عقد الرئيسان، الأميركي جو بايدن، والروسي فلاديمير بوتين، قمّة في جنيف، في 16 حزيران/ يونيو 2021، في محاولةٍ لخفض التوتر المتصاعد بين بلديهما. وعلى الرغم من أن القمة استمرت ثلاث ساعات، فإنها لم تسفر عن نتائج كبيرة، ولم يصدُر عنها إلا بيان مشترك مقتضب حول “الاستقرار الاستراتيجي” يتعلق، خصوصًا، بالسعي إلى الحد من سباق التسلّح والانتشار النووي. وقد رفض الجانب الأميركي عقد مؤتمر صحفي مشترك بين الرئيسين، ما فرض إجراء مؤتمرين صحفيين منفصلين عوضًا عن ذلك، لعدم إعطاء بوتين “الاهتمام الدولي” الذي يتوق إليه، بحسب ما تراه واشنطن، وتفويت الفرصة عليه في تحويل المؤتمر الصحفي إلى مناظرة علنية. ومع ذلك، يقول الجانبان إن القمة وإن لم تكن ودية، فإنها لم تكن عدائية.
نتائج متواضعة
باستثناء البيان المشترك حول “الاستقرار الاستراتيجي” الذي أصدره الرئيسان، لا يمكن الحديث عن إنجازاتٍ ملموسةٍ في أيّ من الملفات التي ناقشاها. ويبدو أن الطرفين اعتبرا هذه القمّة مقدّمة لحواراتٍ أكثر تفصيلًا بين مساعديهما. وبحسب البيان المشترك، فإن الدولتين تطمحان إلى إحراز تقدّم في أهدافهما المشتركة “المتمثلة في ضمان القدرة على التنبؤ في المجال الاستراتيجي، والحدّ من مخاطر النزاعات المسلحة وخطر الحرب النووية”. وتحيل هذه العبارة، على ما يبدو، إلى احتمالات تطوير أسلحة وأنظمة إطلاق نووية جديدة غير مشمولةٍ في اتفاقات ضبط الأسلحة النووية الحالية. ويُفهم من لغة البيان أنه لم يتم بعدُ الاتفاق على التفاصيل؛ ذلك أن البلدين سيشرعان في حوارٍ ثنائيٍّ حول الاستقرار الاستراتيجي في المستقبل القريب، بهدف “إرساء أساس للتدابير المستقبلية للحدّ من الأسلحة، والحدّ من المخاطر”. وبحسب بايدن، قد يستغرق الأمر ما بين ستة أشهر إلى سنة، قبل أن يُعْرَفَ ما إذا كانت المناقشات بشأن “الاستقرار الاستراتيجي” ستسفر عن شيء.
قد تكون إدارة بايدن وجدت أنه لا بد من الحوار مع روسيا لتقديم محفّزات لبوتين، لتشجيعه على تغيير سياساته في ملفاتٍ معينة
وعلى الرغم من أن الرئيسين تحدّثا، في مؤتمريهما الصحفيين، عن جملة من القضايا الأخرى التي تمّت مناقشتها، بما فيها مساعي حلف شمال الأطلسي (الناتو) للتوسع شرقًا والتوتر الروسي – الأوكراني، والعقوبات الأميركية على موسكو، وحقوق الإنسان، والأمن السيبراني، والمفاوضات النووية مع إيران، والانسحاب الأميركي المرتقب من أفغانستان، والأوضاع في سورية وليبيا، والعلاقات التجارية، وآفاق التعاون في القطب الشمالي، فإنه لم يصدُر عنهما موقفٌ مشتركٌ يوضح ما إذا كانا قد توصّلا إلى تفاهمات بشأن أيٍّ منها.
الحسابات الأميركية
جاء عرض بايدن عقد القمة في بلدٍ ثالث خلال اتصال هاتفي أجراه مع بوتين في نيسان/ أبريل الماضي، وهو أمرٌ لم يكن محل توافق بين جميع مستشاريه. وعلى الرغم من أنه سبق له أن وصف بوتين بـ “القاتل”، وتعهّد بالعمل على احتواء روسيا وردع محاولاتها اختراق الساحة الأميركية عبر القرصنة الإلكترونية، فضلًا عن سياساتها “المزعزعة للاستقرار في شرق أوروبا والعالم”، فإن بايدن يدرك عدم إمكانية تجاهل روسيا، وحاجته إلى التعاون معها بشأن جملة من القضايا الدولية. ويمكن تلخيص الحسابات الأميركية في العلاقة مع روسيا فيما يلي:
• أولًا، على الرغم من العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على روسيا، فإنها لم تنجح في تغيير سلوكها. ومن ثم، قد تكون إدارة بايدن وجدت أنه لا بد من الحوار مع روسيا، وربما حتى تقديم محفّزات لبوتين، لتشجيعه على تغيير سياساته في ملفاتٍ معينة، وليس فقط حشره في زاوية ضيقة، ومن ذلك وصف بايدن له بـ “الخصم المعتبر”.
• ثانيًا، دفعت الضغوط الأميركية المتواصلة على روسيا إلى تقاربها مع الصين التي تعتبرها واشنطن التحدّي الجيوسياسي الأبرز الذي تواجهه عالميًا. وعلى الرغم من أن موسكو وجدت نفسها مضطرّة إلى هذا التحالف، فإنها لا ترغب فيه، وتفضل أن تكون مقبولة من الغرب؛ إذ لا ترغب في تحالف صيني – روسي تكون فيه الصين صاحبة المطامع الاقتصادية غير المحدودة، هي الدولة الأقوى، وبينهما ملفاتٌ كثيرة غير محلولة في آسيا.
تسعى إدارة بايدن إلى إقناع حلفائها أن “أميركا قد عادت” إلى تبوّؤ دورها القيادي عالميًا
• ثالثًا، تسعى إدارة بايدن إلى إقناع حلفائها أن “أميركا قد عادت” إلى تبوّؤ دورها القيادي عالميًا، وذلك بعد أربع سنوات من حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي خلّف تراجعًا كبيرًا للولايات المتحدة على الساحة الدولية، وتآكلًا في صدقيتها بين حلفائها، وضعفًا لهيبتها بين خصومها. وفي هذا السياق، أعلن بايدن، أكثر من مرّة، أنه يريد إعادة ترميم المكانة الجيوسياسية للولايات المتحدة، واستعادة صدقيتها ونفوذها العالمي، بحيث يحترمها حلفاؤها من جديد ويثقون بقيادتها، ويحسب خصومها لها حسابًا، وتحديدًا الصين وروسيا. وبناء عليه، حرص الجانب الأميركي على أن تكون القمّة الثنائية ضمن سياق أوسع، ومبنيةً على بدء تعافي الولايات المتحدة اقتصاديًا من تداعيات جائحة كورونا، وعودتها إلى قيادة العالم “من موقع قوة”، كما يقول بايدن، وبدعمٍ من “الدول التي تشاركنا قيمنا ورؤيتنا للمستقبل لـ “مواجهة الأنشطة الضارة لحكومتي الصين وروسيا”. ولهذا جاءت القمة في سياق جولة أوروبية دامت أسبوعًا، بدأها بايدن من مدينة كورنوال، جنوب غرب بريطانيا، حيث التقى رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، في 10 حزيران/ يونيو، ثمَّ شاركا معًا في اليوم التالي في قمة مجموعة السبع الكبار هناك، مرورًا بقمة لقادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في العاصمة البلجيكية بروكسل، في 14 من الشهر ذاته، ثم قمّة أخرى في المدينة نفسها مع قادة الاتحاد الأوروبي في اليوم التالي، قبل أن يتوجه إلى لقاء بوتين في جنيف في 16 حزيران/ يونيو. وكان واضحًا تركيز البيانات الختامية للقمم التي عقدها بايدن على موضوعي الصين وروسيا، وهو الأمر الذي أصرّت عليه واشنطن مسبقًا. وبحسب مقال كتبه بايدن في صحيفة واشنطن بوست، قبل بدء جولته الأوروبية، فإن إدارته ستركّز “على ضمان قيام الديمقراطيات، وليس الصين أو أي جهة أخرى، بكتابة قواعد القرن الحادي والعشرين حول التجارة والتكنولوجيا”. وأضاف “عندما ألتقي فلاديمير بوتين في جنيف، سيكون ذلك بعد مناقشات رفيعة المستوى مع الأصدقاء والشركاء والحلفاء الذين يرون العالم من خلال عدسة الولايات المتحدة نفسها”. وبهذا، ذهب بايدن للقاء بوتين متسلحًا، إلى حد بعيد، بدعم مجموعة الدول الصناعية الكبرى، والاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو.
ترى روسيا أن حلف الناتو ماضٍ، منذ أكثر من عقدين، في تضييق الخناق عليها في فضائها الجيوستراتيجي
• رابعًا، ترسيم خطوط أميركية حمراء، على نحوٍ مباشرٍ وصريح، أمام بوتين، وذلك حتى لا ينزلق الطرفان إلى تصعيدٍ أكبر وأوسع لا يريدانه. وتخشى واشنطن من أن ينجح قراصنةٌ روس في تعطيل أنظمة الكمبيوتر الأميركية على نحوٍ تترتب عليه أضرار جسيمة، وهو ما قد يضطرّها إلى الرد بالمثل. وكان بايدن قد حذّر بوتين ضمنيًا بأن لدى واشنطن “قدرات سيبرانية كبيرة”، وسأله ماذا سيحدث لو استهدفت الولايات المتحدة أنابيب نقل النفط من الحقول الروسية كإجراء انتقامي؟
• خامسًا، تقول واشنطن إنها تريد علاقة مستقرّة مع روسيا ويمكن التنبؤ بها، بحيث يمكنها العمل معها في قضايا مثل الاستقرار الاستراتيجي ومراقبة التسلح.
الحسابات الروسية
تنطلق الحسابات الروسية من أن الولايات المتحدة والغرب يحاولان تطويقها وعزلها بذريعة دعم التحولات الديمقراطية في دولٍ مجاورة لها. وبالنسبة إلى روسيا، فإن كثيرًا من سياساتها وممارساتها التي تزعج الغرب، كما في أوكرانيا، هي تعبيراتٌ عن رفض محاولات فرض قواعد جائرة عليها، تحاصرها وتحدّ من قدرتها على التحرّك والدفاع عن مصالحها. ويمكن تلخيص الحسابات الروسية فيما يلي:
• أولًا، ترى روسيا أن حلف الناتو ماضٍ، منذ أكثر من عقدين، في تضييق الخناق عليها في فضائها الجيوستراتيجي، خصوصًا في أوروبا الشرقية والوسطى، التي كانت تحت نفوذها المباشر زمن الاتحاد السوفياتي. ففي عام 1999 ضمَّ الحلف بولندا والمجر والتشيك، ثم في 2004 تبعتها بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا، ثمَّ ألبانيا وكرواتيا عام 2009، والجبل الأسود عام 2017. وفي 2019 أعلن “الناتو” أن البوسنة والهرسك وجورجيا ومقدونيا الشمالية وأوكرانيا أعضاء مرشّحون لعضويته. ولا تُبدي موسكو أي نيةٍ للمساومة على ضم أوكرانيا في أوروبا الشرقية، وجورجيا في جنوب القوقاز، إلى الحلف، وهي تعتبر ذلك خطًا أحمر بالنسبة إليها. وبناء عليه، تطمح روسيا إلى أن تكون هناك تسوية مع الولايات المتحدة حول هذا الملف، لما سيترتّب عليه من تداعيات جيوستراتيجية وعسكرية واقتصادية كبرى على كل الأطراف، وخصوصًا أن روسيا تملك أدواتٍ للضغط على بعض الدول الأوروبية الأعضاء في “الناتو”، كألمانيا مثلًا، عبر الغاز الذي تصدّره إليها، وعلى تركيا عبر العلاقات الاقتصادية والجوار الاستراتيجي، وعلى أوروبا عبر سورية وليبيا، وكذلك عبر الملف النووي الإيراني. إضافة إلى ذلك، تملك روسيا القدرة على زعزعة الاستقرار العالمي، وتحديدًا الأوروبي، كما أنها أثبتت كفاءةً عاليةً في قدرتها على المسِّ بالاستقرار الأميركي نفسه عبر اختراقها إلكترونيًا.
ألحقت العقوبات الاقتصادية الأميركية – الغربية على موسكو أضرارًا بالغة بالاقتصاد الروسي
• ثانيًا، ألحقت العقوبات الاقتصادية الأميركية – الغربية على موسكو أضرارًا بالغة بالاقتصاد الروسي، وتفيد المعطيات الاقتصادية بأن الاقتصاد الروسي نما بمعدل 0.3% سنويًا، منذ عام 2014، بينما كان المتوسط العالمي 2.3% سنويًا. وقد ترتب على تلك العقوبات أيضًا تخفيض المستوى الائتماني للاقتصاد الروسي، وضعف الاستثمار الأجنبي المباشر في روسيا، ما أدّى إلى تراجع نمو الاقتصاد هناك ما بين 2.5% – 3% سنويًا، أي إن خسارة روسيا كانت في حدود خمسين مليار دولار سنويًا. لذلك، يحرص الكرملين على التوصل إلى تسوياتٍ مع الولايات المتحدة تخفّف من حدّة الحصار الاقتصادي على البلاد، فضلًا عن تجنّب سباق تسلح نوويٍّ جديد مع واشنطن سيكون مكلفًا جدًا بالنسبة إلى روسيا.
• ثالثًا، تسعى روسيا إلى التأكيد على مكانتها بوصفها قوةً عالمية، ليس بالضرورة منافسًا رئيسًا للولايات المتحدة، ولكنها تصرّ على أن تؤخذ مصالحها في الاعتبار، وأن أيّ مسّ بمكانتها هذه يدفعها إلى إظهار قوتها بطرقٍ مؤثرة تزعج الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، فإن بوتين لديه حرص شخصي على أن تتعامل معه الولايات المتحدة بندّية، وليس باعتباره شريكًا أصغر أو أقل أهمية.
خاتمة
ترى إدارة بايدن أن استمرار التوتر وتصاعده مع روسيا يدفعانها إلى الاقتراب أكثر من الصين التي تعتبرها الولايات المتحدة أكبر تهديدٍ لمكانتها الجيوستراتيجية. وبحسب وثيقة “التوجيهات الاستراتيجية” الصادرة عن البيت الأبيض في آذار/ مارس 2021، تمثّل الصين “المنافس الوحيد المحتمل القادر على الجمع بين قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتشكيل تحدٍّ جديّ للمصالح الأميركية وللنظام الدولي الذي وضعت واشنطن أسسه بعد الحرب العالمية الثانية”. أما روسيا، فلديها مخاوف لا تعبّر عنها من العملاق الصيني الصاعد على حدودها؛ إذ على الرغم من أن الصين باتت أكبر مستورد للنفط الخام الروسي، فإن روسيا أصبحت، في المقابل، سوقًا كبيرة للبضائع الصينية المصنّعة، وفي هذا يختل الميزان التجاري بقوة لصالح الصين. كما يتزايد قلق روسيا من الصين في ضوء تمدّد الأخيرة في مناطق نفوذ الأولى التقليدية، في آسيا الوسطى خصوصًا، والتي تعد اليوم جزءًا أساسيًا من مبادرة الحزام والطريق الصينية. وفي هذا الإطار، ما تطمح إليه واشنطن هو الاستفادة من المخاوف الروسية تجاه الصين لإبعادها عنها، لكن في المقابل تريد أن ترسم لروسيا خطوطًا حمراء لا تريد تجاوزها في جملةٍ من القضايا الخلافية التي لا يتوقع أن يكون حلها سهلًا أو حتى ممكنًا في المدى المنظور.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات