الانعكاسات الاقتصادية للأزمة السياسية في تركيا

الانعكاسات الاقتصادية للأزمة السياسية في تركيا

630

يبدو كأن الليرة التركية وحدها تدفع أغلى الأثمان لما تمر به بلادها من أحوال سياسية وأمنية وإقليمية. فما أن جرت الانتخابات التشريعية الأخيرة في 7 تموز (يوليو) الماضي، ولم يستطع حزب العدالة والتنمية الاستمرار في «هيمنته» السياسية المطلقة على السلطة في البلاد، حتى خسرت الليرة التركية ما يقارب 13 في المئة من قيمتها، فالدولار كان يساوي ما قيمته 2.66 ليرة تركية عشية إجراء الانتخابات، وما أن ظهرت النتائج وبدا واضحاً القلق السياسي الذي ستحياه البلاد في الشهور التالية، قفز الدولار مباشرة ليساوي 2.81 ليرة بعد الانتخابات بساعات قليلة.

وبعد أقل من شهر، تصاعد الملفان الكردي والانخراط في مواجهة «داعش» داخل سورية، حتى ازداد قلق الليرة التركية، لتنخفض مجدداً أمام الدولار، الذي بات يساوي 3 ليرات صبيحة 20 آب (أغسطس)، وهو مستوى لا تزال الليرة تراوح حوله منذئذ.

لا تبدو هذه المسائل الثلاث عابرة في الحياة العامة التركية. فالحياة السياسية – البرلمانية التركية لن تستقر في الفترة المنظورة، لأن المجتمع السياسي التركي بات يشهد صعود نُخب سياسية وأيديولوجية جديدة، مقابل أفول أخرى ظلّت تحكم البلاد لأكثر من عقد من «الاستقرار». مع هذا الأفول، ينبلج نمط جديد من الحياة الاقتصادية التي ستكون على الدوام تحت تأثير تحولات المسألة الكردية في البلاد، وكذلك المواجهة المتوقعة لتركيا مع تنظيم «داعش» الإرهابي، وعبر هذا التأثير ستُحدد كل ملامح الحضور التركي السياسي – الاقتصادي في عموم الإقليم.

ويفاقم من هذا القلق السياسي – الأمني في الحياة الاقتصادية التركية، كون الاقتصاد التركي ينتمي إلى عوالم اقتصاد «الخدمات» بحيزه الأكبر، معتمداً على السياحة وتجارة العبور والصناعات التحويلية الخفيفة، وليس على الثروات الباطنية والصناعات الثقيلة الاستراتيجية، لذا فتأثير الأحوال السياسية والقلق الأمني مضاعف فيها. ويبدو أن الاتحادان الاقتصاديان الأقوى في البلاد – «التوسياد» و «الموسياد» – على اختلافهما، أمام تحدٍّ واضح لوعي التحولات الاقتصادية العميقة التي قد تشهدها تركيا قريباً، فطوال التاريخ السياسي التركي الحديث، ترافق كل «عصر» سياسي من صعود نُخبة وكتلة وأيديولوجية اقتصادية بذاتها، متوافقة ومستندة الى هذه النُخبة والأيديولوجية السياسية.

فـ «التوسياد»، أو «اتحاد رجال الأعمال الأتراك» الذي تأسس في أوائل السبعينات من القرن الماضي، وكان يعبر عن نزعة اقتصادية ليبيرالية غير محافظة، تتمركز غالبية نُخبها في مدينة إسطنبول ومدن سواحل المتوسط، حيث شهد موجات نهوضه وسيطرته الاقتصادية بُعيد انقلاب 1980 الشهير، وصعود رئيس الوزراء الليبرالي تورغوت أوزال، الذي أعاد هيكلة الاقتصاد التركي في شكل كلي، وفتح السوق التركية أمام التجارة العالمية. وقتها صعدت «التوسياد» وهيمن على حيز واسع من الحياة الاقتصادية التركية، وكانت سيطرة عائلتي قوج وسبنجي تعبيراً عن ذلك الصعود.

لكن ما لبثت أن تلاشت هيمنة هذا الاتحاد، خصوصاً مع صعود حزب العدالة والتنمية المحافظ في بداية الألفية الجديدة، ما ساهم في صعود النُخب المحافظة «الأخلاقية»، التي تعتمد على الصناعات الصغيرة والتحويلية والتجارة، وتتمركز في مدينتي أسكيشهر وقونيا في وسط الأناضول، حيث لاقت في «اتحاد رجال الأعمال المسلمين» أو «الموسياد» مظلتها الاقتصادية الأوسع.

ومثلما كان «التوسياد» مدخلاً إلى انخراط الاقتصاد التركي في شبكة الاقتصاد الأوروبي وتحديد ملامحه التي تجاوزت سمة عقد السبعينات في الإدارة المركزية والموجهة، واستخدمه أوزال، رئيس الوزراء ومن ثم رئيس الجمهورية المقبل من يمين الوسط، ضد خصومه السياسيين اليساريين وقتئذ في الثمانينات والتسعينات، يدعم حزب العدالة والتنمية «الموسياد» وحوله إلى أداة في مواجهة المعارضة «العلمانية» والكردية على الدوام.

راهناً، يبدو أن الطرفين لم يعد لهما «سند» سياسي – أيديولوجي يستطيع الدفاع عنهما وهيكلة الاقتصاد التركي وفق ظرفهما. لكن تركيا الجديدة بقلقها السياسي، ستدفع كلا الطرفين إلى العديد من الخطوات،

فما أن تظهر نتائج الانتخابات المكررة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ويظهر أن حزب العدالة لم يعد يستطيع الاستمرار في هيمنته السياسية، كما يُرجَّح، حتى يتخذ «الموسياد» كما يبدو خطوات كبرى لفصم ارتباطه بحزب العدالة والتنمية، ويسعى قدر المستطاع الى خلق أجواء من التوافق السياسي بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية القومي «المحافظ»، حتى لا تخرج السلطة تماماً من يد الطبقة الإسلامية المحافظة.

على النقيض، فإن التوسياد ستحاول جداً استثمار أي خروج لطبقة العدالة والتنمية من الحُكم، وسيكون هاجسها الرئيس هو الدفع باتجاه ائتلاف حكومي بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديموقراطي المؤيد للأكراد، ليستطيعوا حُكم البلاد من دون العدالة والتنمية. هذا الأمر سيتطلب أن تتابع التوسياد مشروعها الاقتصادي/ السياسي لحل المسألة الكردية في البلاد، لتغدو القطب الاقتصادي المهيمن على شرق تركيا وغربها، في مواجهة الأناضول الذي صعد منذ قرابة العقد ونصف العقد. وشرط ذلك أن تُخرج التوسياد موضوع التجارة البينية مع كل من إيران وكردستان العراق من الهيمنة المطلقة للموسياد راهناً.

رستم محمود
نقلا عن الحياة