف الجماعية مرافقة لقول بعضهم نفضل الإخصاء على ولادة الأطفال.. إذا كانت الحكومة تريد المزيد من الأطفال، فعليها أن تزيح عنا هم تربيتهم وتعليمهم.
دفعني هذا الموقف إلى التواصل مع زملاء صينيين كثيرين، خاصة من الذين يرغبون في ولادة أكثر من طفل، فوجدتهم قد انضموا إلى طائفة المتأففين من السياسات الجديدة، رغم ارتفاع مستواهم المادي والوظيفي. لم تكن تنتظر الحكومة الصينية ردود الأفعال هذه، فهي مازالت تعتقد أن حكماء الحزب الشيوعي أعلم بما تحتاجه الدولة، وأيضا ما يجب أن تقوم به الأسرة لحماية الدولة وأمنها القومي. وتتصور أنه يجب على الناس أن تلتزم بما تقول بمجرد الضغط على «كبسة زر» كما يقولون على التعليمات التي تصدر بقرارات سيادية، ليلتزم بها الجميع، ولكن هذه المرة تساءل الكثير من المسؤولين، لماذا تأفف الصينيون، بل لماذا يرفضون علنا «هذه المنحة» وكأنهم في إضراب جماعي؟ في الواقع لم تكن هذه أول مرة يرفض فيها الصينيون، أمرا متعلقا بحرية الإنجاب، التي تدخلت فيها سياسات الحكومة على مدار 70 عاما مضت. فرغم أن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ كان يقول «بأنه لا يخشى القنبلة النووية، لأنها لن تستطيع القضاء على شعب قوامه نحو 800 مليون نسمة» إلا أن الحزب الشيوعي أقر سياسات تستهدف حث المواطنين على خفض عدد المواليد، خاصة في المناطق الريفية، باعتبارها سببا من أسباب الفقر، وإنهاك مشروعات التنمية الاقتصادية. وفي نهاية فترة الثورة الثقافية قرر الحزب عام 1978، رفع سن الزواج للبنات والبنين، وعدم إنجاب أكثر من طفل في المدن والقرى، مع السماح بامتيازات للأقليات العرقية صغيرة العدد، التي تعيش خارج التكتلات السكانية الضخمة، ما لبث أن انتهت عمليا.
انتشار ظاهرة «الامبراطور الصغير المدلل» داخل المجتمع الصيني دفعت الحزب للسماح للأسرة بولادة طفلين بلا ضوابط تماما
واكبت سياسة الطفل الواحد مرحلة التحول الاقتصادي في الصين، واستطاعت الدولة التي تملك خمس سكان العالم، أن تقدم في البداية تسهيلاتها للمستثمرين بأنها تملك العمالة الرخيصة الماهرة، مع نمو الاقتصاد أيقنت الدولة أنها في حاجة إلى المزيد من العمالة، بعد أن تسربت عمالة أجنبية أرخص إلى داخل البلاد، من تايلند وفيتنام ولاوس وكمبوديا وميانمار وغيرها، للاستفادة من التحولات الكبرى في الصين. سمحت الحكومة عام 2000 للمتزوجين بإنجاب طفل ثان إذا كان الزوجان وحيدي أبويهما. وبدأت في الوقت نفسه وقف التعاملات الوحشية مع الحالات المخالفة، مكتفية بمنعهم من تولي الوظائف العامة ودفع غرامات مالية، بعد أن كان الأمر يشمل الإجهاض والإخصاء القسري، في حالة تكرار عملية الإجهاض أكثر من مرتين. وحدثت انفراجة كبيرة في هذه السياسات مع وصول الرئيس شي جين بينغ للسلطة، حيث سمح عام 2013 بولادة طفلين داخل الأسرة، إذا كان أحد الوالدين وحيد أبويه. ورغم تجاهل الحزب الشيوعي مقترحات النائب تينغ فانغ عضو المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني عام 2009، بأن «لا تتدخل الدولة في حرية الإنجاب، باعتبارها تتنافي مع الطبيعة» إلا أن انتشار ظاهرة «الامبراطور الصغير المدلل» داخل المجتمع الصيني هي التي دفعت الحزب عام 2015 إلى السماح للأسرة بولادة طفلين بلا ضوابط تماما.
أقلقت ظاهر الأمبراطور الصغير المجتمع بأسره، فقد نشأت أجيال «الطفل الواحد» على مدار 35 عاما، حيث أصبح الطفل مدللا من الوالدين والأجداد، فكل يعمل على توفير سبل الحياة الرغيدة له، من أجل تعليمه ورفاهيته. وانتشرت بين جيل الإمبراطور الصغير الكثير من الصفات السيئة كالأنانية والانطوائية، والنزعة الاستهلاكية، مع كراهية العمل وتحمل المشاق. ونشأت تجمعات الشواذ، وكثرت روابط رافضي الزواج طلبا للاستمتاع بالحياة والرفاهية الاقتصادية، كما وجدت ظاهرة قطع الشاب القناة الدافقة للسائل المنوي ليمنع الإنجاب بإرادته.
وهذه الظاهرة يرجعها البعض إلى ترك الآباء والأمهات للأبناء والعمل في أماكن بعيدة عن موطنهم الأصلي من أجل جمع المال، وعدم تواصلهم مع «الطفل الوحيد» الذي يتربي في كنف أجداده أو أقاربه من كبار السن، لعدم قدرة الوالدين على اصطحابه معهم، إما لانشغالهم بالعمل، أو لعدم قدرتهم على تغيير محل إقاماتهم بصفة دائمة. أصحاب هذه الظاهرة يكرهون أن يلدوا أبناءً يتحملون متاعبهم نفسها، إشفاقا منهم على الأجيال القادمة، ومنهم من ينغمس في الحياة المادية ويريد الاستمتاع بكل وسائل الترفيه، وبعضهم يرى أنه أصبح مسؤولا عن أسرة كبيرة تتكون من 4 جدود ووالدين، وهذه الظاهرة تعرف بـ4 ـ 2 ـ 1.
أثرت هذه الأفكار على أجيال عصر الطفل الواحد، مع ذلك وجدت سياسة الطفلين صدى مع تطبيقها عام 2016، حيث زاد عدد السكان بمعدل 12.9 مولود لكل ألف نسمة عن عام 2000، حيث بلغ عدد المواليد نحو 17.8 مليون طفل، ثم ما لبث أن تراجعت نسبة الزيادة في السكان في الأعوام التالية، ويتوقع أن يقل عدد المواليد عام 2028 عن 8 ملايين طفل، وفي الوقت نفسه سينخفض عدد النساء في سن الإنجاب بين 23 و30 سنة بمعدل 40%، مع انخفاض نسبة الخصوبة لديهن بسبب تناول الأدوية المانعة للحمل وتكرار الإجهاض. تناقص أعداد المواليد أصبح يسبب معضلة كبرى للحزب، لأنها تهدد مكانة الصين الاقتصادية، وتسبب مشكلة ديموغرافية خطيرة. فعدد السكان فوق الستين عاما بلغوا عام 2020، نحو 264 مليون نسمة منهم 190 مليون فوق 65 عاما، ومع زيادة الأعمار يتوقع أن يصل تعدادهم إلى 350 مليون نسمة عام 2035، وهو معدل يزيد مرة ونصف المرة عن المعدلات التي تحددها الأمم المتحدة لتحقيق النمو الجيد في الدول.
وبينما جاء اجتماع المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني يوم الاثنين 31 مايو الماضي، مستهدفا تحسين الهيكل السكاني والحفاظ على الموارد البشرية، وخفض الشيخوخة، في بلد يتطلع إلى إدارة العالم خلال عقدين، كانت الصدمة أن يأتي الرفض في هذا التحول من المواطنين، الذين يعارضون أن تستمر الحكومة في التدخل في حياتهم الشخصية بطريقة تفتقر إلى حسن المراعاة، لأن إنجاب الأطفال، كما تذكر الدعاية الحكومية «من أجل البلاد» لا يمكن أن يأتي بقرار سياسي، كما وقع عليهم من قبل. فإن كانت الحكومة تسعى إلى رفع سن التقاعد إلى 60 عاما للمرأة والرجل إلى 65 عاما لخفض الضغوط على نظام التقاعد، وتراجع أعداد القوى العاملة، فإن الكبار يرفضون ذلك لشعورهم بالتعب الشديد لسنوات طويلة من أجل لقمة العيش، ويريدون الآن جنى أرباح الحياة قبل فوات الأوان. كما يقول الشباب «الدولة كانت تريدنا أن نتزوج متأخرا، وننجب أقل، والآن تدعونا لسياسات معاكسة، في تغيير سريع، وهي تعلم أن تشجيع النمو أصبح أصعب من كبحه». ويدعو البعض إلى ضرورة أن تعالج الدولة أسباب عزوف الشباب عن الإنجاب بتخفيض كلفة تربية الطفل الواحد، الذي أصبح يلتهم 50% من دخل الأسرة شهريا، مع ارتفاع نفقات التعليم ومستلزمات الحياة، فإذا كانت الحكومة تعتبر الأمر مسألة قومية، فعليها أن تتحمل الأعباء ماليا، فنحن «بحاجة إلى التنفس» وبغض النظر عما يثيره البعض من مخاوف بسبب ظاهرة «الامبراطور الصغير» فإنه ليس كل طفل وحيد مدللا، بل هناك الملايين الذين يتحملون أعباء مالية واجتماعية ضخمة، في بلد أصبحت فيه الفروق الاقتصادية كبيرة وواضحة ويعيش فيه نحو 900 مليون نسمة بأقل من 5 دولارات يوميا، خاصة في المناطق الريفية الذين يضطرون إلى الارتحال للعمل أغلب العام بالمدن البعيدة من أجل تدبير المال لأبنائهم.
عادل صبري
القدس العربي