حالة التضامن الواسعة الداخلية والخارجية مع إضراب عمال القطاع النفطي في إيران، والذي شمل أكثر من 60 شركة ومؤسسة تعمل في إنتاج النفط والغاز والمشتقات النفطية، سواء جاء من تجمعات ونقابات عمالية في القطاعات الاقتصادية الإيرانية، أو من الأحزاب المعارضة الإيرانية في الخارج أو المنظمات والنقابات العالمية، فإن هذه الحالة التضامنية تشبه إلى حد كبير حالة “الحنين” لأحداث عام 1978، في أواخر عهد النظام الملكي السابق، عندما تحول إضراب قطاع النفط والغاز في إيران إلى أداة ضغط حقيقية على النظام، واستطاع شل القدرات الاقتصادية، خصوصاً أن هذا القطاع تحول إلى محور الاقتصاد الإيراني والمصدر المالي الأكبر له، ويكاد يكون الأوحد لتشغيل الدورة الاقتصادية وإدارة الدولة وتأمين مواردها المالية والاقتصادية.
يجمع مؤرخو الثورة الإسلامية في إيران، خصوصاً المهتمين منهم بالمرحلة التي سبقت إعلان “الانتصار” في فبراير (شباط) 1979، على أهمية الإضراب الذي حدث في قطاع النفط والدور الذي لعبه في تسريع عملية الانقلاب على النظام الملكي، خصوصاً أن هذا الإضراب حظي بالدعم الكبير والمباشر والعلني من زعيم الثورة السيد الخميني الذي دعا حينها إلى قطع وتحريم الصادرات النفطية، الأمر الذي أدى إلى حرمان الأسواق الدولية من 4 ملايين برميل من النفط الإيراني، ولمدة 70 يوماً، الأمر الذي أحدث صدمة في الأسواق العالمية، ورفع سعر البرميل من 13 دولاراً إلى 40 دولاراً.
وعلى الرغم من حالات الإضراب المتعددة التي بدأت منذ عام 2018 بشكل واسع في مختلف المناطق الإيرانية وفي كثير من القطاعات الاقتصادية والإنتاجية، لم يرَ النظام أو الحكومة الإيرانية ضرورةً للتحرك السريع لمعالجة هذه الأزمات والإضرابات والاعتصامات. ولعل المثال الأبرز على هذه السياسية، هو كيفية التعامل مع أزمة عمال مصنع “هفت تبه” لقصب السكر وطرد غالبية العمال وحرمانهم من تعويضاتهم، إلا أن التحدي الذي يشكله القطاع النفطي وأهميته بالنسبة إلى النظام وذاكرة قياداته السياسية، والدور الذي لعبه هذا القطاع في إسقاط نظام الشاه، دفع الحكومة إلى التحرك سريعاً لمعالجة تداعيات إضراب عمال هذا القطاع الحيوي والذي يهدد، في حال استمراره، قدرة النظام على الاستمرار، خصوصاً في مرحلة تبدو فيها وعود النهوض الاقتصادي كبيرة اعتماداً على إمكانية خروج هذا القطاع من دائرة العقوبات الأميركية وما يمكن أن يوفره من عائدات مالية يتفرض أن تضخ في مفاصل القطاع الاقتصادي المنهك، والذي يقف على حافة الانهيار.
النظام والحكومة في طهران تعاملا مع إضراب واعتصام عمال النفط بمستويين مختلفين، بهدف تقسيم صفوف العمال والتمييز بين قطاع عام تابع للدولة ووزارة النفط من جهة، ومن جهة أخرى قطاع مرتبط بشركات خاصة وسيطة تملك عقوداً مؤقتة مع وزارة النفط لتأمين خدمات في هذا القطاع، وهي المسؤولة عن قطاع العمال المتعاقدين والمياومين. وحل أزمة هؤلاء من مسؤولية هذه الشركات بالتعاون مع وزارة العمل. من هنا جاء قرار الحكومة السريع بتعديل المواد والبنود المتعلقة برواتب عمال قطاع النفط في ميزانية الدولة، بالتالي تلبية مطالب العمال الرسميين الذين تقع على عاتقهم المسؤولية الأكبر في تشغيل وإدارة هذا القطاع.
اقرأ المزيد
غوتيريش قلق من “انتهاكات” إيران ويدعوها للامتثال لبنود الاتفاق النووي
أميركا وإيران والكاظمي… من يربح العراق؟
إيران تقيّد وصول المفتشين الدوليين إلى “نطنز” لـ”مخاوف أمنية”
لماذا تتمسك إيران بإعدام الأطفال رغم الانتقادات؟
الاقتصاد الإيراني يتسرب لمصلحة تمويل “الحروب بالوكالة”
في المقابل، فإن العمال المتعاقدين والمياومين الذي يحصلون على رواتب بسيطة لا يمكن مقارنتها برواتب عمال القطاع العام، حتى قبل دخول التعديل الجديد حيز التنفيذ، سيواجهون تهديداً حقيقياً، لأن الحكومة ومن خلال التعاون القائم بينها وبين القطاع الاقتصادي الممثل بـ”مقر خاتم الأنبياء”، التابع لـ”الحرس الثوري” ستكون قادرة على تلبية حاجاتها العمالية من متعاقدين ومياومين في حال استمر اعتصام هؤلاء وعدم تسوية أوضاعهم مع الشركات المتعاقدة معهم، خصوصاً أن “الحرس” تمكن خلال السنوات الماضية من إعداد كادر من العاملين والموظفين في قطاعي النفط والغاز نتيجة التلزيمات الضخمة التي رست مناقصاتها على المقر الاقتصادي التابع له لبناء محطات تحويل الغاز السائل في منطقة عسلويه في محافظة بوشهر الواقعة قبالة حقل “بارس جنوب” في مياه الخليج المشترك مع دولة قطر، وبناء مصفاة “نجمة الخليج” لتكرير النفط في محافظة بوشهر، والتي استطاعت توفير احتياجات إيران من المشتقات النفطية التي كانت تستوردها من الخارج.
ويعني ذلك أن هذا القطاع قادر على ملء الفراغ الذي قد يتسبب به إنهاء خدمات العمال المتعاقدين والمياومين المعتصمين والمضربين عن العمل، ولن يكون أمام أزمة تعيد إلى الأذهان ما حدث في زمن الشاه عندما لجأ إلى إعادة استخدام العمال المتقاعدين وبعض عناصر المؤسسة العسكرية لتشغيل هذه المنشآت وإعادة تصدير النفط.
ويمكن القول إن مصادر عدم القلق لدى النظام الإيراني من التداعيات المحتملة لهذا الإضراب تعود إلى استعداد النظام ومؤسسات الدولة العميقة للتعامل بقسوة مع الآثار السلبية المحتملة، ولعل أحداث عام 2019 بعد قرار رفع أسعار مادة البنزين والعنف الذي مارسته القوى الأمنية ضد المتظاهرين وسقوط مئات القتلى لا تزال حية في ذاكرة الإيرانيين والمسؤولين على حد سواء، بالإضافة إلى أن النظام غير قلق من إمكانية تشكيل حالة “أمن قومي واستراتيجي” في قطاع النفط، هو أمر لا يرجع إلى قدرة النظام على التعامل مع مثل هذا التهديد، بل يرتبط بعجزة المعارضة الإيرانية، سواء في الداخل أو الخارج، على إنتاج قيادة قادرة على توحيد الجهود والحالات الاعتراضية ضد النظام كما حدث عام 1978 وبداية عام 1979 مع الخميني، بالتالي تشكيل تهديد حقيقي له، على الرغم من كل المواقف المتضامنة والمؤيدة لهذا الإضراب والاعتصام في الداخل والخارج.
يبقى أن هذا الإضراب العمالي في قطاع النفط والحالات المماثلة في قطاعات الاقتصادية الأخرى تشكل هشاشة الاقتصاد الإيراني وضعف النظام والحكومة في إدارة الأزمات المتراكمة والمستمرة، وأن الرهان على الخروج من العقوبات الأميركية وعودة إيران إلى الأسواق الدولية، سواء في المجال النفطي أو المجالات الأخرى، قد لا يشكل حلاً لحالة شبه الانهيار التي تعيشها إيران على الصعيد الاقتصادي، في وقت يبدو أن النظام ومؤسساته عاجزين عن كبح جماح التدهور، حيث تشكل مستويات الفقر والعوز والتضخم الذي تجاوز نسبة 40 في المئة، مؤشرات حقيقية على عمق الأزمة.
حسن فحص
اندبندت عربي