من معبر باب الهوى في إدلب على الحدود مع تركيا إلى معبر “الجمرك القديم” على حدود الأردن، تخوض روسيا حراكاً تهويلياً، تستخدم فيه كل أوراقها، العسكرية والدبلوماسية، في ما يبدو أنه محاولةٌ روسيةٌ لإنضاج معطياتٍ جديدةٍ بهدف إعادة صياغة المشهد السوري.
لا تتجاوز مساحة درعا البلد أكثر من ثلاثة كيلومترات مربعة، ويقطنها حوالي 55 ألف نسمة، الجزء الأكبر منهم أطفال ونساء بعد تهجير الشباب والرجال وقتلهم وسجنهم. وفوق هذه المساحة تصول طائرات السوخوي الروسية، في مشهدٍ يبدو غريباً وغير متناسق، وخصوصا أن الذريعة تسليم مائتي بارودة يمتلكها الأهالي، للدفاع عن أنفسهم في ظل فوضى جمهورية الأسد.
وتحضر روسيا إلى شمال سورية أحدث طائراتها، من قاذفات القنابل النووية، والصواريخ الفرط صوتية، في استعراض، يقول الاستراتيجيون إن المقصود منه إرهاب أوروبا وتخويفها، للرد على حشود حلف شمال الأطلسي (الناتو) عند حدود أوكرانيا. لكن الواضح أن هذا الاستعراض مقصود منه إرهاب تركيا بالدرجة الأولى، لأنها تمسك بمفاتيح الحل في سورية التي تعتبرها روسيا جوهرة مناطق نفوذها في العالم.
وبعكس ما يشاع، ضمن تحليلات بعض صحافة الغرب، تأتي هذه التطورات على خلفية تقدير روسيا بوجود تحرّكات لإدارة الرئيس الأميركي، بايدن، لمحاصرتها في سورية، وذلك نتيجة الاستقطاب الحاد في مجلس الأمن، والذي انتهى مبكراً، قبل إجراء التصويت على قرار تمديد العمل بإيصال المساعدات الدولية عبر المعابر، نتيجة خسارة روسيا أخلاقياً أمام مجتمعٍ دولي، يبدو أنه بدأ يشعر بالعار نتيجة تركه سورية تحت رحمة مافيا روسية مشهود لها بالإجرام.
يأتي التحرّك الروسي وفق خطة ممنهجة أرادت روسيا من خلالها تحديث موقعها وموقفها في الملف السوري، وقد بدأتها بإعادة انتخاب بشار الأسد، في ما بدا أنه إغلاق لطرق الحلول الدولية ومساراتها، والتوجه نحو صوغ واقع جديد في سورية، يكون من صناعة روسية خالصة.
يريد جنرلات روسيا القول لتركيا: ما زلنا أسياد المشهد السوري، ونحن من يحدّد قواعد اللعبة وشروطها
ويأتي هذا التحرّك إثر فشل محاولاتها المستميتة في إعادة تأهيل نظام الأسد، وخصوصا ضمن الدائرة العربية التي كانت تعوّل عليها لكسر الحصار الدولي، ودفع الآخرين إلى التسابق لإعادة العلاقات مع الأسد، طمعاً بما تتيحه عملية إعادة الإعمار من فرص للربح المالي، لاقتصادياتٍ دوليةٍ منهكة بعد العطالة الكورونية، وتبحث عن فرص لتعويض خسائرها المتراكمة.
لكن التحرّك الروسي الجديد، والذي تتركّز مشهديته في سماء درعا البلد، وعند سفح جبل الزاوية في إدلب، بالإضافة إلى ساحة مجلس الأمن الذي يتحضّر لإعادة التصويت على المعابر، ينطوي على جملة رسائل تريد إيصالها إلى فاعلين آخرين، ووسط دولي، تعتقد روسيا أنهم باتوا يستهترون بقوّتها وبتهديداتها.
الرسالة الأولى، أنها ليست مستنزفةً في البادية، بفعل ضربات “داعش”، وتحاول إيهام اللاعبين الآخرين بأن لديها فائض قوّة تبحث عن تصريفه في ساحاتٍ أخرى، من درعا البلد إلى جبل الزاوية. وبالتالي، لا يراهن أحدٌ على أن روسيا وقعت في فخ الاستنزاف.
الرسالة الثانية إلى تركيا التي يسعى عسكر روسيا إفهامها أنهم لم يهزموا أمام تقنية طائراتها المسيّرة، وأن لدى روسيا بدائل لمواجهة هذه الثغرة التقنية، فماذا يمكن للطائرات المسيّرة التي سحقت مئات الدبابات في إدلب وناغورنو كاراباخ، ودمّرت منصّات الصواريخ الروسية في طرابلس بليبيا، أن تفعل أمام قاذفات ميغ 31 والصواريخ الأسرع من الصوت، يريد جنرلات روسيا القول لتركيا “إننا ما زلنا أسياد المشهد السوري، ونحن من يحدّد قواعد اللعبة وشروطها”.
الرسالة الثالثة إلى الأردن الذي شارك بريطانيا في مناورة إنزال كبرى بالقرب من الحدود السورية، في ظل توتر في العلاقات البريطانية – الروسية، تريد روسيا القول للأردن إنها قادرة على خلط الأوراق في خاصرتها الشمالية، عبر السماح للمليشيات الإيرانية بإعادة التموضع عند حدودها، وعلى بعد كيلومترات معدودة من حواضرها.
مشكلة روسيا المزمنة لاأخلاقية سياساتها التي تشكّل دائماً محرّضاً ومحفزاً لدى المتضرّرين منها إلى البحث عن وسائل لمواجهة هذه السياسات
الرسالة الأعم والأهم التي تريد روسيا إيصالها إلى من يهمّه الأمر أنها لم تعد مستعدّة لانتظار اعتراف الآخرين بانتصارها في سورية، وعليهم التعامل بواقعيةٍ مع هذا الأمر، وما يترتب عليه من الاعتراف بشرعية نظام الأسد، ورفع الحصار عنه والسماح للشركات والهيئات الاقتصادية، العربية والدولية، بالنزول إلى ساحة العمل في سورية، بما يمنح روسيا الفرصة لاستعادة ما أنفقته. وفي سبيل ذلك، ستعمل روسيا على تغيير المعطيات، في الجنوب والشمال، بقدر يسمح لها بالاستثمار في هذا التغيير للخروج من مأزق الجمود الحالي الذي يلفّ المشهد السوري.
ما يغيب عن ذهن الكرملين، أو ربما يحاول إغفاله بشكل مقصود، أن المشهد السوري الحالي هو نتاج توافقات إقليمية ودولية ساهمت في تركيبه، وسمحت لروسيا بتحقيق ما تسميه حالياً انتصارات في سورية، وهي توافقات الحد الأقصى، وأي محاولةٍ لتجاوز هذه التوافقات سيدفع الأطراف الأخرى إلى تفعيل استراتيجيات بديلة، ربما تكون عاقبتها إغراق روسيا بالفعل في مستنقع سوري مديد.
مشكلة روسيا المزمنة لاأخلاقية سياساتها التي تشكّل دائماً محرّضاً ومحفزاً لدى المتضرّرين منها إلى البحث عن وسائل لمواجهة هذه السياسات، الأمر الذي يرفع تكاليف هذه السياسات إلى الدرجة التي تنوء روسيا تحت أعبائها الباهظة التي سبق أن أدّت إلى تفكك الاتحاد السوفييتي، القوّة العسكرية الثانية في العالم.
غازي حمدان
العربي الجديد