العالم في 2021: تساؤلات عشرة تشكل أجندة العلاقات الدولية

العالم في 2021: تساؤلات عشرة تشكل أجندة العلاقات الدولية

يعد مصطلح “عدم التأكد” أحد المصطلحات الشائعة في علم العلاقات الدولية لوصف المستقبل. وسوف يمنح عام 2021 هذا المصطلح معنى جديداً بعدما تبين خلال العام الماضي أن أزمة تفشي وباء كوفيد – 19 قد قلصت من قدرة العالم على رصد وإدراك سرعة وقوة التغيرات غير المتوقعة. كما كان الوباء أيضاً بمثابة “اختباراً قاسياً” ساهم في تغيير نمط حياة البشر اليومية بسرعة كبيرة في دلالة واضحة على أن العالم لم يمتلك بعد “أنظمة إنذار قوية” تسمح له بالتأهب للتعامل الناجح مع الأزمات غير المنتظرة.

شدة “الصدمة والمفاجأة” من قوة ونطاق أزمة الوباء في السنة الماضية، سوف تجعل عام 2021، على الأرجح، هو عام العمل على مستوى الدول، سواء بشكل فردي أو جماعي، من أجل اتخاذ القرارات الملائمة في التعامل مع المخاطر والفرص المترتبة عن هذه “الصدمة والمفاجأة”، مما سيجعل العام الجديد بمثابة “مفترق طرق” في التأثير على أجندة العلاقات الدولية ليس فقط في العام الجديد، وإنما أيضاً لفترة طويلة في المستقبل.

أزمة كوفيد – 19 سوف يمتد تأثيرها السلبي، صحياً واقتصادياً واجتماعياً، بشدة في عام 2021 ليس فقط على حياة البشر وإنما أيضاً على أجندة العلاقات الدولية، بعدما وصل العدد الإجمالي لحالات الإصابة في العالم إلى أكثر من 91 مليون، مع حوالي مليونين حالة وفاة، في 15 يناير2021[1]. ومن المتوقع أن يصبح “التعايش” مع الأزمة هو الصيحة العالمية في دول عانت جميعاً من البلاء، حيث من المنتظر في العام الجديد أن تكون “المعضلة الأولى” التي يجب معالجتها على أجندة التفاعلات العالمية هي التعامل مع ما أدت إليه أزمة كوفيد – 19 من تفاقم للأزمات الإنسانية على المستوى العالمي، بسبب زيادة الفقر، وتراجع تقديم المساعدات الدولية من جانب الشركاء الدوليين، فضلاً عن الصعوبات اللوجستية في إيصال هذه المساعدات. وربما تكون الحالة اليمنية من أبرز الحالات الدالة على ذلك.

وإلى جانب ذلك، يُدرج الكثير من خبراء العلاقات الدولية أيضاً عامل “ما بعد ترامب” في قائمة أهم العوامل التي سوف تؤثر على أجندة الشئون العالمية في 2021، مشيرين إلى أن تولي إدارة أمريكية جديدة، برئاسة جو بايدن، قد يعزز الثقة في كثير من المؤسسات الدولية والتحالفات الجماعية في مواجهة المخاطر التي تهدد الأمن والاستقرار الدوليين، رغم أن عدداً من دول العالم ما يزال ينظر، بشك وريبة، إلى أجندة أولويات السياسة الخارجية لبايدن ومدى قدرة إدارته على تنفيذ هذه الأجندة في ظل احتمال نجاح “أنصار ترامب” أو “الترامبية” في إحداث أزمات ومشاكل للإدارة الجديدة.

وفي هذا السياق، يصف عدد من المراقبين عام 2021 بأنه سيكون عام “إعادة البناء” لما دمره وباء كوفيد- 19 ولما أحدثته توجهات إدارة الرئيس ترامب على الصعيد العالمي خلال الأربع سنوات الماضية [2]، مشيرين إلى أن عملية “إعادة البناء” هذه قد تأخذ اتجاهات مختلفة في عدة مجالات أساسية، لعل من أهمها المجالات العشر التالية:

النظام الدولي: تعاون أم مزيد من الاختلال؟
كشف تفشي وباء كوفيد- 19، خلال عام 2020، عن عدة اختلالات عميقة في الحوكمة العالمية. وكان من أبرز هذه الاختلالات: تأخر مجلس الأمن الدولي لأكثر من ثلاثة شهور للاتفاق على القرار 2532 بشأن كيفية التعامل مع الوباء، في أول يوليو الماضي [3]، هذا فضلاً عن الانقسامات الدولية الشديدة التي تفجرت داخل منظمة الصحة العالمية بشأن كيفية مواجهة الوباء والمسئولية عنه وغيرها [4]. ورغم هذه الاختلالات، لوحظ أيضاً، في العام الماضي، وجود توجه تعاوني متزايد على الصعيد الدولي في مواجهة تفشي الوباء، باعتباره أحد التحديات العديدة التي لا يمكن مواجهتها إلا على الصعيد العالمي. وفي إطار هذا التوجه، تم تعزيز عدد من شبكات التعاون الصحي على المستوى العالمي (مثل نظام كوفاكس COVAX، والذي تشارك فيه العديد من الحكومات والمنظمات الدولية والمؤسسات الخاصة) وعلى المستوى الإقليمي (في أفريقيا مثلاً) وعلى مستوى المدن في غالبية أنحاء العالم [5]. وخلال هذا التوجه التعاوني، ظهر، في العام الماضي، ميل لدى عدد من الدول الكبرى إلى توظيف المساعدات الطبية لمواجهة الوباء باعتبارها “سلاحاً جديداً” في ترسانتها الدبلوماسية لزيادة مكانتها الدولية وتوسيع مناطق نفوذها، فيما عرف بظاهرة “دبلوماسية اللقاحات” [6].

وفي عام 2021، من المتوقع أن تبرز ظاهرة “جيوبولتيكس اللقاحات” من خلال تنامي توظيف اللقاحات في الترسانة الدبلوماسية لعدد متزايد من الدول من أجل جنى مكاسب سياسية واستراتيجية، الأمر الذي سوف يجعل الحصول على هذه اللقاحات بالنسبة للدول منخفضة الدخل، أو تلك الواقعة في مناطق الصراع، تحدياً اقتصادياً وسياسياً ولوجستياً كبيراً [7]. كما من المنتظر أيضاً أن تقدم الصين وروسيا اللقاحات إلى الدول الفقيرة والمنكوبة والصديقة لزيادة نفوذهما السياسي والاستراتيجي. وربما يحاول الاتحاد الأوروبي اللحاق ببكين وموسكو في هذا المجال، بعد تلبية احتياجات الدول الأوروبية أولاً.

بايدن: استعادة الدور العالمي أم مزيد من الانكفاء على الداخل؟
من الناحية السياسية، سيبدأ عام 2021 في 20 يناير بتنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، الذي من المتوقع أن يعمل بسرعة لتبني توجهات وسياسات جديدة من شأنها إبعاد السياسات الأمريكية عن “بوصلة ترامب” “de-Trumpification”، لاسيما على صعيد السياسة الخارجية [8]. وفي هذا الإطار، سوف تعود الولايات المتحدة على الفور إلى اتفاقية باريس لمواجهة التغير المناخي ومنظمة الصحة العالمية وصندوق الأمم المتحدة للسكان [9]. كما سوف يسعى بايدن أيضاً إلى تنظيم “قمة عالمية للعمل المناخي” لمساعدة الدول ذات الانبعاثات الكربونية العالية على اتخاذ إجراءات مناخية طموحة. ومن المتوقع أيضاً أن تهدف الإدارة الجديدة إلى البحث عن أساليب جديدة لإعادة تقديم نفسها كمدافع عن الحريات وحقوق الإنسان ونشر الديمقراطية في العالم. وأحد الاقتراحات المطروحة لتحقيق هذا الهدف هو عقد “قمة الديمقراطيات” [10]. وسيكون من المفيد رؤية من سيتم دعوته إلى هذه القمة، وكيف ستتعامل واشنطن مع الحركات الاحتجاجية ومنظمات حقوق الإنسان في العالم، خاصة في روسيا والصين وبعض الدول العربية. كذلك من المرجح أن يواصل بايدن جهود أسلافه لتقليل – إن لم يكن إنهاء – الوجود العسكري الأمريكي في العراق وأفغانستان [11]. ولكن على عكس ترامب، سوف يميل بايدن إلى التنسيق بشكل أوثق مع الدول الأوروبية وغيرها من أعضاء الناتو عندما يتصل الأمر بالقرارات المتعلقة بنشر القوات العسكرية الأمريكية في الخارج، أو فيما يتعلق بالتعامل مع الصين وروسيا وإيران. وهذا التركيز على التعددية من قبل بايدن سيمثل تغييراً كبيراً مقارنة بوجهات نظر ترامب بشأن التعاون الدولي.

إلا أن توجهات إدارة بايدن المتوقعة لاستعادة القيادة الأمريكية للعالم قد تتعثر بشدة بفعل عدة عوامل داخلية ربما تدفعه نحو الانكفاء على الداخل خلال عام 2021. إذ يمثل وصول بايدن إلى البيت الأبيض “أمراً محبطاً” لأكثر من 74 مليون صوتوا لصالح ترامب (بايدن حصل على أصوات تقترب من 80 مليون). وفي هذا السياق، قد يميل الرئيس المنتخب في بداية ولايته خلال العام الجديد إلى تركيز جهوده في الداخل من أجل نزع الاستقطاب الحاد عن المجتمع الأمريكي، وإلحاق الهزيمة بـ “الترامبية” ومنعها من إعادة ترتيب صفوفها من جديد.

الانتعاش الاقتصادي العالمي: كلي أم جزئي؟
سوف تتضح الخسائر الاقتصادية الناجمة عن تفشي وباء كوفيد- 19 في عام 2020 في الأشهر الأولى من عام 2021. ورغم أن أسواق الأسهم العالمية قد استعادت جزءاً كبيراً من خسائرها منذ مارس 2020، مدفوعة إلى حد كبير بالأخبار الجيدة حول اللقاحات، فإن العودة إلى الأوضاع الاقتصادية التي كانت سائدة قبل الجائحة ستكون بطيئة للغاية، وستتفاوت أيضاً بشكل كبير من دولة إلى أخرى. كما سيكون الانتعاش الاقتصادي العالمي هشاً، خاصة في حالة حدوث أية تطورات صحية سلبية، مثل فشل عمليات التطعيم أو تحور الفيروس، مما يمكن أن يؤدي إلى تحطم آمال هذا الانتعاش، والتي بدأت في التراكم في أواخر عام 2020.

النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي (1980-2020):

المزيد من الاقتصادات في هبوط أعمق

Source: International Monetary Fund (October 2020).

وفضلاً عن الشكوك المحيطة بالانتعاش الاقتصادي العالمي، ستكون القضية الكبرى لعام 2021 هى زيادة الفجوة في الثروات والدخول، خاصة بين الدول الغنية والفقيرة وبين الرجال والنساء [12]. كما سوف تتسع أيضاً فجوة التعليم بين الأطفال في الأسر المُجهَّزة للتعلم عن بعد وأولئك الذين ليسوا كذلك، مما سوف يرفع بشكل كبير من مخاطر زيادة معدلات التسرب من المدارس. ومما يثير القلق بالقدر نفسه في عام 2021 أن توقعات البنك الدولي تشير إلى أن 150 مليون شخص سيقعون في الفقر المدقع خلال العام القادم بفعل الوباء، في تناقض واضح مع الهدف الأول للتنمية المستدامة [13].

الزيادة في أعداد الفقراء عند خط 1.90 دولار في اليوم في عام 2020 (بالمليون شخص)

Source: World Bank, Poverty and Shared Prosperity 2020, Reversals of Fortune, (October 2020).

ومن ناحية أخرى، من المتوقع خلال عام 2021 أن تواجه الاقتصادات متوسطة ومنخفضة الدخل، مثل تلك الموجودة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، أزمات سيولة مالية. بعبارة أخرى، ستنمو الفجوات بين أولئك الذين لديهم إمكانية الحصول على الائتمان ومن لا يملكونه. وبالتزامن مع ذلك، من المنتظر حدوث أزمة مالية عالمية جديدة نتيجة “انفجار” الدين العام الناجم عن الإنفاق الطارئ على كوفيد- 19، وخاصة في الاقتصادات النامية، حيث ارتفع إجمالي هذا الدين بمقدار 15 تريليون دولار في عام 2020. ومن المتوقع أن يصل إلى 365 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول نهاية العام [14].

مواجهة التغير المناخي: تنفيذ أم تأجيل؟
شهد عام 2020 الذكرى السنوية الخامسة لاتفاقية باريس لمواجهة التغير المناخي، والتي هدفت إلى منع ارتفاع درجة حرارة الأرض لأكثر من درجتين مئويتين بحلول نهاية القرن الحالي، من خلال تسريع وتيرة تخفيف الانبعاثات المتسببة في هذا الارتفاع، والوصول إلى “صفر كربون” قبل سنة 2050. وفي هذا السياق، تعهدت بعض الاقتصادات القوية مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي، في العام الماضي، تحقيق “الحياد الكربوني” بحلول منتصف القرن الحالي. وفي 12 ديسمبر الماضي (2020)، عُقدت “قمة الطموح المناخي” الافتراضية، بمشاركة 75 رئيس دولة وعشرات من رؤساء المنظمات الدولية وقادة قطاع الأعمال والمجتمع المدني. وفي كلماتهم أمام القمة، قدم 45 رئيس دولة التزامات وطنية جديدة بخفض الانبعاثات والتكيف مع التغير المناخي، بينما حددت 24 دولة تواريخ أقرب للوصول إلى هدف “الحياد الكربوني”، وقدمت 20 دولة خططاً جديدة للتكيف. وبذلك، تجاوز عدد الدول التي التزمت بخفض الانبعاثات الكربونية إلى الصفر قبل سنة 2050 عتبة السبعين دولة. كما ألزمت آلاف الشركات العالمية نفسها طوعاً بهذا الهدف [15].

وفي عام 2021، من المتوقع أن يشهد العمل المناخي قفزة كبيرة، مستفيداً من قوة الدفع بعودة الولايات المتحدة لاتفاقية باريس واستعداد الإدارة الأمريكية الجديدة لإنفاق تريليوني دولار في مشروعات البنية الأساسية المتوافقة مع الاعتبارات المناخية والبيئية. كما سوف يستفيد العمل المناخي أيضاً من برامج الإصلاح والتعافي الاقتصادي في أوروبا، التي أدرجت النمو الأخضر في قواعد منح التمويل وتوجيه الاستثمارات بما يساند جهود السعي نحو تخفيض الانبعاثات الضارة بالمناخ والبيئة. وسوف تظهر ذروة العمل المناخي العالمي في قمة جلاسكو للعمل المناخي، المقرر عقدها في اسكتلندا في نوفمبر 2021 [16]. هذا، ومن المتوقع أيضاً أن يكون الانتقال الصناعي نحو استخدام “الهيدروجين الأخضر”، في كثير من دول العالم كالمغرب [17] والهند، أحد الموضوعات الرئيسية في عام 2021 لتحقيق هدف حيادية الانبعاثات، خاصة وأن له إمكانات كبيرة في العديد من الصناعات، كما أنه يوفر مزايا هائلة من حيث التخزين.

عمالقة البيانات: توسع أم تقييد؟
في عام 2020، دفعت جائحة كوفيد- 19 إلى تنامي الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية (الإنترنت والموبيل) والخدمات التي تقدم عن بعد، لا سيما التعليم الإلكتروني، والعمل عن بعد، والتسوق الإلكتروني، وغيرها. وقد ساهم ذلك في توسع غير مسبوق لقطاع الرقمنة وزيادة قوة أسهم شركات البيانات العملاقة على الإنترنت مثل: جوجل Google وأمازون Amazon وفاسبوك Facebook وابل Apple ومايكروسوفت Microsoft. كما برزت كثير من التطبيقات التي لم تكن شائعة من قبل، مثل: تيك-توك [18] Tik-Tokوزووم [19] Zoom. وانتشرت المقالات والتحليلات بشأن المستجدات السريعة في تكنولوجيات الجيل الخامس من الاتصالات 5G والذكاء الاصطناعي (AI) المستند إلى البيانات الضخمة.

وقد أثار هذا التوسع غير المسبوق لـ”عمالقة البيانات” أو “العمالقة الرقميون” في العام الماضي “صراع مصالح” عنيفاً بينها وبين كثير من حكومات العالم، وسط اتجاه نحو تعزيز ما يعرف بـ”السيادة على الإنترنت” [20]، وضرورة “فرض رسوم” على هؤلاء “العمالقة” لتلبية حاجة هذه الحكومات إلى عائدات أكثر لتغطية التكاليف الاجتماعية للوباء وخطط التعافي الاقتصادي، فضلاً عن أهمية ضمان الخصوصية والحوكمة الجيدة للبيانات. وفي هذا السياق، شهد العام الماضي فشل محاولات التوصل إلى اتفاق بين الأوروبيين والأمريكيين حول أسعار الخدمات الرقمية في إطار منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية [21]. وإذا استمر هذا الفشل في العام الجديد، فسوف يخلق ذلك توتراً شديداً بين الاتحاد الأوروبي والإدارة الأمريكية الجديدة، خاصة مع التوقعات التي تشير إلى عزم الاتحاد الأوروبي تدشين ترسانته التنظيمية للمجال الرقمي في عام 2021، وهي ما تعرف بقانون الخدمات الرقمية [22]Digital Services Act (DSA) . ويسعى هذا القانون إلى حماية السوق الأوروبية الموحدة والحفاظ على حقوق المستهلك الأوروبي من خلال منع “عمالقة البيانات” من استخدام البيانات التي تم جمعها بشكل يمس بالخصوصية الشخصية، وهو ما أصبح يعرف في عدد من دول الجنوب بظاهرة “الاستعمار الرقمي” data colonialism [23]. وفي مواجهة الموقف الأوروبي المتشدد لتقييد “عمالقة البيانات”، من المتوقع أن يسعى الرئيس بايدن، حسب بعض المراقبين، إلى عدم “خنق الأوزة التي تبيض ذهباً” للاقتصاد الأمريكي، خاصة بعدما تزايد الاعتماد على هؤلاء “العمالقة” كمحركات لتحقيق التعافي الاقتصادي بعد كوفيد- 19، وذلك عن طريق تشجيع منظمة التجارة العالمية على احتضان التدفقات المجانية عبر الحدود للبيانات دون أي رسوم أو مصاريف وعدم توطين البيانات للتجارة الإلكترونية.

ومن ناحية أخرى، من المنتظر خلال عام 2021 زيادة المخاطر ذات الصلة بالأمن السيبراني، في ضوء الطفرة المتلاحقة في تقنيات وآليات التجسس الإلكتروني والهجمات السيبرانية، واستمرار المتاجرة في بيانات المستخدمين لأغراض تجارية وأمنية، وتنامي الابتزاز والقرصنة من الدول والفاعلين من غير الدول على حد سواء.

الطاقة: تعافي أم اعتلال؟
أدت أزمة كوفيد- 19، خلال عام 2020، إلى حدوث واحدة من أكبر الصدمات في تاريخ أسواق الطاقة العالمية [24]. إذ تسببت هذه الأزمة في خفض الأسعار وتقلّبها نتيجة عدم استقرار أنماط استهلاك الطاقة في الأسواق الرئيسية للدول المتقدمة، بفعل الإجراءات الاحترازية لمواجهة تفشي الجائحة، والتي قلصت التنقل بمختلف وسائله إلى الحدود الدنيا، ناهيك عن تقليص الإنتاج الصناعي. كما ساهمت هذه الأزمة أيضاً في زيادة حدة التحديات التي تواجهها الشركات الكبرى في قطاعات إنتاج النفط والغاز، وأيضاً في قطاع المصافي والشركات التي توفر خدمات الإنتاج من الحقول، والشركات الوسيطة التي يتركز نشاطها في النقل والتوصيل بين الحقول ومنافذ التكرير والتوزيع.

وفي العام الماضي، حدث انخفاض حاد في أسعار النفط العالمية لتصل، في إبريل 2020، إلى مستوى 18.3 دولاراً للبرميل، وهو ما يعتبر أدنى مستوى له منذ يونيو 1999، بل وتدهورت هذه الأسعار إلى 37 دولاراً تحت الصفر، للمرة الأولى في التاريخ، في السوق المستقبلية للنفط الأمريكي في بورصة نيويورك. ومع التقليص التدريجي لإجراءات العزل في العديد من دول العالم، خلال النصف الثاني من عام 2020، خاصة في الصين والدول الأوروبية والولايات المتحدة، بدأت أسواق الطاقة العالمية تستعيد عافيتها تدريجياً، فارتفع سعر النفط (خام برنت) ليستقر عند سعر يتراوح بين 40 و50 دولاراً للبرميل خلال الشهور الأخيرة من عام 2020. وربما يكون السبب الأهم في هذا الاستقرار هو اتفاق دول “أوبك بلس”، وهي الدول المصدرة للنفط الأعضاء في منظمة أوبك وغيرها من خارجها بقيادة السعودية وروسيا، على خفض الإنتاج النفطي في إبريل 2020.

وفي عام 2021، ليس من المتوقع أن تشهد أسواق الطاقة العالمية انتعاشاً كبيراً. فاستمرار أزمة كوفيد- 19 لا يمثل نوع المستقبل الذي يلهم دول العالم وشركات الطاقة الكبرى لإنفاق المليارات على عمليات الاستكشاف والإنتاج والتجارة لأشكال الطاقة المختلفة. كما أن التوصل إلى اللقاح لا يبدو، حتى كتابة هذه السطور، “منقذاً” لأسواق الطاقة العالمية في 2021. فمشاكل اللقاح تبدو متعددة، أهمها أن الكميات ستكون قليلة في البداية وسيتم إعطاء الأولوية للفرق الطبية التي تتعامل مع مرضى كوفيد- 19، وبالتالي فلن يحصل عليه المواطنون العاديون إلا في نهاية عام 2021 وفي 2022، وذلك على افتراض توافره بسعر معقول. وبالإضافة إلى ذلك، توجد معارضة شعبية كبيرة حول العالم لأخذ اللقاح لأسباب مختلفة، منها على سبيل المثال، الخوف من قلة فاعليته أو إمكانية وجود آثار جانبية ضارة على المدى البعيد أو الاعتقاد بأن اللقاح نفسه مبرمج بحيث يسيطر على العقل البشري، أو مبرمج بحيث يعطي معلومات كاملة عن حالة الشخص الصحية والعصبية والذهنية. وكل ذلك لن يقود إلى عودة الحياة الطبيعية للبشر، وما يرتبط بها من استخدامات كثيفة للطاقة في مجالات النقل والصناعة وغيرها.

توقعات سبع مؤسسات دولية لأسعار النفط (خام برنت) في عامي 2020-2021 (بالدولار)

الاحتجاجات الاجتماعية: تأجج أم خفوت؟
في عام 2020، تراجعت الاحتجاجات الشعبية، بشكل عام، في كثير من دول العالم، في سياق تفشي وباء كوفيد- 19 والقيود على التنقل. ولكن ذلك لم يمنع، بشكل مطلق، ظهور عدد من الحركات الاحتجاجية في النصف الثاني من العام الماضي، مثل حركة “أرواح السود تستحق” Black Lives Matter القوية في الولايات المتحدة [25]، والاحتجاجات النسائية في بولندا [26]، والحركات المؤيدة للديمقراطية في بيلاروسيا [27]، وغيرها من الحركات الاحتجاجية في نيجيريا وبيرو وجواتيمالا [28].

وفي عام 2021، من المتوقع أن يشهد العالم تأججاً في الاحتجاجات الاجتماعية، خاصة وأن تدابير التقييد والإغلاق والعزل الاجتماعي التي فرضها الوباء قد أدت، بشكل عام، إلى تفاقم وانتشار مشاعر عدم الرضا بين كثير من الناس. فزيادة عدد العاطلين عن العمل، وانهيار الدخل الحقيقي لكثير من المواطنين، ومواجهة الحكومات صعوبات متزايدة في دفع رواتب لقوات الأمن، واعتماد عامة السكان بشكل متزايد على دعم الدولة في وقت تتراجع فيه قدرة الحكومات على توفير هذا الدعم، سوف يؤدي إلى تلاشي الخطوط الفاصلة بين عدم الرضا الاقتصادي والاضطراب الاجتماعي من ناحية، وبين الاضطراب الاجتماعي واندلاع العنف من ناحية أخرى. كما أن الوعي المتزايد بالأضرار الصحية والاقتصادية الناجمة عن تفشي الوباء، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، سوف يجعل من عمليات “المحاكاة والتقليد” للحركات الاحتجاجية أكثر احتمالية في عام 2021، خاصة في دول مثل الجزائر وإثيوبيا وجنوب إفريقيا ونيجيريا وتركيا وتايلاند والسنغال. كذلك، قد تكون حملات التطعيم ضد وباء كوفيد- 19 إحدى وسائل إشعال الغضب والاحتجاجات الاجتماعية، خاصة إذا ما اتضح منها استبعاد بعض المجموعات الاجتماعية، لأسباب جغرافية أو دينية أو مناطقية أو طبقية أو غيرها.

الأجانب: استيعاب أم استبعاد؟
شهد عام 2020 ميل كثير من الدوائر المعادية للأجانب من المهاجرين واللاجئين في عدد من دول العالم إلى استخدام حجة جديدة مفادها أن كل مهاجر أو طالب لجوء حامل لفيروس كوفيد- 19، مطالبين بمنع دخول المهاجرين واللاجئين أو ترحيلهم أو وضع ضوابط أكثر صرامة في التعامل معهم. وكان من المفارقات الواضحة خلال العام الماضي أن أغلبية المجتمعات التي سعت إلى إغلاق الحدود في الماضي في وجه الأجانب هي التي جذبت أطقم الأطباء والممرضات من الخارج للمعاونة في مواجهة تفشي الوباء. ومن ذلك، على سبيل المثال، المملكة المتحدة، التي مددت تلقائياً جميع التأشيرات للأطباء والممرضات المهاجرين، والتي انتهت صلاحيتها قبل الأول من أكتوبر 2020 لمدة عام واحد [29]. ومع ذلك، من المتوقع أن تتزايد الرغبة في “إغلاق الحدود” أمام دخول الأجانب من المهاجرين واللاجئين في كثير من دول العالم خلال عام 2021، خاصة من جانب تلك الدول التي عانت اقتصادياً بشدة. كما من المنتظر أيضاً، حال استمرار التباطؤ الاقتصادي في عام 2021، أن تنفذ عمليات طرد واستبعاد جديدة للعمال الأجانب من دول الخليج العربي [30]، وتصاعد التوترات في جنوب إفريقيا ولبنان بشأن المهاجرين من الدول المجاورة [31].

آسيا: صعود أم هبوط؟
في عام 2020، عانت القارة الآسيوية (التي يبلغ عدد سكانها حوالي 4.64 مليار شخص، يمثلون حوالي 60 في المائة من سكان العالم) من أسوأ ركود اقتصادي لها على الإطلاق. إلا أن كثيراً من دول القارة حققت نجاحاً ملموساً في مواجهة تفشي وباء كوفيد- 19. وفي هذا السياق، يرى كيشور محبوباني الأستاذ في معهد أبحاث آسيا بجامعة سنغافورة الوطنية، أن الدول الآسيوية كانت أكثر كفاءة من الغرب في التعامل مع جائحة كوفيد- 19 خلال العام الماضي، مشيراً إلى أن الأرقام لا تكذب في هذا الخصوص. فقد كان معدل الوفيات من الوباء أقل بكثير في دول شرق وجنوب شرق آسيا مقارنة بكثير من الدول الغربية. فعلى سبيل المثال، كان معدل الوفيات بسبب الجائحة في فيتنام (0.4 حالة وفاة لكل مليون شخص)، والصين (3)، وسنغافورة (5)، وكوريا الجنوبية (10)، واليابان (17)، بينما كان في بلجيكا (1446)، وإسبانيا (979)، وبريطانيا (877)، والولايات المتحدة (840)، وإيطاليا (944). وبناءً على ذلك، يؤكد محبوباني على أن قيمة الكفاءة قد انتقلت من الغرب إلى الشرق [32]. وفي ضوء ذلك، من المتوقع، في عام 2021، أن تتعافى الاقتصادات الآسيوية بشكل أسرع من الاقتصادات الغربية. كما سينتعش نمو الاقتصاد الصيني ومثيله الهندي بنسبة 8.2، 9,9 في المائة على التوالي [33].

ومع ذلك، من المتوقع أن تظل آسيا مسرحاً للتوترات الجيواستراتيجية نتيجة استمرار أزمة البرامج النووية والصاروخية لكوريا الشمالية، وتصاعد الخلافات بين الصين و”جيرانها” الآسيويين في الشرق الأقصى وجنوب آسيا، بسبب الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي وبسبب الصراع الحدودي بين الهند والصين في جبال الهيمالايا، هذا فضلاً عن التوقعات باستمرار تدخل الولايات المتحدة، في ظل إدارة بايدن، في أزمتي تايوان وهونج كونج، وهو ما تعتبره بكين “خطاً أحمر”.

شرق المتوسط: صدام أم وفاق؟
كان عام 2020 من أكثر الأعوام حدة وتوتراً بالنسبة لمنطقة حوض شرق المتوسط، التي أصبحت على حافة الهاوية والسقوط في مواجهة عسكرية ساخنة بين تركيا واليونان، نتيجة تبني الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لـما يسمى بـ”حلم استعادة الإمبراطورية العثمانية” من خلال محاولة توظيف الإرث التاريخي للدولة العثمانية القديمة في دول الجوار الإقليمي، وإحياء “استراتيجية الوطن الأزرق”. كما زاد التدخل العسكري التركي في ليبيا وسوريا، واستمرت أنقرة في عملياتها غير القانونية للتنقيب عن الغاز في المياة الإقليمية لليونان وقبرص، ودعمت جماعة الإخوان الإرهابية، والمليشيات المسلحة التابعة لها، وأفشلت حل الأزمة القبرصية، واستغلت ورقة اللاجئين لديها لابتزاز الاتحاد الأوروبي. كما نشرت تركيا أيضاً نظام الدفاع الجوي الروسي S-400، الذي يشكل تهديداً لحلف الناتو وأدى إلى فرض عقوبات أمريكية عليها.

العام الماضي شهد أيضاً تزايداً ملحوظاً في تعاون غالبية دول شرق المتوسط وعدد من الدول الكبرى من خارج المنطقة (مثل فرنسا) لمواجهة وردع الاستفزازات التركية في شرق المتوسط. فعلى سبيل المثال، تم تحويل “منتدى غاز شرق المتوسط”، الذي يضم مصر واليونان وقبرص وإسرائيل والأردن وإيطاليا، إلى منظمة إقليمية في سبتمبر 2020.وقد اكتسب هذا المنتدى زخماً هائلاً مع حرص البنك الدولي على حضور جميع فعالياته، وعرض فرنسا الانضمام إليه كعضو عامل، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والإمارات العربية المتحدة بصفة مراقبين. كما قدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مبادرة “باكس ميديتيرانيا” Pax Mediterranea، لمواجهة العدوانية المتزايدة من جانب تركيا في البحر المتوسط. وتزامن مع هذه التحركات الدبلوماسية زيادة وتيرة ونطاق التدريبات العسكرية والعمليات البحرية، التي قامت بها دول المنطقة. كما تم أيضاً شرعنة الحدود البحرية لدول المنطقة، من خلال توقيع اتفاقين لترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان وبين اليونان وإيطاليا.

وفي عام 2021، من المتوقع أن يؤدي ميل أنقرة المتزايد نحو إظهار عضلاتها العسكرية في عدة جبهات إلى مزيد من الصراعات والتوترات، كما قد يحدث انقسام داخل الناتو. ولمواجهة هذا التدهور قد يرتقي “منتدى غاز شرق المتوسط” من كونه تجمعاً “طاقوياً” لكي يصبح تجمعاً “أمنياً” لمنطقة شرق المتوسط. كما قد تقوم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات رادعة على أنقرة.

على أية حال،لا ينبغي النظر إلى هذه التوجهات على أنها حتميات واقعة، فهي تخضع لافتراضات قد تصيب أو تخطئ. ولكن من المهم في ظل الظروف السياسية التي يغلب عليها حالة “عدم التأكد” عالمياً، واتساع فجوة الثقة بين الدول إقليمياً، فضلاً عن تزايد حالة اللايقين اقتصادياً، أن يتم التمسك بقواعد مبدئية للتعاون الدولي في عالم ما بعد كوفيد- 19 وما بعد ترامب، حيث كشف تفشي الوباء في العام الماضي أن البشر جميعاً في قارب واحد يوشك على الغرق، وأن القول المأثور القديم بأن “رفرفة جناح فراشة في غابات الأمازون يمكن أن تؤثر على الكوكب كله” أصبح حقيقة واقعة بعد انتقال فيروس من حيوان في سوق للحيوانات في الصين إلى كافة أنحاء العالم.

أحمد قنديل

مركز الأهرام