على الرغم من عدم عقد مؤتمر صحفي مشترك بين الرئيسين بايدن وبوتين في اجتماعهما في 16 حزيران (يونيو)، إلّا أن اللقاء كان بمثابة مكافأة لبوتين بعد الرد الصامت على سلسلة من الاختراقات السيبرانية الروسية والأعمال العدائية على أيدي وكلاء الكرملين في ظل تنامي القمع المحلي في روسيا. ويشير هدف بايدن المتمثل في إقامة “علاقات مستقرة وقابلة للتنبؤ” مع روسيا، ورغبته في التمكن من تركيز طاقة أكبر على الصين، إلى أنه يسئ فهم الكرملين وحساباته الاستراتيجية.
* *
في 16 حزيران (يونيو)، اجتمع الرئيس جو بايدن مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جنيف، غير أن اللقاء لن يؤدي إلى إعادة ضبط العلاقات بين البلدين ولا حتى إلى عقد مؤتمر صحفي مشترك. ولا شك في أن الأمر الأخير أزعج بوتين، الذي عادة ما يستغل مثل هذه الأحداث للارتقاء رمزياً بمكانته. ولكن، يبدو أن إدارة بايدن استوعبت دروساً مهمة من الإدارات الأميركية السابقة، الديمقراطية والجمهورية على حدٍ سواء، التي سعت إلى تحسين العلاقات مع روسيا لتعود من مساعيها محبطةً. ومع ذلك، فإن الواقعيظل أقل تشجيعاً.
أولاً، على الرغم من عدم عقد مؤتمرٌ صحفي مشترك، إلّا أن اللقاء كان بمثابة مكافأة لبوتين بعد الرد الصامت على سلسلة من الاختراقات السيبرانية الروسية والأعمال العدائية على أيدي وكلاء الكرملين في ظل تنامي القمع المحلي في روسيا. وعلى الرغم من الصرخة الاحتجاجية التي أطلقها كلا الحزبين في الكونغرس الأميركي، فقد تخلى بايدن عن نفوذٍ حاسم حين رفع العقوبات عن خط أنابيب “نورد ستريم 2″، وهو أبرز مشروع جيوسياسي لبوتين في أوروبا. لكنّ الأهم من ذلك هو أن هدف بايدن المتمثل في إقامة علاقات مستقرة وقابلة للتنبؤ مع روسيا، ليتمكن من تركيز طاقة أكبر على الصين، يشير إلى أنه أساء فهم الكرملين وحساباته الاستراتيجية.
في الواقع، يفضّل بوتين نوعاً من المواجهة والصراع على العلاقة المستقرة مع الغرب لأنه يلتمس الحصول على اعتراف بمكانة بلده كقوة عظمى ذات مجال نفوذ “متميز”. لكنّ هناك قضيةً أعمق تحرّك هذه المطالب، إذ يرفض بوتين الليبرالية الغربية ويسعى إلى تقويض النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. ولهذه الغاية، لم يضع أنظاره على أوروبا فحسب، وإنما أيضاً على البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط -أي المنطقة التي لطالما اعتبرها الحكام الروس الجنوب “الضعيف”. وللمرة الأولى منذ العام 1972، أصبح لدى روسيا قاعدة عسكرية كبيرة على البحر المتوسط، وسوف تواصل تعزيز وضعها العسكري الإقليمي في إطار حسابات بوتين الاستراتيجية العالمية لردع الغرب.
في سبيل تحقيق أهدافه، يدأب بوتين باستمرار على تكوين نفوذ براغماتي صارم تدعمه القوة العسكرية. وما تزال سورية -الدولة الحيوية المهمة من الناحية الاستراتيجية- أساسيةً في حساباته الإقليمية. ولم يتوانَ بوتين وكبار المسؤولين الروس خلال الأسابيع الأخيرة عن تكرار الادعاء المتداول منذ زمن بأن العقوبات الغربية ضد الرئيس السوري بشار الأسد أضرّت بالشعب السوري، في إطار حملة ضغط مستمرة لتولّي نظام الأسد مهمة توزيع جميع المساعدات، وهو الذي يُعتبر مسؤولاً عن تجويع شعبه في المقام الأول.
ولدعم الأقوال بالأفعال، استهدفت الضربات الجوية الروسية مؤخراً التنظيم الجهادي “هيئة تحرير الشام” الذي يهيمن على محافظة إدلب شمال غرب سورية، وهي آخر معاقل المعارضة المناهضة للأسد وموطن ثلاثة ملايين مدني، كثيرٌ منهم من الأطفال. ولا يجدر بنا أن نخطئ الظن بأن هدف الضربات الروسية كان مكافحة الإرهاب، بل كان الهدف منها هو إرسال رسالة إلى الولايات المتحدة عن النفوذ الروسي في سورية قبل لقاء الرئيس الروسي مع بايدن، حيث قد يسعى بوتين إلى تخفيف العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة مقابل فتح طرق إغاثة عبر الحدود. كما هدفت أيضاً إلى توجيه رسالة قبل اجتماع الأمم المتحدة المقرر عقده في تموز (يوليو) بشأن المساعدات عبر الحدود.
في واقع الأمر، لا تنطوي أهداف بوتين في سورية على أي طابع إنساني. ولكن، بينما تعزز موسكو نفوذها، يقوم بايدن بإنهاء ترخيص شركة “دلتا كريسنت” للطاقة في شمال شرق سورية، وبذلك تصبح شركات الطاقة الروسية مهيّأة للسيطرة بشكل أكبر على النفط السوري، وبالتالي يصبح الكرملين أيضاً مخولاً بتعزيز نفوذه في سورية والبحر المتوسط. وقد أظهر نشر موسكو مؤخراً قاذفاتٍ ذات قدرة نووية في سورية أنها تملك الآن منصة إضافية تستطيع استخدامها للرد بالمثل على المستوى التكتيكي، وللردع على المستوى الاستراتيجي عند الجانب الجنوبي لحلف “الناتو”. وفي حين قال بايدن أن قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية هي أولويات السياسة الخارجية الأميركية، إلّا أن سورية كانت اختباراً حاسماً لالتزامه بهذا الهدف خلال لقائه مع بوتين.
كما أن رسالة موسكو لا تقتصر على سورية. فقد أفادت بعض التقارير بأن روسيا تستعد لتزويد إيران بنظام متقدم للأقمار الصناعية -وهو أمر تنفيه روسيا حالياً- علماً بأن البلدَين وقعا اتفاقية إعفاء من التأشيرة، ومن المؤكد أنهما ناقشا بالتأكيد مسألة تبسيط شروط السفر على الأقل منذ العام الماضي فيما تًحوّل إلى أفضل علاقة ثنائية بين روسيا وإيران منذ تدخّل بوتين في سورية في العام 2015. لكن إيران كانت موضوعاً آخر على جدول أعمال الاجتماع بين بايدن وبوتين، وما تزال نظرة فريق بايدن إلى الدور الروسي غير واضحة. ومن الخطأ التعويل على روسيا وتوقع أن تلعب دورا مفيدا في ضوء التوافق بين موسكو وطهران بشأن هدفهما الجغرافي الاستراتيجي المتمثل في إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، على الرغم من أن نشاط إيران الإقليمي الخبيث يتخطى إطار الملف النووي.
وليس واضحاً أيضاً الثمن الذي سيفرضه بايدن على موسكو لقاء استخدامها المتزايد لما تسمّى “الشركات العسكرية الخاصة” التي كانت مفيدة بشكل خاص لروسيا في ليبيا ولم تغادرها حتى الآن. والأهم من ذلك أن موسكو ستواصل البحث عن منفذ للمياه الدافئة في المتوسط، وما تزال ليبيا -بعد سورية- هي المرشح الأمثل لذلك في غياب وجود أميركي قوي. ومن شأن هذا الأمر، إذا حدث، أن يعزز موقف روسيا الاستراتيجي على حساب الغرب ويسمح لروسيا بالتوسع بشكل أكبر في أفريقيا.
لا شك في أن بايدن محقٌّ في التركيز على الصين وحشد الأنظمة الديمقراطية الليبرالية للمشاركة في هذا المسعى، لكنه لا يستطيع وضع روسيا جانباً لتحقيقه، ولا أن يتوقع من موسكو أن تكون متخوفة مثله من الصين التي تربطها معها شراكة استراتيجية. وحين وصفه بايدن بـ”القاتل”، ردّ بوتين بشيءٍ أغفلته الغالبية، حيث قال: “إنهم (أي المؤسسة الأميركية) يعتقدون أننا متشابهون، ولكننا مختلفون. لدينا شفرة جينية وثقافية وأخلاقية مختلفة. لكننا نستطيع الدفاع عن مصالحنا الخاصة”. وفي نقاش مطول على برنامج “اللعبة الكبيرة” الذي يُعرض على محطة “القناة الأولى” الكبرى التابعة للدولة، أعرب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن إعجابه بالصين، حيث وصفها بـ”الأمة الصبورة” التي “تتطلع إلى الأمام” وتهتم “بالهدف في الأفق”. لكنه لم يذكر الثقافة الأوروبية المعاصرة بالعبارات نفسها، باستثناء حديثه العَرضي عن “الأغاني الممتعة التي يمكنك الاستماع إليها في السيارة”. وبالفعل، توصلت موسكو منذ فترة طويلة إلى تسوية مؤقتة مع بكين. وكما كتب المحلل الروسي فلاديمير فرولوف: “ترى النخبة الحاكمة في روسيا أن التقارب مع أوروبا يهدد قدرتها على الاحتفاظ بالسلطة أكثر من التحالف غير المعلن وغير المتكافئ مع الصين”.
ولا يخفى أن قائمة المظالم المشروعة ضد روسيا طويلة جدا، وكان بايدن ثابتاً في خطابه. لكنه لم يترجم، حتى الآن، هذا الخطاب إلى نهج استراتيجي وسياسة خارجية متماسكة. والأفعال أبلغ من الأقوال، وهذا أمرٌ يعرفه بوتين بالذات. لذلك، حين اجتمع بايدن مع بوتين، ربما تذكَّر أن البحر الأبيض المتوسط لطالما كان أساسياً للمكانة العالمية للولايات المتحدة، وأنه إذا تنازل عنه لروسيا، فإن ذلك سيضرّ حتماً بجهوده لمواجهة الصين.
*زميلة “آيرا وينر” في معهد واشنطن ومؤلفة الكتاب القادم “حرب بوتين في سورية: السياسة الخارجية الروسية وثمن غياب أميركا”. تركز في كتاباتها على سياسة روسيا تجاه الشرق الأوسط.