روسيا و«الثورة التركية» البحرية

روسيا و«الثورة التركية» البحرية

ثلاثة مشاريع هندسية هيدروليكية ناجحة معروفة في التاريخ، غيرت بشكل جذري الوضع في مجال اتصالات النقل البحري الدولي. هي قناة السويس التي افتتحت عام 1869 في الشرق الأوسط ويبلغ طولها 160 كلم؛ وقناة بنما بطول 81.6 كلم التي افتتحت في عام 1920. وتربط بين خليج بنما والمحيط الهادي من جهة، والبحر الكاريبي والمحيط الأطلسي من الجهة الأخرى، وقناة كيل في ألمانيا بطول 98 كلم، التي تم افتتاحها ووضعها قيد الاستخدام عام 1895 وتربط بحر البلطيق ببحر الشمال. في روسيا، خلال الحقبة السوفياتية، تم بناء وفتح العديد من القنوات، بيد أن جميعها كانت داخلية. إحداها هي قناة بيلومور أو البحر الأبيض – بحر البلطيق، التي شيدت بوقت قياسي بين عامي 1931 و1933 لأغراض عسكرية وللأسف بأيدي السجناء (لروحهم السلام). ربطت القناة البحر الأبيض ببحيرة أونيغا ووفرت الوصول عبرها إلى بحر البلطيق. رسم مسارها القيصر الروسي بطرس الأول في القرن الثامن عشر. من ثم دمرت خلال الحرب مع ألمانيا النازية، وأعيد ترميمها وتحديثها لاحقاً. في عام 1964 تم تشغيل الممر المائي فولغا – البلطيق المكون من نظام كامل من القنوات والخزانات والأنهار والبحيرات ويصل أحواض بحر قزوين ببحر البلطيق، إذ يبلغ طوله الإجمالي 1100 كم. وتم خلال فترة قصيرة أيضاً بناء قناة موسكو التي تربط نهر الفولغا بنهر موسكو في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي، ومرة أخرى بفضل مشاركة السجناء بشكل أساسي حيث بلغ طولها 128 كلم.
بالطبع هذه القنوات كانت ذات أهمية محلية، لا تقارن مع قنوات السويس وبنما وكيل، والتي من دونها لكانت ستواجه التجارة العالمية ونظام الاتصالات البحرية أزمة عميقة تصيب اقتصادات جميع الدول. وقد تجلى ذلك في حادثة سفينة نقل الحاويات «إيفرغيفين»، التي علقت في قناة السويس وأدت إلى وقف الملاحة فيها في 21 مارس (آذار) من العام الحالي مما تسبب في أزمة عالمية لنقل الشحنات امتدت لعدة أيام. وبات معروفاً مدى حجم الجهود الجبارة التي بذلت لتعويم هذه السفينة الضخمة.
حان الوقت الآن لبناء قناة إسطنبول التي يرى مبتكروها ثورة كاملة في مجال الشحن البحري الدولي. والتي سيتم شقها بموازاة مضيق البوسفور، حيث تم في تركيا الإعلان عن البدء في بنائها مؤخراً في ظل ضجة كبيرة (بالمناسبة، في هذا الصدد، يمكننا استذكار إطلاق الفرع الثاني لقناة السويس في يوليو (تموز) 2015).
كان من المخطط أن يتم الانتهاء من بناء قناة إسطنبول في عام 2023. عندما ستحتفل تركيا بالذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية. ولكن، على ما يبدو، سيتم تأجيل افتتاحها إلى موعد لاحق بسبب صعوبات في التمويل. حتى ذلك الحين، كما في السابق، سيربط شريان واحد فقط البحر الأسود بالبحر المتوسط ومن خلاله بالمحيط العالمي. من المعروف أن استخدام مضيق البوسفور والدردنيل تنظمه اتفاقية مونترو الموقعة في عام 1936. ووفقاً للمادة 28، فإنها توفر لجميع الدول إلى الأبد حرية مرور السفن عبر المضائق التي تسيطر عليها تركيا. وفقط في حالة وجود تهديد عسكري لتركيا بموجب المواد 20 – 21. فإن مرور السفن العسكرية لأي دولة يعتمد على إرادة وقرار الحكومة التركية.
السيطرة التركية ليست غير مشروطة. ففي حال اعتبرت غالبية الدول الأطراف في الاتفاقية أن إجراءات تركيا لتطبيق المواد 20 – 21 غير مبررة، يحق لها مطالبة تركيا بالعودة إلى المادة 28. وفي الوقت نفسه، هناك عدد من التناقضات في الاتفاقية. رغم أنه يمكن لتركيا الاستفادة من هذا الظرف، فإن تنفيذ خطة رجب طيب إردوغان الطموحة قد يواجه نظرياً عقبات قانونية. إذ إن تحويل النقل من مضيق طبيعي إلى قناة صناعية يعتبر تغييراً في اتفاقية مونترو، وهو ما لا تملك حكومة إردوغان حق احتكاره. لكن هناك عقبة: حيث إن تنظيم المرور عبر قناة «إسطنبول» سيتم من خلال اللوائح الوطنية لجمهورية تركيا، وليس من خلال اتفاقية مونترو. إذن كيف سيتم في هذه الحالة تجنب تضارب المصالح المحتمل؟
هل هذا يعني أن الكرملين قرر عدم وضع أي عقبات أمام الشريك التركي المهم بالنسبة لروسيا في تنفيذ خططه؟ لقد أعرب في هذا الشأن عدد من الخبراء الروس عن ملاحظات انتقادية أشاروا فيها على وجه الخصوص إلى خطر تلاشي الصفة الدولية لاتفاقية مونترو وإلى وجود حالة مبهمة بشأن الوضع القانوني لقناة «إسطنبول».
عدد من الملاحظات، ليس فقط من قبل الروس، ولكن أيضاً من قبل المحللين الأتراك، بما في ذلك المدنيون والعسكريون منهم، ممن تتوافق آراؤهم في الغالب مع آراء المحللين الروس، تطرقت إلى العواقب البيئية لبناء القناة. إن معارضة دعاة حماية البيئة، وفقاً للخبير الروسي من معهد الدراسات الشرقية أندريه بولديريف، هي التي أبطأت تنفيذ المشروع. ومع ذلك، فإن السلطات التركية واثقة بأن مسار عبور البضائع الجديد قد تم تصميمه مع مراعاة جميع المخاطر البيئية المحتملة.
طرحت مجموعة أخرى من المحللين عدداً من الأسئلة حول الجانب الفني للمشروع ومبرراته المالية والاقتصادية. هناك طيف واسع من الآراء. لكن من الواضح أن تركيا ومن أجل التغلب على الصعوبات تحتاج إلى إجراءات حاسمة للسيطرة على التضخم والعجز المتزايد في الميزانية وانخفاض قيمة الليرة. في الوقت نفسه، تأمل السلطات التركية أنه بمجرد أن يصبح مرور السفن ومرافقة مرور البضائع عبر القناة، وفقاً لما يخطط له، مدفوع الأجر فإن عائدات العبور ستدر على تركيا دخلاً كبيراً يعوض جميع تكاليف بناء القناة.
لماذا لا تزال روسيا تتفاعل بشكل إيجابي مع خطط إردوغان؟ فمن الواضح أنها ستخسر بسبب فرض رسوم العبور نتيجة لتحويل نقل البضائع إلى القناة: إذ إن معظم ناقلات النفط التي تزود الغرب بالنفط الروسي تمر الآن عبر المضيق. من المحتمل أن الآمال في أن يكون لروسيا دور المستثمر المشارك في تنفيذ المشروع لعبت دوراً هنا في هذا التفاعل، وهو أمر منطقي إذا كان كذلك. لكن إذا لجأنا مرة أخرى إلى رأي الخبير الروسي، فإن هذا الاحتمال غير مقبول بالنسبة لتركيا، لأنه في هذه الحالة سيكون لدى موسكو حق المشاركة في تنظيم تدفق البضائع عبر قناة «إسطنبول». لهذا السبب، تبحث السلطات التركية عن مستثمرين في كل مكان – في الصين وقطر وأوروبا وغيرها، لكن ليس في روسيا. وليس من قبيل المصادفة أن بعض المحللين الروس، على سبيل المثال، الخبير في الدراسات التركية إيفان ستارودوبتسيف، يحثون موسكو على اتخاذ موقف حازم فيما يتعلق بالمشروع التركي، أي: إما بالإعلان عن الرفض المطلق لبناء القناة، أو بمطالبة أنقرة الموافقة على مشاركة مباشرة لروسيا في المشروع، الأمر الذي سيسمح لها «بأن تصبح إحدى الدول التي تدير حركة الملاحة بشكل مباشر في أهم شريان في البحر الأسود».
يعود هنا إلى الذاكرة حلم روسيا القديم في السيطرة على المضيق. لكن الوضع اليوم ليس كما كان قبل الحرب العالمية الأولى، وتركيا مرة أخرى تعول، من خلال تنفيذ مشروعها الطموح الجديد، على تأكيد حقها بأن تصبح إحدى القوى الرائدة في إطار يتخطى حدود منطقة الشرق الأوسط. روسيا تأخذ في الحسبان الحقائق الدولية القائمة اليوم وتريد على أي حال الحفاظ على علاقات جيدة مع تركيا والسعي لتطويرها.
على ما يبدو، أن موسكو بعد تقييمها لجميع الإيجابيات والسلبيات، ستكون مضطرة للقبول بحتمية إنجاز الخطط التركية، رغم أن الخسائر الناجمة عن ظهور بديل لمضيق البوسفور، وفقاً لمعظم الخبراء، ستفوق الأرباح التي هي بدورها ليست قليلة أيضاً. أود أن أشير هنا إلى ظرف آخر لا يمكن تجاهله، حيث تخطط تركيا لإدراج مشروعها في المبادرة الصينية «حزام واحد طريق واحد»، لكنها ليست بحاجة إلى الاصطدام أيضاً بمصالح الشريك الاستراتيجي الأهم بالنسبة لروسيا، إلا في حال تخلت الصين عن موقفها الرافض للمشروع. لكن موقف وزارة الخارجية الروسية، على أي حال، يبقى ثابتاً للغاية ويكمن في أن: أولوية مطلقة هي للمعاهدات واللوائح الدولية الحالية.

فيتالي نعومكين

الشرق الأوسط