قد لا يبالغ مراقب ملمّ بالشأن اللبناني، ملفات ومنعرجات وتقلبات، إذا رأى أنّ لائحة الاستجواب التي استقر عليها المحقق العدلي طارق بيطار أقرب إلى مضبطة اتهام تشمل معظم «القرطةّ»، بحسب التعبير الشهير لأشقائنا اللبنانيين؛ التي يمكن بالفعل أن تكون متورطة في كارثة انفجار مستودع النترات في مرفأ بيروت. والتي يصحّ، أيضاً، النظر إليها كـ»عصابة» حاكمة متسلطة فاسدة، عالية التفاهم حول نهب البلد وإفقاره؛ بصرف النظر عن مستويات التدني أو التكامل بين أجنداتها السياسية والمالية، وارتهاناتها الإقليمية والدولية.
ورغم احتواء اللائحة على أسماء رئيس حكومة تصريف الأعمال، فضلاً عن وزراء سابقين، وقائد سابق للجيش ومدير أسبق للمخابرات العامة ومدير الأمن العام الحالي ومدير عام أمن الدولة والمدير العام للجمارك، وأنّ اللائحة تصلح مرآة، غير شاملة وغير متكاملة، لاستطالات الأحزاب والطوائف في مختلف مفاصل الدولة العميقة (إذا جاز الحديث هكذا)؛ فإنّ ما تعثر فيه المدعي العام السابق القاضي فادي صوان، قبل تنحيته، هو المآل الذي ينتظر أشغال المحقق الحالي.
لقد أسمعتَ لو ناديت حياً، وذلك رغم أنّ المنادَى ليس حياً يتمتع بكلّ أسباب القوّة والمنعة والحصانة والقدرة على تنظيم هجومات مضادة شتى، فحسب؛ بل كذلك لأنه حيّ يُرزق، ضمن أسوأ ما يعنيه الارتزاق من نهب وفساد وجشع وطمع واستهانة بأبسط مقتضيات الانتماء إلى بلد وشعب، تقول المؤسسات المالية الدولية إنه يعيش واحدة من أسوأ ثلاث أزمات اقتصادية ومالية ومعيشية لم تعرفها شعوب الأرض منذ عام 1850.
ثمة من يساجل، مع ذلك أو بسبب ذلك على وجه التحديد، أنّ القوى الإقليمية والدولية التي أتاحت ولادة لبنان في الأساس، وأرادته على هذه الشاكلة التي تطورت وتبدلت وتقلبت من دون أن تغادر الصيغة الطائفية والسياسية التي بُني عليها؛ لن تسمح بانهيار كامل لهذا الـ»لبنان»، المطلوب والمرغوب والخادم الملبّي لسلسلة اعتبارات لا تخرج البتة عن ضرورات جيو – سياسية عابرة للمحليّ، أو حتى الإقليمي. ومَن يساجل هكذا، يتوجب أن يقرّ أيضاً بأنّ في طليعة المحرّضات على الانهيار عجز رعاة لبنان عن تفكيك عُقَد «حزب الله»، وهي في صيغة الجمع لأنها ليست عقدة واحدة تنبثق من سلّة النفوذ الإقليمي الإيراني، بل تتراكم مجاميعها من سلال الحزب اللبنانية ذاتها. وهذه لا تبدأ من سلطة السلاح والأمر الواقع والدولة فوق ما تبقى من ركام «دولة لبنان الكبير»، وتمرّ بالطبع من حقيقة توزّع السكان على 18 طائفة ومذهبا، ولا تنتهي عند التحالف العجيب الشيعي – المسيحي الذي ينخرط فيه الجنرال الرئيس ميشيل عون.
والراغب في عدم استرجاع مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حتى من باب تشييعها إلى مثواها، لن يعدم مبادرة بابا الفاتيكان في تخصيص «يوم التأمل والصلاة من أجل لبنان»؛ الذي شارك فيه عشرة من قادة الكنائس اللبنانية، وبدا أنّ أية «طاسة» مخلصة مقدسة ليست مرشحة للضياع في الزحمة هذه، وأنّ لبنان الملقّب بابوياً بـ»عطية السلام» لا يدير حروبه من روما، ولم تعد شبكات دمشق أو الرياض أو طهران ضرورية لكي تنقلب الشرارة إلى حرائق؛ لأنّ ما تحت الرماد من اضطرام معيشي يومي كفيل بتصدير اللهيب، وليس الشرارة وحدها.
وبين أحدث العجائب، في مضمار راهن على الأقل، أنّ الثنائي الشيعي منقسم حول مبادرة نبيه بري لتسهيل ولادة حكومة سعد الحريري، وأنّ الأنظار أكثر شخوصاً إلى مفاوضات فيينا منها إلى التراشق اللفظي بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف. وليست لائحة اتهام المحقق العدلي الجديد سوى العجيبة المرادفة للحال المعلّقة إياها، حين تتوجه أصابع الاتهام إلى ممثلي «القرطة» من دون أن يهتز رأس كبير أو يُرمى أحد «الـكلّن يعني كلّن» بوردة؛ أو طاسة لمَن يشاء، من ركام الطاسات الضائعة المتلاطمة وسط سلال «حزب الله».
صبحي حديدي
القدس العربي