سجلت قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الأخيرة، وخصوصًا اللقاء الذي جمع الرئيسين التركي أردوغان والأميركي بايدن، مؤشرًا إضافيًّا على تعديل أنقرة بوصلتها بتقارب أكثر مع الولايات المتحدة والغرب وعلى مسافة أوضح من روسيا.
تقارب تكتيكي
منذ وصوله إلى حكم تركيا في 2002، تبنّى حزب العدالة والتنمية سياسة خارجية متعددة الأبعاد والمحاور بالنظر إلى انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وانتهاء الحرب الباردة، ومن ثم ضرورة اختلاف منظومة التحالفات وبوصلة العلاقات الخارجية، وكان من نتائج ذلك الانفتاح على علاقة أفضل مع روسيا منذ 2004.
وعلى مدى السنوات الماضية، تعمّقت العلاقات بين أنقرة وموسكو وتشعبت وتوطدت لدرجة أنه ساد انطباع بأن تركيا باتت أقرب إلى خصمها التاريخي التقليدي منها إلى حلفائها الغربيين في الولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، ولذلك سببان رئيسان.
الأول هو رغبة أنقرة بسياسة خارجية أكثر استقلالًا وتوازنًا وتحقيقًا لمصالحها، على عكس حقبة الحرب الباردة التي كان يُنظر إليها خلالها على أنها مجرد ترس في ماكينة الناتو وقاعدته المتقدمة في مواجهة موسكو. والثاني هو تجاهل حلفائها التقليديين لمصالحها وأمنها القومي، خصوصًا ما يتعلق بالأزمة السورية مثل سحب بطاريات باتريوت من أراضيها على عكس رغبتها، ورفض بيعها أي منظومة صاروخية دفاعية، والدعم الأميركي لمنظمات انفصالية في الشمال السوري تصنفها أنقرة منظمات إرهابية.
وقد شملت العلاقات المتنامية باضطراد بين تركيا وروسيا تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية، ونسج تفاهمات في الملفات ذات الاهتمام المشترك، ومشروعات طاقة عملاقة مثل السيل التركي للغاز الطبيعي ومحطة أك كويو للطاقة النووية، وصولًا إلى شراء أنقرة من موسكو منظومة S400 الدفاعية الصاروخية التي زادت توتر علاقاتها بواشنطن.
دفع كل ذلك البعض لتوصيف العلاقة بين تركيا وروسيا على أنها تحالف أو محور، وهو توصيف مبالغ به ومأخوذ بسطوة الحدث الراهن، في حين إن حقيقة العلاقات أنها تقارب تكتيكي لا تحالف أو محور. ذلك أن رؤى البلدين ما زالت مختلفة بل متناقضة وأحيانا متصادمة في معظم القضايا والملفات الإقليمية، بدءًا من سوريا وليبيا، مرورًا بالبحر الأسود وشرق المتوسط، وليس انتهاء بجنوب القوقاز وضمّ شبه جزيرة القرم.
فجوة الثقة بين أنقرة وموسكو كانت موجودة قبل قمة الناتو، غير أن روسيا سترسخها وتعمقها في ما يبدو، فقد أكدت تصريحات أردوغان بعد القمة عمق تبنّي تركيا السابق والحالي والمستقبلي لرؤية الحلف والتزام مسؤولياتها داخله.
حتى القضايا التي توصل فيها الجانبان إلى تفاهمات ما، مثل سوريا وليبيا، بنياها على أساس الاختلاف لا الاتفاق وبنيَّةِ تجنب الصدام وتحقيق الحد الأدنى من الأهداف المشتركة. وفي سوريا تحديدًا أدّت الخلافات بين الجانبين إلى إيصال رسائل ساخنة معمّدة بالدماء في محطات بعينها، وهو سلوك روسي تكرر مرات عدة، وإن كانت أنقرة في تصريحاتها الرسمية اتهمت دائمًا النظام السوري وليس موسكو.
قمة الناتو
ولأنها مبنية على أساس إدارة الاختلاف لا التوافق، لطالما كانت التفاهمات التركية-الروسية هشة وأصابتها هزات كبيرة، كذلك فإن موقف أنقرة في كثير من القضايا الإشكالية مع روسيا كان مناوئا لموسكو وأقرب إلى واشنطن.
فقد رفضت تركيا منذ البداية ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم، وهو الموقف الموحد للناتو والمشترك مع الاتحاد الأوروبي، وانتقدت سياساتها المتعلقة بأتراك القرم، وكررت هذه المواقف مرارًا خصوصًا في التوتر الأخير بين أوكرانيا وروسيا.
أكثر من ذلك، فقد قدمت تركيا لأوكرانيا، خلال زيارة أردوغان لكييف عام 2020، هبة بقيمة 200 مليون ليرة (في حدود 23 مليون دولار) لدعم قواتها المسلحة، فضلا عن بيعها طائرات دون طيار (مسيّرات) تركية، قالت كييف إنها استخدمتها أخيرا في ظل التوتر مع موسكو. كذلك فإن الدور الذي اضطلعت به تركيا في ليبيا دعمًا لحكومة الوفاق الوطني ضد قوات حفتر كان موازنًا للدور الروسي ومواجهًا له إلى حد كبير.
وتركيا انتهجت خارجيًّا سياسة وخطابًا مختلفين منذ بداية 2021، أكثر انفتاحًا على أوروبا وتصالحًا معها، وقد لخصها تصريح الرئيس التركي الشهير بأن بلاده ترى نفسها “في أوروبا”، وتريد “تأسيس مستقبلها معها”.
والخلاصة أن فجوة في الثقة بين أنقرة وموسكو كانت موجودة قبل قمة الناتو، غير أن روسيا سترسخها وتعمقها في ما يبدو. فقد أكدت تصريحات أردوغان بعد القمة عمق تبنّي تركيا السابق والحالي والمستقبلي لرؤية الحلف والتزام مسؤولياتها داخله، مذكّرًا بأن بلاده القوة العسكرية الثانية في الحلف، وضمن أكثر 5 دول أعضاء إسهاما في عملياته ومهامه، وضمن أكثر 8 مساهمة في الميزانية المشتركة، وبأن حدودها هي حدود الحلف نفسه.
وتصريحات الرئيس التركي قبل القمة وبعدها كانت متفائلة بخصوص مستقبل العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، إذ أكد أنه “لا مسائل لا يمكن حلّها” بين الجانبين، وأن بلاده حريصة على تطوير العلاقات معها في مختلف المجالات. وهي تصريحات قابلها بايدن بوصف اللقاء مع أردوغان بأنه كان “إيجابيًّا وبنّاء”، فضلا عن إقرار استمرار الحوار عبر لجان من ذوي الاختصاص. وقد حوت لقاءاتُهُ العديدة مع مختلف القادة الأوروبيين إشارات واضحة إلى رغبة بلاده بتوطيد العلاقات مع شركائها الأوروبيين والأطلسيين.
جاء كل ذلك في قمة ذكر بيانُها الختامي روسيا 63 مرة في 9 بنود منفصلة كتهديد وتحدٍّ للتحالف، محذّرًا من “التعزيزات العسكرية المتزايدة لروسيا، وسعيها لزيادة نفوذها”، وكذلك “تصرفاتها الاستفزازية خصوصًا قرب حدود حلف الناتو”، وأن برامجها للتسلح بما في ذلك الأسلحة النووية “تسهم في سلوك ترهيب إستراتيجي يزداد عدوانية”.
ردة فعل روسية
بمحصلة كل ذلك، وبالنظر إلى أن صفقة S400 الروسية تبدو العقبة الأكبر أمام تطوير علاقاتها مع واشنطن أخيرًا، وبعد أن كانت تركيا تتحدث عن احتمال إقبالها على صفقة ثانية من المنظومة نفسها، فقد أبدت مرونة كبيرة في هذا الملف، بدءًا من تأجيل تفعيلها وليس انتهاء بإبداء الاستعداد لمشاهد بديلة يمكن التوافق بخصوصها مع واشنطن التي ما زالت ترفض ذلك.
وفي هذا الصدد كانت تصريحات وزير الدفاع التركي خلوصي أكار بخصوص المنظومة والمتزامنة مع قمة الناتو لافتة. فقد قال أكار إن “الحلول المعقولة والمنطقية ممكنة دائمًا”، مشيرًا إلى أن “مساهمة تركيا في الناتو وتعاونها معه أعمق وأشمل بكثير من منظومة S400 ومقاتلات F35”.
كل هذه التوجهات والسياسات والتصريحات لم تمر على روسيا مرور الكرام، إذ يوحي عدد من التطورات حديثا بفتور في العلاقات ورسائل ضغط روسية على أنقرة.
ذلك أنه فضلا عن تراجع وتيرة اللقاءات والتواصل بين بوتين وأردوغان في المرحلة الأخيرة على عكس السنوات القليلة الماضية، قررت موسكو في مايو/أيار الماضي وقف الرحلات السياحية إلى تركيا بدعوى جائحة كورونا، وهو أمر فهم منه رسالة سياسية بخصوص أوكرانيا تحديدًا، لا سيما أن روسيا هي الدولة الأكثر إرسالًا للسياح إلى تركيا، وكون السياحة ذات أهمية استثنائية للاقتصاد التركي، بخاصة في ظل الظروف الحالية.
كذلك فإن تزايد وتيرة الهجمات والقصف في الشمال السوري في الأسابيع القليلة الماضية، إن كان من قبل النظام أو المقاتلات الروسية أو قوات سوريا الديمقراطية التي ما زالت تحظى بغطاء روسي في تل رفعت، يمكن وضعه في سياق الرسائل الروسية تجاه تركيا. كما أن التعنت الروسي بخصوص تجديد استخدام معبر باب الهوى لإيصال المساعدات الإنسانية إلى مناطق المعارضة السورية في الشمال يمكن تفسيره في بعض جوانبه بالطريقة نفسها.
أكثر من ذلك، ثمة تخوفات بأن تعمد روسيا -وأطراف أخرى- لتسخين الأوضاع في ليبيا لمزيد من الضغط على تركيا. وقد تواترت بعض المؤشرات على احتمال التصعيد في ليبيا قبيل عقد النسخة الثانية من مؤتمر برلين في الـ23 من يونيو/حزيران الجاري، ومن ذلك تصريحات لمعسكر حفتر واستعراضات عسكرية وقرار إغلاق الحدود مع الجزائر وغيرها.
وفي الخلاصة، لا تبدو العلاقات التركية-الروسية أخيرا بالدفء نفسه الذي عُرفت به خلال السنوات القليلة الماضية. وقد أسهمت قمة الناتو الأخيرة، بما تخللها من قرارات وتصريحات وإيحاءات، بزيادة الفجوة بين أنقرة وموسكو، رغم أنهما حريصتان على الإبقاء على المسار الإيجابي لهذه العلاقات لما تحققه من مكاسب كبيرة لكليهما وعلى تجنب الصدام المباشر.
بيد أن الضغوط الأميركية المتزايدة على أنقرة بخصوص العلاقات مع موسكو تجعل خيارات تركيا محدودة أكثر من السابق، ما قد يثير هواجس لدى روسيا ويدفعها لإيصال رسائلها بوسائل لا تفضّلها أنقرة، وهو أمر من شأنه توسيع الهوة أكثر فأكثر بين الجارَتيْن اللدودَتيْن أكثر من ذي قبل.
سعيد الحاج
الجزيرة