الصراعات الداخلية.. وأزمة التعددية في العالم العربي

الصراعات الداخلية.. وأزمة التعددية في العالم العربي

يُحدِّد الموقف إزاء الآخر حالة التعددية في أى مجتمع. لم تكن هذه الحالة بخير في الأغلب الأعم منذ أن بدأ بعض العرب في دخول العصر الحديث في أوائل القرن التاسع عشر. بقى الشك في الآخر المختلف قويًا، ومؤثرًا في التفاعلات بين الجماعات المتعددة في المجتمعات العربية، ومؤديًا إلى حالة قابلة لإنتاج صراعات متفاوتة من وقت إلى آخر.

وقد بلغت هذه الصراعات أعلى ذروة لها في العقدين الأخيرين في عدد من البلدان العربية. وليست صُدفة أن تكون الصراعات الأشد حدة في بلدان تضم مجتمعاتها أعدادًا أكبر من الجماعات المختلفة ثقافيًا (دينيًا ومذهبيًا وعرقيًا ومناطقيًا أو جهويًا وعشائريًا.. إلخ)، والتى يُطلق عليها “مجتمعات مُبرقشة” أو “فسيسفائية” Mosaic، أو في بلدان توجد بها أعداد أقل من هذه الجماعات، ولكن العوامل الدافعة إلى الكراهية المتبادلة تراكمت بينها، أو بين بعضها، عبر فترات زمنية طويلة، نتيجة شيوع موقف سلبي إزاء الآخر.

وفى مثل هذه الحالات، يمكن أن تبقى الكراهية المرتبطة بالموقف السلبى إزاء الآخر كامنة تحت السطح، وقابلة للظهور في أي وقت، برغم عدم وجود دلائل واضحة عليها، كما حدث مثلاً في الجزائر في آخر أبريل 2021 عندما أعلنت وزارة الدفاع “اكتشاف مؤامرة خطيرة” دبرتها حركة استقلال منطقة القبائل “ماك” Mak، وهى حركة أمازيغية أُسست عام 2001 للمطالبة بحق تقرير المصير، وتُعد امتدادًا بشكل ما لـ”الحركة الثقافية الأمازيغية” التي يعود نشاطها إلى مطلع ثمانينات القرن الماضي. وسبق ذلك بأشهر قليلة ارتفاع أصوات في أوساط الأمازيغ والتبو والطوارق في ليبيا ضد اتفاق أعضاء اللجنة الدستورية في الحوار السياسي في يناير 2021 على إجراء استفتاء على مشروع دستور، لأنه لا يضمن تمثيل جماعاتهم الصغيرة في الحياة السياسية.

وهاتان حالتان لم يكن الموقف السلبى إزاء الآخر ظاهرًا فيهما، بخلاف حالات عربية أخرى توفرت فيها مؤشرات على وجود هذا الموقف قبل تفاقمه، وتصاعد الكراهية المقترنة به، وصولاً إلى حروب داخلية مثل لبنان والعراق، ثم سوريا، وإلى حد ما اليمن.

ومن الطبيعى أن تقترن الصراعات الناتجة عن الاختلاف الثقافى بخصومات ومعارك سياسية. فعندما تشتد حدة الموقف السلبى إزاء الآخر الثقافى، يزداد الميل إلى تشكيل كيانات سياسية على خطوط الانقسام الدينى أو المذهبى أو العرقى أو المناطقى-الجهوى أو العشائرى. وكثيرًا ما تكون الصراعات المُركبة ذات المكونين الثقافي والسياسي جاذبة لتدخلات إقليمية ودولية تؤدى غالبًا إلى تفاقمها.

ويثير احتدام هذا النوع من الصراعات في عدد متزايد من البلدان العربية مسألة التعددية الثقافية، والعوامل المؤدية إلى إساءة إدارتها، وكيفية التعامل معها.

حول مفهوم التعددية الثقافية
يُستخدم مفهوم التعددية الثقافية Multiculturalism أو Cultural Pluralism بوجه عام للدلالة على تعدد الانتماءات الأولية أو التقليدية. وهذا مفهوم محايد إلى حد كبير، وغير مُحَّمل بمواقف مسبقة، ولا يُثير خلافات من النوع الذى يقترن بمفاهيم ومصطلحات أخرى مثل مفهوم الهوية Identity، الذى يدل على معنى أوسع نطاقًا من التعددية الثقافية، فضلاً عن أن هناك من يراه غامضًا أو غير مُحدد المعالم بدرجة كافية، ومفهوم الإثنية Ethnicity الذي يُوسَّعه البعض ليكون مرادفًا للتعددية الثقافية، ويُضيَّقه آخرون فيحصرونه في التعدد العرقي Racial، وكذلك مفهوم الطائفية Sectarianism حين يُستخدم للدلالة على انتماءات دينية أو مذهبية بخلاف معنى الطائفة اللغوى وهو الجماعة، أية جماعة[1]، وليس نوعًا معينًا من الجماعات. ونجد هذا الالتباس في بعض الكتابات العربية التى يُستخدم فيها مصطلح “الطائفة” بمعنى الجماعة الثقافية بوجه عام حينًا، والجماعة الدينية أو المذهبية حينًا آخر. ويحدث هذا الازدواج في النص الواحد أحيانًا.

وكثيرةُ مداخل دراسة التعددية الثقافية نظريًا ومنهجيًا، وكذلك الحال بالنسبة إلى دراسة التفاعلات التي تحدث في المجتمعات المتعددة ثقافيًا. ولكن لا يعنينا، هنا، مراجعة هذه المداخل، وما يقترن بها من مفاهيم في كل منها إشكاليات نظرية يتطلب بحثها دراسة قائمة بذاتها[2]، ولذلك ننطلق في دراستنا هذه من فكرة الانتماءات الأولية التي يولد الإنسان بها، ولا يختارها، بوصفها المدخل الأكثر بساطة، وتبسيطًا، في سعينا إلى فهم بعض أبعاد أزمة التعددية الثقافية التى أدخلت مجتمعات عربية عدة في صراعات حادة لا يبدو اليوم متى، وكيف، سيوضع حد لها.

لم يعرف الإنسان، حتى مطلع العصر الحديث، سوى هذه الانتماءات الأولية. فهو يولد في عائلة يحمل اسمها، وفى بلدة أو قرية أو مدينة يشعر بحنين إليها، ويرث عن أهله انتماءً دينيًا، وينحدر من أصل أو عرق يشعر بانتماء إليه.

ولكن بدءًا من القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أصبح للإنسان انتماءات أخرى يختارها بإرادته، في الوقت الذي بدأ عقله يتحرر تدريجيًا من قيود كبلته على مر التاريخ، وأصبح في إمكانه أن ينتمي إلى مدرسة معينة في الفن أو الأدب أو الفكر، ثم إلى نقابة عمالية أو جمعية اجتماعية، ثم إلى حزب سياسى ونقابة مهنية. ولأن هذا التطور اقترن زمنيًا بظهور الدولة الوطنية Nation State، فقد غدا الانتماء إليها، أى الانتماء الوطني، أعلى الانتماءات، أو هذا ما صار مُفترضًا.

وتوازت هذه الانتماءات الحديثة مع الانتماءات الأولية التى بقيت بطبيعة الحال لأنها جزء من كيان الإنسان ووجوده. وهذا أمر طبيعي. ولكنه لا يكون كذلك حين يُعطَى أحد الانتماءات الأولية أسبقية على ما عداه، ويطغى على أى انتماء آخر. وفى هذه الحالة يصبح الانتماء الأولي الغالب هو المُحدَّد للموقف إزاء الآخر والسلوك تجاهه.

ومن أهم سمات الانتماءات الأولية أن إعلاء شأن أحدها يقود إلى صراعات غالبًا ما تكون صفرية، وقد تؤدى إلى اندلاع حروب داخلية، بخلاف الانتماءات الحديثة، الأمر الذى تبدو معه التعددية الثقافية نقمة، بدلاً من أن تكون نعمة في حالة التعايش بين مكوناتها، لأنها تجعل المجتمع أشبه بحديقة توجد بها زهور وأشجار مختلفة لكل منها لونه ورائحته، على نحو يجعل الحياة أكثر ثراءً.

وهذا ما حدث في بلدان عربية عدة، إذ ظل التوتر الناتج عن طغيان انتماء أولى أو آخر غالبًا لدى فئات اجتماعية في كل منها، وكامنًا تحت السطح، ومنكورًا من جانب نظم حكم لم تنتبه إلى خطره، أو أرادت المحافظة على استقرار سياسى مصنوع وليس حقيقيًا أو طبيعيًا، فأخذ يتراكم مع الوقت حتى انفجر في لبنان أولاً عام 1975، وفى العراق بُعيد الغزو الأمريكى عام 2003، ثم في بلدان عربية أخرى منذ مطلع العقد الماضي، مع استمرار تداعياته في هذين البلدين.

بين العوامل الداخلية والمؤثرات الخارجية
من أهم الأسئلة التى يثيرها اندلاع صراعات داخلية ناتجة عن أزمة التعددية الثقافية السؤال عن الدافع الرئيسى وراء تحول صراع بين فئتين اجتماعيتين يطغى لديهما انتماءان أوليان من النوع نفسه (دينى أو مذهبى أو عرقي أو مناطقي-جهوي..)، أي تعطى إحداهما أولوية مطلقة لانتمائها الشيعي والثانية لانتمائها السُني على سبيل المثال.

ومن الطبيعى أن يثير هذا السؤال خلافًا لأنه يرتبط بالخلفية السياسية والإيديولوجية، وأن يُختلف بالتالى على جوابه. ويوجد اتجاهان أساسيان في هذا المجال يُركَّز أحدهما على عوامل داخلية جوهرية إلى جانب مؤثرات خارجية ثانوية، أو يُنكر هذه المؤثرات بشكل كامل. أما الاتجاه الثانى فيذهب إلى أن المؤثرات الخارجية هى المُحرَّك الرئيسي أو الوحيد لهذا النوع من الصراعات الداخلية عن طريق استغلال الانقسام المرتبط بأزمة التعددية الثقافية. ولايزال هذا الخلاف قائمًا في العالم العربي، ومُنتجًا لمجادلات وسجالات بلغت ذروتها منذ مطلع العقد الماضي, برغم أن الدراسات العلمية الأكثر أهمية في هذا المجال اتجهت منذ وقت طويل إلى التركيز على العوامل الداخلية على أساس أن الانقسام الناتج عن إخفاق إدارة التعددية الثقافية هو مصدر الأزمة التى تندلع عند تسييس هذا الانقسام، وإقامة أحزاب أو جماعات وحركات سياسية على خطوطه، وتصبح قابلة للتفاقم في ارتباطها بثقافة مجتمعية قوامها العداء المتبادل والصدام وضعف القدرة على التعايش[3].

وقد حفلت أدبيات التنمية السياسية في ستينات القرن الماضي برؤى عبرت عن فداحة أخطار الفشل في إدارة التعددية الثقافية في البلدان التي كانت توصف بأنها نامية، وتضمن بعضها نزعات تشاؤمية بشأن فرص تحقيق تكامل قومي أو وطني National Integration فيها[4].

وبوجه عام، تدور المواقف المعبرة عن قوة العوامل الداخلية في الكتابات العربية حول فشل عملية بناء الدولة الوطنية، واحتكار فئات اجتماعية معينة السلطة السياسية على نحو أدى إلى اغترابها أو غُربتها عن المجتمع، واتجاه النُخب المعبرة عن جماعات ثقافية مُهمشة أو تشعر بالتهميش إلى تكثيف التوظيف السياسي في هذه الجماعات، خاصةً حين يُحال بينها وبين الحضور في مجال عام مفتوح، فيكون الاتجاه إلى تعبئة جماعة ثقافية أو أخرى بمثابة رد على الاحتكار السياسى.

والفكرة الجوهرية، هنا ذات شقين. الأول، أن إخفاق عملية بناء دولة وطنية يجعل الحداثة المرتبطة بهذه العملية سطحية، أي محصورة في سطح المجتمع، فيما يبقى المجتمع تقليديًا تطغى فيه انتماءات أولية على الانتماءات الحديثة وفى مقدمتها الانتماء الوطنى. والثاني أن فشل محاولة بناء دولة وطنية أسوأ من عدم الإقدام على هذه المحاولة. فالفشل يُخلخل التوازنات التقليدية في المجتمع، ولا يُحقَّق في الوقت نفسه توازنًا جديدًا حديثًا، فيحدث ما يترتب عادةً على اختلال التوازن في أي مجال. ويؤدى اختلال التوازن الناتج عن فشل محاولة بناء الدولة الوطنية إلى فراغ وخوف يدفعان إلى نُشدان الأمان في أحضان روابط الجماعات الثقافية التى تقوم على انتماءات أولية، تعويضًا عن فقدان الروابط المدنية أو ضعفها[5].

وفى المقابل، تدور المواقف المعبرة عن أولوية العوامل الخارجية حول فكرة المؤامرة، إذ يُلقى اللوم غالبًا، في الكتابات العربية المعبرة عن هذه المواقف، على قوى أجنبية تهدف إلى تفريق بلدان الأمة بعد أن قامت بتقسيمها، أو ما يُطلق عليه لدى البعض “تفتيت المُفتت”، سواء في إطار مخططات غربية بوجه عام، أو مؤامرات أمريكية-صهيونية، أو سياسات نيوليبرالية جامحة[6].

والحال أنه يصعب التوصل إلى تعميم بشأن دور العوامل الداخلية والمؤثرات الخارجية في أزمات التعددية الثقافية، والصراعات التى تنتج عنها وتُنتج معارك أو حروبًا أهلية في بعض البلدان العربية، كما في غيرها، لأن لكل حالة ظروفها وملابساتها. ولهذا تحسن دراسة كل حالة في سياقها لتحديد الوزن النسبى لكل من العوامل الداخلية والخارجية. ولا يُفضل الاستهانة بالمؤثرات الخارجية استنادًا إلى ارتباطها بما يُسمى “نظرية المؤامرة”، أو إلى وجود نزعة إيديولوجية صارمة في كثير من الكتابات العربية التي ركَّزت عليها، لأن أثر هذه المؤثرات يمكن أن يكون أقوى في بعض الحالات مثل الحالة اللبنانية التى تستمد خصوصيتها من الصراع الإقليمي الذي ظل لبنان أحد أهم مسارحه منذ عام 1958.

التوافق.. وحل أزمة التعددية الثقافية
مازال التفاهم بين نُخب ممثلة للجماعات الثقافية المختلفة على صيغة دستورية وقانونية تضمن تمثيل هذه الجماعات في نظام الحكم هو المدخل الأساسي في السعي إلى حل أزمات التعددية الثقافية، وخاصةً في المجتمعات الأكثر تعددية، أو ما يُطلق عليه التوافق Consociation أو النموذج التوافقى.

وكان عالم السياسة الهولندى-الأمريكى أريند ليجفارت[7] أول من سعى إلى رسم ملامح هذا النموذج عام 1982، وتحديد ملامحه على النحو التالى (مع بعض التصرف):

1- نظام سياسي يقوم على ائتلاف واسع يضم ممثلى كل الجماعات الثقافية أو معظمها، سواء في صورة حكومة ائتلافية، أو مجلس أعلى، أو هيئة استشارية ذات نفوذ قوى في مجال التوفيق عند نشوب خلافات على خلفية ثقافية.

2- “فيتو” متبادل لحماية مصالح الجماعات الأصغر يُنص عليه في الدستور أو القانون، ويُلزم باتخاذ قرارات معنية بالإجماع أو بأغلبية خاصة. وفى حالة بلجيكا، على سبيل المثال، عُدل الدستور عام 1970 لينص على أن مشاريع القوانين المتعلقة بالانتماءات الثقافية يجب أن تُمرر بموافقة أعضاء البرلمان الممثلين للجماعتين اللتين تتحدثان الألمانية والفرنسية.

3- نظام حصص أو “كوتا” يضمن تمثيل مختلف الجماعات الثقافية أو أهمها، بحيث لا تُهيمن إحداها، أو يُستبعد بعضها أو يُهَّمش.

4- درجة عالية من الاستقلال الذاتى لكل جماعة ثقافية في إدارة شئونها الدينية والتعليمية والاجتماعية، مع تحبيذ الاتجاه صوب الفيدرالية في حالة تركز كل من الجماعات الثقافية في إقليم معين.

وليست قليلةً الانتقادات التى تعرض لها هذا النموذج برغم نجاحه في حالات عدة مثل بلجيكا وهولندا ولوكسمبرج وسويسرا وماليزيا وغيرها، ومنها مثلاً أنه لا يُحقَّق ديمقراطية كاملة أو كافية، لأنه لا يدع مجالاً للتنافس السياسي، ولا يضمن وجود حكومات تتمتع بالقدرة والكفاءة التقنية، ويهتم بتحقيق التوازن بين الجماعات على حساب الحرية الفردية.

ومشكلة هذا النموذج في العالم العربي أنه لم ينجح في الحالتين العربيتين اللتين أُخذ به فيهما، وهما لبنان منذ عام 1943 والعراق منذ عام 2014. ولكن نجاحه في حالات أخرى كثيرة في العالم يحفز على إعادة دراسة الحالتين اللبنانية والعراقية سعيًا إلى تحديد العامل الرئيسى وراء إخفاقه فيهما، والوزن النسبى للمؤثرات الخارجية الإقليمية والدولية في كل منهما.

وقد سبقت الإشارة للتو إلى أن هذه المؤثرات كانت قوية في لبنان. فقد صمد النموذج التوافقي (المُسمى طائفيًا) في لبنان لأكثر من عقدين، برغم أن المؤثرات الخارجية واجهته ولم يمض عليه سوى عقد ونيف، وتجاوز أزمة 1958 التى نتجت عن الصراع بين معسكرى “الحرب الباردة العربية” في بدايتها، ولكنه لم يتحمل تداعيات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي على أرضه. وكان أثر هذه المؤثرات واضحًا في المقدمات التي أدت إلى اندلاع الحرب الأهلية عام 1975.

أما في العراق، فقد أُخذ بالنموذج التوافقي في ظرف غير طبيعي تحت احتلال أمريكى، وفى ظل اختلال فادح في موازين القوى بين الجماعات الثقافية، وخاصةً الجماعتين الشيعية والسُنية، وارتبط بالتالي في أوساط القطاع الأوسع من العراقيين السُنة بما يرونه ظلمًا لحق بهم. ولهذا كان واضحًا منذ اللحظة الأولى أن النموذج التوافقى يواجه صعوبات كبيرة في العراق[8]، على نحو يفرض البحث فيما إذا كان ما حدث، ويحدث حتى اليوم، يعود إلى خلل في بنية هذا النموذج من الناحية المنهجية، أم إلى ظروف غير طبيعية جعلت أزمة التعددية الثقافية أقوى من أن يساعد في حلها. وتزداد الحاجة إلى إعادة دراسة الحالتين اللبنانية والعراقية، من زاوية الوزن النسبى لكل من العوامل الداخلية والمؤثرات الخارجية في إفشال نموذج التوافق، في ضوء عدم وجود مدخل آخر متماسك منهجيًا حتى الآن لمعالجة أزمات التعددية الثقافية، وخاصةً في المجتمعات الأكثر تعددًا.

ولهذا بقيت الملامح العامة لهذا النموذج، مع تعديل هنا وآخر هناك، هى ما يلجأ إليه دارسو الأزمات المتعلقة بالتعددية الثقافية. وظلت فكرة الحوار بين الجماعات المتعددة المختلفة للتوصل إلى تفاهمات في البلدان العربية التي انفجرت أزماتها الداخلية في العقدين الأخيرين هي محور دراسات نُشرت عن هذه الأزمات في العقد الماضي، مثل دراسة كيمليكا وفوستل التى خلصا فيها إلى أن الحوار هو السبيل للتوافق بشأن نظام ديمقراطى لا يعتمد على الانتخابات فقط، ولا يهضم حقوق الجماعات الأصغر، ويتضمن وسائل لتمكين كل جماعة من التعبير عن نفسها والمحافظة على مصالحها[9].

والحال أنه لا سبيل غير الحوار الوطني الجاد سعيًا إلى توافقات تساعد في وضع حد لأزمات هذه البلدان، مع السعي إلى تحييد العوامل التي أفشلت التوافق في لبنان والعراق، والاسترشاد بالحالات التى نجح النموذج التوافقي فيها على المستوى الدولي.

وحيد عبدالمجيد

مركز الاهرام