حرب أفغانستان: لا ضوء في النفق

حرب أفغانستان: لا ضوء في النفق

يوم توصّلت حركة “طالبان” والولايات المتحدة لاتفاق سلام في العاصمة القطرية الدوحة في 29 فبراير/ شباط من العام الماضي، خرج الأفغان إلى الشوارع محتفلين، ظناً منهم أن الحرب على أعتاب النهاية. لكن كل التطورات الميدانية في الآونة الأخيرة تسير على عكس ما تمناه هؤلاء، الذين دفعوا ثمناً باهظاً هو عبارة عن أكثر من عشرين عاماً من حرب استنزاف طاحنة على المستويات كافة، والتي كانت فيها الولايات المتحدة رأس حربة بعدما احتلت البلد عقب هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وأسقطت حكم حركة طالبان ولاحقت قيادات تنظيم “القاعدة”، قبل أن تقرر الانسحاب.
وما أن بدت الفرصة سانحة مع سحب الجزء الأكبر من القوات الأجنبية (سواء التابعة لحلف شمال الأطلسي والقوات الأميركية)، حتى عادت حركة “طالبان”، مستغلة المتغيرات، لتبسط سيطرتها على مناطق شاسعة من البلاد، موقفة مرحلة المناورات والهدوء الذي ساد لفترة بعد توقيع اتفاق الدوحة، ومنتقلة نحو تطبيق مخططاتها الواضحة بالسعي للسيطرة على الحكم مجدداً. ليس أدل على ذلك من ضربها عرض الحائط بكل دعوات وقف إطلاق النار، إلى جانب إفشال المفاوضات الأفغانية الأفغانية، التي يبدو أنها فقدت قيمتها اليوم أمام ما يحصل في الميدان من تطورات، وكأن الحركة كانت منخرطة فيها فقط من أجل تمرير الوقت، قبل بدء مسلسل الانسحاب الأجنبي، الذي يمضي من دون الأخذ في الاعتبار أي انعكاسات لذلك على الوضع الداخلي لأفغانستان.

القوات الأفغانية تعتزم شن هجوم مضاد في الأقاليم الشمالية

وتواصل حركة “طالبان” استغلال انسحاب القوات الأجنبية لتصعيد العنف في أفغانستان وقضم مزيد من المناطق وآخرها في شمالي البلاد، رافضة إعطاء البلاد فرصة للاستقرار بعد الانسحاب الأميركي المتوقع اكتماله بحلول 11 سبتمبر/ أيلول المقبل. في موازاة ذلك، يزداد تخبط الحكومة أمام نكساتها المتتالية. وعلى الرغم من تأكيدها أن القوات الأفغانية تعتزم شن هجوم مضاد في أقاليم البلاد الشمالية التي زحفت إليها الحركة، إلا أن الأنباء الواردة عن فرار أكثر من ألف جندي أفغاني، ليل الأحد ــ الإثنين، إلى طاجيكستان، تعكس حجم المأزق الذي تواجهه الحكومة، خصوصاً مع تزايد المؤشرات بشأن صعوبة صمود الجيش الأفغاني في الفترة المقبلة، أخذاً بعين الاعتبار المشاكل التي يواجهها، بما في ذلك ضعف التنسيق في ما بين وحداته، وتضخم عديده على الورق حصراً والفساد الذي يطاول أفرعه كافة، وهو ما يطرح تساؤلات حول من سيتصدر مواجهة تغول “طالبان” في الفترة المقبلة، وإن كانت العديد من المؤشرات تدل على عودة دور القبائل من دون أن يحظى هذا الخيار بإجماع أفغاني.
وبقدر ما تبدو الحكومة الأفغانية عاجزة عن إدارة المشهد الميداني، أو التحكم ولو جزئياً به، فإن الارتباك هو سيّد الموقف أيضاً بالنسبة لواشنطن، التي ما زالت تدرس خياراتها لما بعد الانسحاب، بما في ذلك وضع خطط خاصة لإخلاء طارئ للسفارة في كابول، ودرس مسألة شن غارات من طائرات بدون طيار، خصوصاً بعد ما تبين عقب 20 عاماً من الاحتلال حجم فشلها، قبل أن تختار إنهاء أطول حروبها على هذا النحو المتخبط والذي يضع أفغانستان أمام خيارات جميعها كارثية. وجاء القرار الأميركي بالانسحاب بعد التيقن من أن بقاء القوات الأميركية لم يعد يمثّل حلاً، مع عدم تحقيقها أي نتائج على مدى عقدين، لكن رحيلها على هذا النحو يؤذن بمرحلة جديدة من العنف، خصوصاً مع تهديدات “طالبان”. وكما هو واضح، فإن رحيل الولايات المتحدة، والتي باتت تتعالى أصوات في أفغانستان تتهمها بـ”الخيانة” على وقع انتقادات داخلية أيضاً لأخذها هذا القرار، سيطلق يد “طالبان” للسيطرة على كل ما يمكن أن تصل إليه، بما يعزز الحرب الأهلية المستعرة أساساً.

تحليلات
الانسحاب الأميركي من أفغانستان: نهاية حرب وبداية مأزق
ومع تقدم حركة “طالبان” في اليومين الأخيرين إلى أقاليم عدة في شمال البلاد، وتحديداً في ولاية بادخشان، على وقع فرار مجندين من الجيش الأفغاني نحو طاجيكستان، أعلن مستشار الرئيس الأفغاني أشرف غني للأمن القومي حمد الله محب أن القوات الحكومية الأفغانية تخطط لشن هجوم مضاد في المناطق الشمالية التي سيطرت عليها الحركة، واصفاً الوضع هناك بـ”الخطير”. وقال محب في تصريحات لوكالات أنباء روسية: “قررت طالبان استغلال الفراغ الناجم عن انسحاب القوات الأميركية والأجنبية وبدأت الهجوم من دون إنذار. لقد فوجئت قوات الأمن الأفغانية، لأننا انتظرنا السلام وليس الحرب”. ورأى مستشار الرئيس الأفغاني أن “المشكلة مع هذه الجماعات أنها تتكون من مليشيات، وهذا وحده يمكن أن يؤدي إلى حرب أهلية. لذلك نأمل أن تعود طالبان إلى طاولة المفاوضات”. وحذر محب “طالبان” من عواقب “وخيمة” إذا استمرت في الاعتقاد بأنها تستطيع فرض سيطرتها بالقوة على مناطق البلاد. واعتبر أن انسحاب القوات الأميركية والتحالف الدولي من أفغانستان يمثل خطراً على المنطقة بأسرها.

أكثر من ألف جندي فروا إلى طاجيكستان بعد معارك مع طالبان

وأعلنت وزارة الدفاع الأفغانية في بيان، أمس الإثنين، أن قوات الأمن الأفغانية تمكنت من التصدي لزحف “طالبان” نحو مدينة فيض أباد، مركز إقليم بدخشان، شمال أفغانستان. وأضافت الوزارة أن “قوات الجيش طهرت جميع ضواحي مدينة فيض أباد من وجود طالبان”. بدوره، قال مصدر في “طالبان”، لـ”العربي الجديد”، مفضلاً عدم الكشف عن هويته، إن “سلاح الجو الأفغاني قصف مواقع المسلحين في ضواحي مدينة فيض أباد في وقت متأخر من ليل الأحد الإثنين، ما عرقل عملية تقدم الحركة باتجاه المدينة”.
وكان قد فرّ أكثر من ألف جندي أفغاني إلى طاجيكستان، ليل الأحد ــ الإثنين، بعد معارك مع حركة “طالبان”، وفق ما أعلنت لجنة الأمن القومي في البلد الواقع في آسيا الوسطى. وأعلنت أجهزة الأمن في طاجيكستان، في بيان نقلته وكالة الأنباء الرسمية “خوفار”، أن “1037 جندياً من القوات الحكومية الأفغانية فروا إلى أراضي طاجيكستان للنجاة بحياتهم بعد مواجهات مسلحة مع طالبان”. وتابع البيان أن “مقاتلي طالبان سيطروا بشكل تام” على ستة أقاليم في ولاية بادخشان بشمال شرق أفغانستان، تمثل 910 كيلومترات من الحدود المشتركة مع طاجيكستان.

أفغان على دراجة نارية في أفغانستان (وكيل كوهسار/ فرانس برس)
قضايا وناس
أفغان قلقون من الغد: “موسم الهجرة” خوفاً من الحرب
وأعادت حادثة الفرار إحياء النقاشات بشأن حدود الدور الذي يمكن أن يؤديه الجيش الأفغاني وباقي الأجهزة الأمنية خلال الفترة المقبلة في مواجهة “طالبان”. وتتجه الأنظار إلى القبائل، خصوصاً أن تصريحات رسمية سابقة عكست حجم التعويل عليها في الفترة المقبلة. وتتحدث تقارير أجنبية وأميركية عدة عن ضعف القيادة العسكرية في أفغانستان، وحتى ضعف التنسيق بين كبار المسؤولين العسكريين الأفغان، وهو ما دفع مثلاً ببعض القادة الميدانيين، الذين هم في أمس الحاجة للإمدادات والغذاء، إلى طلب المساعدة في وقت سابق، عبر مواقع التواصل الاجتماعي بدل القنوات الرسمية المعتمدة، بحسب تقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية في 20 يونيو/ حزيران الماضي. كما أن الحديث يتزايد عن استسلام قوات الجيش أمام “طالبان” وتسليمها المناطق بلا مقاومة. وأمام هذا الضعف، تبدو الحاجة منطقية لدعم الجيش من خارجه، والذي وجدته الحكومة في القبائل.
وكان وزير الدفاع الأفغاني، الجنرال بسم الله محمدي، قد دعا القبائل إلى التحرك ضد “طالبان”، قائلاً، في تصريح له، إن الحكومة الأفغانية مصممة على مساعدة ودعم القبائل من ناحية العتاد والسلاح لتقف إلى جانب الجيش الأفغاني ضد مسلحي طالبان. فيما أكدت وزارة الدفاع الأفغانية، في بيان لها قبل فترة، أنها وزعت السلاح على المسلحين القبليين لمقاومة “طالبان”. مع العلم أن هذه الخطوة أثارت انقساماً سياسياً بين مؤيد لها بوصفها الخيار الوحيد المتاح في ظلّ ضعف الجيش، وبين معارض لها خوفاً من انفلات الوضع وتفريخ كيانات مسلحة جديدة قد تفضي بالبلاد إلى حرب أهلية واسعة النطاق.

جددت “طالبان” التأكيد على أنها لن تقبل بوجود أي قوة عسكرية في أفغانستان بعد 11 سبتمبر

وتضاعف “طالبان” هجماتها منذ بدء الانسحاب الأميركي في مطلع مايو/ أيار الماضي. ومن المتوقع أن تستكمل القوات الأميركية المتبقية انسحابها بحلول الموعد النهائي في 11 سبتمبر. لكن على ضوء النكسات المتتالية للجيش الأفغاني، ولا سيما في الولايات الشمالية، أعلن البنتاغون عن احتمال “إبطاء” العمليات، ولم يستبعد القائد الأعلى للقوات الأميركية في أفغانستان الجنرال سكوت ميلر، الثلاثاء الماضي، شن ضربات جوية ضد طالبان.
لكن الحركة جددت، أمس الإثنين، التأكيد على أنها لن تقبل بأي حال من الأحوال وجود أي قوة عسكرية في أفغانستان بعد 11 سبتمبر، مشيرة إلى أن وجود البعثات الدبلوماسية والمؤسسات غير الحكومية أمر لا بد منه، لكن بهذه الذريعة وجود أي قوة عسكرية غير مقبول. ويأتي ذلك وسط تقارير عن احتمال بقاء ألف جندي، معظمهم من الولايات المتحدة، لحماية البعثات الدبلوماسية ومطار كابول الدولي، خصوصاً في حال لم تنجح المفاوضات بين واشنطن وأنقرة حول تسلم قوات تركية أمن المطار. وقال القيادي في “طالبان”، عضو هيئة التفاوض مع الحكومة الأفغانية سهيل شاهين، في حوار مع “بي بي سي” البشتونية، إنّ حركة طالبان تريد تطبيق توافق الدوحة مع أميركا، والذي ينص على خروج جميع القوات الأجنبية من أفغانستان. وأكد شاهين أن حركة طالبان ستعلن قراراتها في حال بقاء القوات الأجنبية في أفغانستان، وحينها لا تكون مسؤولية أي نتائج عكسية على عاتقها.
ويتزايد القلق بشأن مستقبل كابول في الوقت الذي تستعد فيه القوات الأفغانية لتولي مسؤولية الأمن في البلاد منفردة. وقال شاهين إن الاستيلاء على كابول عسكرياً “ليس سياسة طالبان”. لكنه أضاف أنه لا ينبغي أن تبقى القوات الأجنبية، بما في ذلك المتعاقدون العسكريون، في المدينة بعد اكتمال الانسحاب.

تواصل الولايات المتحدة درس خياراتها لما بعد الانسحاب

في هذه الأثناء، تواصل الولايات المتحدة درس خياراتها لما بعد الانسحاب، على وقع تعاظم الأصوات المحذرة من الانسحاب السريع. وفي السياق، قال المسؤول العسكري الأميركي الذي يشرف على انسحاب القوات من أفغانستان، الجنرال أوستن سكوت ميلر، إنه يجب أن يكون هناك قلق حول تقدم “طالبان” على الأرض، وفقاً لشبكة “سي أن أن”. وأعرب ميلر عن قلقه بشأن الوضع الأمني في أفغانستان وأثار احتمال اندلاع حرب أهلية بمجرد رحيل القوات الأميركية. وأفادت شبكة “سي أن أن”، نقلاً عن مصادر مطلعة، بأن المسؤولين الأميركيين يحدثون خططاً لإجلاء طارئ للسفارة الأميركية في كابول، إذا تطلب الأمر ذلك، مع تزايد التهديدات الأمنية.
في غضون ذلك، لا تزال إدارة بايدن تدرس مسألة شن ضربات عبر طائرات بدون طيار ضد مواقع إرهابية مفترضة في أفغانستان. وقالت “سي أن أن” إنه مع اقتراب اكتمال انسحاب أميركا من أفغانستان، لم تنته إدارة بادين بعد من تحديد سياستها لملاحقة المسلحين في أفغانستان بمجرد مغادرة القوات الأميركية. وفي حين أن الجيش الأميركي قد يحتفظ بسلطة تنفيذ ضربات ضد “طالبان” لدعم القوات الأفغانية، كما ذكرت شبكة “سي أن أن” يوم الجمعة الماضي، فإن “هذه السلطة لا تمتد بالضرورة إلى عمليات مكافحة الإرهاب في البلاد ضد أولئك المشتبه في قيامهم بالتخطيط لهجمات ضد الولايات المتحدة، أو الحلفاء”. ولسنوات، كانت لدى وكالة المخابرات المركزية والجيش الأميركي سلطة واسعة لضرب المسلحين المشتبه بهم في أفغانستان، من دون الحاجة إلى موافقة البيت الأبيض. ولكن بينما يستعد بايدن لإنهاء الحرب، يدرس مجلس الأمن القومي التابع له، ما إذا كان سيسمح لوكالة المخابرات المركزية والبنتاغون بتنفيذ ضربات قاتلة بطائرات بدون طيار بعد رحيل القوات الأميركية، وفقاً لأشخاص مطلعين تحدثوا لـ”سي أن أن”.
وكان بايدن قد فرض قيوداً على شن هجمات بطائرات بدون طيار ضد مجموعات متطرفة خارج نطاق ميادين الحروب التي تشارك فيها الولايات المتحدة رسمياً، وهي أفغانستان وسورية والعراق. واليوم، بعد إنهاء الحرب في أفغانستان، تصبح الأخيرة خارج الميادين التي يمكن للطائرات الأميركية بدون طيار استهداف إرهابيين مفترضين فيها.

العربي الجديد