جعل كتّاب سوريون من حصار “درعا البلد” وانقلاب الروس على تسوية تخول سكانها الاحتفاظ بالسلاح، حدثا يفتح الاحتمالات لعودة المدينة السورية التي انطلقت منها شرارة الحراك المعارض، إلى البدايات، أي الاحتجاجات الأولى التي سبقت التسليح والحرب الأهلية والتدخلات الإقليمية. واستدل هؤلاء في كتاباتهم على محطات اعتراضية مرّت بها المدينة، رغم ما قاسته من قمع واقتحامات، فتجمع عدد من مواطنيها بالتزامن مع “الانتخابات الرئاسية”، لتظهير موقف معارض، ندر حدوثه، باستثناء إدلب.
أصحاب هذا الطرح لا يغفلون فقط، عن أن ما يحصل في درعا أو حصل، هو جزئي يتعلق بقسم من المدينة، وانعكاس لسياسة قضم روسية تعمل على مراحل، لكنهم يجعلون، هذا الجزئي كُلاً، ويحيلونه إلى زمن الانتفاضة الأول، عبر نكران التحولات التي مرّت منذ 2011 ليس في درعا فقط، وإنما في سوريا كلها. ودرعا انطلاقا من التحولات تلك، لم تعد جزءاً من مشهد عام يتعلق بالانتفاضة، بل هي ملف بأيدي الروس، تماما كما أن إدلب ملف في إيدي النصرة والروس والأتراك. تحوّل المدن المنتفضة من بشر يتظاهرون رفضا للظلم، إلى ملفات بأيدي الدول الفاعلة في المسألة السورية، واحد من نتائج هزيمة الانتفاضة، التي لا يكتفي البعض بعدم الاعتراف بها، بل يعمد، في كل حدث أو تحوّل، إلى ضخ راهن الهزيمة بأحداث من ذاكرة الانتفاضة، جاعلا أي تظاهرة جزئية، أو اعتراض أهلي تجديداً لـ2011.
الوعي الكلي المترفع عن المكاسب الصغيرة، وعن الخصوصيات المحلية، نتيجته الطبيعية، الانتصار الكامل أو الهزيمة الكاملة
يحصل ذلك، بدون الاستفادة، من تجارب سابقة، فقبل أشهر خرجت تظاهرات في مدينة السويداء، احتجاجاً على الوضع الاقتصادي المتردي، ما دفع معارضين إلى وضعها في سياق استئناف البدايات، بدون الانتباه إلى التركيبة الطائفية للمدينة، وعلاقتها مع محيطها، خصوصاً بعد سنوات على حرب أهلية، وسعت الفجوات بين الجماعات في سوريا. وبعد أن خمدت احتجاجات السويداء، التي غالبا ما تتعامل معها السلطة بالترغيب والترهيب، لم تجر أي مراجعة أو تدقيق، برواية المعارضة، حول ما حصل في المدينة، عبر وضع الاحتجاجات في إطار موضوعي، يتعلق بتحسين ظروف سكانها، وليس اعتراضا سياسيا، لا يملك حاملا موضوعياً، بحكم تركيبة المدينة وهواجس أهلها. بالنتيجة، فإن رد أي تظاهرة أو اعتراض، لبدايات الانتفاضة، ليس فقط انفصالا عن تحولات هائلة حصلت منذ 2011، بل كذلك فصل الحدث عن خصوصيته التي تتعلق بتركيبة وحسابات، من يقوم به. وهذا استمرار لتقليد معارض خلق حالة استواء بين السوريين، تتجاهل خصوصياتهم، وأسباب نقمة كل منهم على السلطة، حتى بالمعنى المناطقي، بحيث تحوّلت الانتفاضة إلى وعاء زائف يسع الجميع، بمعزل عن شقاق المجتمع وفجواته. وفي كل مرة يتم فيه ربط الأحداث بالبدايات، يجري تضييع فرصة جديد لبناء وعي يلحظ التحولات، ويبني عليها بدون أوهام وبحث عن انتصارات تعويضية، والأرجح أن الفرص المفّوتة، هي التي جعلت قسماً من أهل درعا عرضة من جديد للحصار، ذاك أن الوعي الكلي المترفع عن المكاسب الصغيرة، وعن الخصوصيات المحلية، نتيجته الطبيعية، الانتصار الكامل أو الهزيمة الكاملة، والأخيرة هي الأقرب إلى أوضاعنا في سوريا.
إيلي عبدو
القدس العربي