يشكّل التنافس المتصاعد متعدّد المستويات والأوجه، بين الولايات المتّحدة الأميركية والصين، واحداً من المعالم الأساسية البارزة والمؤثّرة بقوّة في مشهد السياسة الدولية في المرحلة الراهنة، ويبدو مرجّحاً أن تمتدّ آثاره إلى فترة طويلة من القرن الحادي والعشرين. لكنّ هذا لم يكن مفاجئاً، نظراً إلى توقُّعِه في كثيرٍ مما قيل وكُتِبَ أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي، بعد نهاية “الحرب الباردة”، بانتصار الولايات المتحدة على غريمها الاتحاد السوفييتي.
مع هزيمة الاتحاد السوفييتي، ثم مغادرته مسرح التاريخ، انتشر على نطاق واسع الحديث عن “النظام العالمي الجديد” و”الأحادية القطبية”، وعن “القرن الأميركي الجديد”، وكلّ ما من شأنه تأكيد انفراد الولايات المتحدة في السيادة العالمية، بوصفها القوّة العظمى الوحيدة من دون منازع. ومقابل التنظير للسيادة الأميركية المطلقة، ظهرت أيضاً كتاباتٌ تشكّك في نظام القطب الواحد، وتتحدّث عن إمكانية “عالم متعدّد الأقطاب”، مفنّدةً مزاعم القوة الأميركية المهيمنة، أو على الأقلّ تشكّك في قدرتها على الاحتفاظ بتلك المكانة المتفرّدة في القرن الحادي والعشرين، نظراً إلى شدّة احتمال ظهور منافسين جدّيين.
في ذلك الحين، شرع منظّرون أميركيون عديدون بوضع تصورات وخطط عن زعامة بلادهم العالم وسبل الحفاظ عليها، ومواجهة ما يعترضها من تحدّيات. ويمكن تلخيص جوهر فلسفتهم، في هذا الخصوص، بالعمل على تفادي ظهور منافس جديد، وذلك بالسعي الدائم إلى “منع أي قوة معادية من السيطرة على أي منطقة يمكن لثرواتها، عندما تصبح تحت السيطرة، أن تكون كافيةً لإطلاق قوة عظمى”، وفق ما كتب بول وولفويتز، وهو أحد منظّري “المحافظين الجدد”، وكان لا يزال وقتها خبيراً في وزارة الدفاع مطلع التسعينيات. بعده بسنوات، وجّه ثلاثة آخرون من “المحافظين الجدد” أيضاً (زلماي زادة، وفرانك كارلوتشي، وروبرت هانتر)، رسالة إلى جورج بوش الابن، عقب انتخابه عام 2001، أكّدوا فيها مجدّداً أن على الولايات المتحدة منع نهوض أي منافس عالمي معادٍ أو تحالف دولي معادٍ، ضمن ما سموها “رؤية استراتيجية لمهام بوش على الصعيد العالمي”، تمحورت حول استراتيجيات تتعامل مع تحدّي صعود القوى العالمية المحتملة منافساً مستقبلياً، وهي الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا.
فشل الأميركيون في كبح نموّ الاقتصاد الصيني أو السيطرة على وتائره المتسارعة
وعرضت الوثيقة استراتيجية موزّعة على مرحلتين للتعامل مع التحدّي الصيني، الأولى تجسّ نبض المارد الأصفر، بينما تحدّد الثانية السبل الملائمة لمواجهة نموّه المتفاقم، فهي متعدّدة المستويات، لا تفضي إلى شراكة كاملة، ولا هي تعتمد الاحتواء تماماً. وعلى الرغم من تشجيع الوثيقة الارتباط مع الصين في التجارة والاقتصاد، وتقوية العلاقات العسكرية المتبادلة، والقيام بمشاريع مشتركة، فهي شدّدت، في الوقت عينه، على الوقوف في وجه طموحات الصين للسيطرة الإقليمية.
هذه الأفكار عن الزعامة العالمية، والتركيز على “الخطر الصيني”، تُرجمت في الخطط العملية للقوات المسلّحة الأميركية، ومنها ما سمّيت “الاستراتيجية التعاونية لقوة البحر في القرن الواحد والعشرين”. كان الغرض من هذه الاستراتيجية تأمين القدرة على التدخل ما وراء البحار، عبر نشر مزيد من قطعات البحرية الأميركية حول العالم، حيث تركّز الولايات المتحدة على دور قواتها البحرية في دعم سيطرتها العالمية، إضافة إلى تعزيز تحالفاتها القائمة وبناء تحالفات جديدة والمشاركة في المناورات العالمية. وركّزت الاستراتيجية المُعدّة للقرن الجديد على المنطقة الهندو – آسيوية للمحيط الهادئ، في سعي إلى التعامل بشكل أكبر مع مسألة نهوض القوى البحرية الصينية وتوسعها هناك، فهذه مسألة تتعارض مع نيّة الولايات المتحدة السيطرة على التجارة في المحيطين، الهندي والهادئ، أو احتكارها، وما يتطلّبه ذلك من تقييد دول أخرى الاستخدام العسكري والاقتصادي للمحيطات، خصوصا الصين.
غريب أنّ فكرة الزعامة الأميركية المطلقة ما زالت حقيقةً، ومحدّداً أساسيّاً في التفكير لدى بعضهم، كأنّها قدرٌ
لم يطل الوقت حتى تكشّفت أوهام “القرن الأميركي”، سيما بعد التعثّر المستمرّ في أفغانستان ثمّ العراق، وكذلك الفشل الذريع لما سُمّي “الحرب على الإرهاب”، فضلاً عن الأزمة المالية العالمية وآثارها الاقتصادية والاجتماعية السلبية داخل المجتمع الأميركي نفسه. وذلك كله، بالتوازي مع تقدّمٍ ملحوظٍ في الأوضاع الاقتصادية والقدرات العسكرية لخصوم واشنطن التقليديين والمحتملين في العالم، وسعي بعضهم إلى التأثير في مجرى السياسة الدولية، وتحقيق مكاسب لهم تتعارض مع المصالح الأميركية. وظهر جلياً أنّ كلّ الخطط والاستراتيجيات الأميركية تجاه الصين لم تُفلح في الحدّ من جموحها وتطوّر قدراتها العسكرية، واتّساع مناطق نفوذها المباشر وغير المباشر. ولعلّ التقدّم الحثيث في تنفيذ مشروع “الحزام والطريق”، يشكّل خير دليلٍ على تنامي النفوذ الصيني، عسكرياً أو عبر أدوات القوّة الناعمة. ومن جهةٍ ثانية، فشل الأميركيون في كبح نموّ الاقتصاد الصيني أو السيطرة على وتائره المتسارعة، فتجاوزت أرقامه مثيلاتها في الاقتصاد الأميركي، بل وظلّت الصين سنواتٍ أكبر المستثمرين في سندات الخزانة الأميركية، ومالت لصالحها كفّة الميزان التجاري بين البلدين، فضلاً عن حيازتها أكبر احتياط نقديّ في العالم، معظمه من الدولارات الأميركية.
لم تكن الغاية من كلّ ما سبق الإشادة بالصين على الإطلاق، فصعودها وسيادة نموذجها التسلّطي خطر شديد على العالم. لكن أمام كل هذه الوقائع والمعطيات، يبدو من الغريب حقاً أنّ فكرة الزعامة الأميركية المطلقة ما زالت حقيقةً مطلقةً، ومحدّداً أساسيّاً في التفكير لدى بعضهم، كأنّها قدرٌ لا رادّ له، وما على العالم سوى التسليم بهذا القدر والتكيّف معه. وربما لن يكون من المبالغة القول عن هكذا ضربٍ من التفكير: إنّه لا يخلو من بعدٍ غيبيّ وإطلاقي. ومن ثمّ، فهو، إذ يفتقر للعقلانية وللنسبية في الحكم على الأمور وتقييمها، ليس تفكيراً سياسياً، وتغلب عليه لغة الشعار والتبسيط والاختزال، التي تعفي العقل من التفكير في العناصر المعقدّة والمركّبة وعلاقاتها التي تتشكّل منها الظواهر، والاكتفاء بإرجاع كلّ شيءٍ إلى علّة أولى وحيدة، هي أصل الشرور ومفتاح الحلول، اسمها أميركا!
طارق عزيزه
العربي الجديد