بانسحاب القوات الأمريكية في نهاية أغسطس 2021، ليتزامن مع الذكرى العشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر2001 تأخذ الولايات المتحدة مكانها في الخانة الثالثة للدول العظمى، التي تنهزم أمام إرادة فقراء أفغانستان. مرغ هذا الشعب العنيد أنف بريطانيا في الوحل بعد ثلاث سنوات من الحرب أولا، ثم جدع أنف الإمبراطورية السوفييتية سابقـا، بعد عشر سنوات من الحرب الشاملة، لكن الولايات المتحدة لم تتعظ ممن سبقوها، فتورطت في هذه البلاد 20 سنة، وها هي تنكسر أمام إرادة الشعب العنيد، وتخرج مكسورة تلعق جراحها، وتجرجر خيبتها، وتمرّ من الطريق نفسه: احتلال فتورط فبحث عن مخرج يحفظ ماء الوجه فهزيمة.
ولن أنسى بعد وصولي كابل بأيام، مع أول بعثة أممية ما قالته لي مسعودة جلال، التي رشحت نفسها للرئاسة ضد حميد كرزاي، وكانت تعمل مع برنامج الأغذية العالمي، عندما سألتها لماذا تحتفظ في مكتبها بالشادور والبرقع، وتلبسهما عند المغادرة فقالت كي لا يؤخذ عليّ أنني مناصرة للأمريكيين، فمن يدري ماذا تخبئ الأيام لأفغانستان، فقد يتخلى الأمريكيون عنا بعد سقوط طالبان، كما فعل السوفييت عام 1989، ولا أريد أن أكسر الجسور مع طالبان، فقد يعودون مرة أخرى لحكم البلاد.
هزيمة بريطانيا أولا
في نهاية عام 1838 أرسلت بريطانيا قوات بريطانية وهندية إلى أفغانستان تقدر بعشرين ألف جندي، لتأمين مصالحها، بعد أن استشعرت بالخطر الروسي وتغير موقف الحاكم دوست محمد، الذي كان يعتبر حليفا لبريطانيا. احتلت القوات البريطانية كابل في مارس 1839 ثم أسقطت دوست محمد وعينت مكانه شاه جوها، الذي لم يكن قادرا على تأمين حكمه، فطلب من البريطانيين البقاء في كابل. بدأت الانتفاضة ضد القوات البريطانية في نوفمبر 1841 ولم يكن البريطانيون مستعدين للمواجهة. اقتحمت الجماهير قلعة الحاكم البريطاني ألكسندر بيرن، الذي عرض أموالا على الجماهير الغاضبة، فرفضتها وحاصرته إلى أن استسلم وقتلته. توصلت بعدها بريطانيا إلى اتفاق مع أكبر خان ابن حاكم البلاد المعزول دوست محمد، لتأمين خروج القوات البريطانية، وعددها نحو 16 ألفا بسلام. بدأ الانسحاب في 5 يناير 1842، إلا أن حراس القلاع على الطريق البالغ طوله 48 كيلومترا بين كابل وغانداماك، لم يلتزموا بالاتفاق فهاجموا القوات البريطانية في معبر “خرد كابل” وقتلوهم جميعا ما عدا 44 شخصا، ثم عادوا وقتلوا 43 منهم وأبقوا على رجل واحد هو الدكتور وليم برايدن، ليروي للناس قصة الوجود البريطاني في تلك البلاد، الذي انتهى بكارثة للدولة الأعظم في ذلك الزمان.
هزيمة الاتحاد السوفييتي وتفكك الامبراطورية
لم يتعلم السوفييت الدرس الإنكليزي فدفعوا بقوة أولية مكونة من 100000 عسكري في 24 ديسمبر 1979 لحماية النظام الضعيف لحليفهم الشيوعي ببراك كرمال. لكنهم اكتشفوا أنهم تورطوا في حرب شاملة وأصيبوا بلعنة كره الأجنبي، التي وحدت الشعب الأفغاني ضدهم. انطلقت المقاومة تحت شعارات إسلامية في منتصف عام 1980 عندما تشكل تحالف دولي لدعم المجاهدين، وتشجيع المتطوعين من الدول الإسلامية للانضمام للجهاد، فكانت باكستان تستقبل وتدرب، والسعودية تمول، والولايات المتحدة تسلح وتنسق وتخطط. وصل عدد القوات السوفييتية والقوات المحلية نحو 300000 مقاتل عام 1986. وكانت الولايات المتحدة برئاسة دونالد ريغان مصممة على إلحاق الهزيمة بخصمها اللدود بأي ثمن، كرد اعتبار لهزيمتها في فيتنام، التي لعب فيها الاتحاد السوفييتي دورا رئيسيا. تحولت باكستان إلى بلد استقبال لكل المتطوعين من العالمين العربي والإسلامي، وصل عددهم إلى 100000، بقيادة عبد الله عزام وأسامة بن لادن، الذين هرعوا لأداء فريضة الجهاد. بعد عشر سنوات من القتال وجدت الامبراطورية السوفييتية نفسها عاجزة عن حسم المعركة، خاصة أن أوضاعها الاقتصادية بدأت تتهاوى بسبب تلك الحرب المكلفة، فقرر الرئيس ميخائيل غورباتشوف لملمة جراحه ولعق كرامته والانسحاب بذل من تلك البلاد، حيث تم سحب آخر جندي سوفييتي في 15 فبرايرعام 1989 لتبدأ بعد ذلك عملية انفراط عقد الامبراطورية الواسعة، تاركة وراءها خمس عشرة دولة مستقلة.
أطول الحروب الأمريكية
سيسجل التاريخ أن حرب الولايات المتحدة في أفغانستان، هي أطول وأكبر حالة فشل في حروب أمريكا كلها. فبعد عشرين سنة من الحرب يضطر الأمريكيون لأن يفاوضوا خصمهم، على الطريقة الفيتنامية نفسها، لتأمين الانسحاب الآمن. الدولة الأعظم في التاريخ تخرج مهزومة لتكتمل حلقات هزائم الدول الكبرى على أيدي هؤلاء الفقراء، الذين يأنفون حكم الغرباء لهم مهما كانت التكاليف. عشرون سنة واستنزاف القوات الغازية لم يتوقف، منذ سقط مايك سبان في 25 نوفمبر2001 أثناء تمرد المعتقلين في قلعة جانغي قرب مزار الشريف، ليكون أول أمريكي يقتل في الحرب الأمريكية الأفغانية التي بدأت يوم 7 أكتوبر2001. فقد سقطت أفغانستان لقوات التحالف في زمن قياسي، بدون أي مقاومة تذكر، وبدون خسائر. لقد لعب الطيران الدور الأساسي في تلك الحرب، ما شكل درعا منيعا جنّب القوات المهاجمة الاحتكاك المباشر مع عناصر حركة طالبان، التي تبعثرت واختفت بسرعة تحت وابل القصف الجوي. لقد ظن القادة العسكريون أن الأمور قد سويت تماما، وأن أفغانستان ستصبح مثلا يحتذى في العالم الإسلامي، إذ ستتحول من ملاذ لـ”القاعدة” وإمارة الملا عمر الإسلامية، إلى نموذج للديمقراطية والاستقرار.
الانتصار الأفغاني على ثلاث امبراطوريات درس للشعوب التي لا تفرط بحقوقها وتصمم على هزيمة الأعداء مهما كانت التكاليف
لا شك بأن الشعب الأفغاني، بشكل عام، لم يذرف في البداية دمعة واحدة على انهيار دولة الرعب التي أسستها طالبان، التي حولت البلاد إلى غنيمة لميليشياتها تسجن وتعدم في الميادين العامة، وتنتهك الأعراف والقوانين، وتغلق المدارس والمعاهد، خاصة تلك التي تستقبل النساء. لكن أخطاء القوات الغازية، خاصة استهداف المدنيين وبطريقة عنجهية، قلبت الشعب الأفغاني في معظمه ضد الوجود الأجنبي. لم تمض سنوات قليلة حتى تبدلت المواقع، وأصبح الناس يكفرون بالوجود الأجنبي، وقوات الناتو وحكومة كرزاي الفاسدة، وأصبحوا يؤيدون المقاومة حتى إن اختلفوا مع أيديولوجية طالبان المتزمتة. عادت فلول طالبان وتجمعت في منطقة القبائل الواقعة بين باكستان وأفغانستان، حيث وجدوا حاضنة شعبية تؤيدهم. ومع بداية التحول ضد الوجود الأجنبي، خاصة بعد تزايد سقوط المدنيين، بدأت حركة طالبان شن هجمات نوعية ضد وجود قوات حلف الناتو، مع نهايات عام 2003. كما أن فرض قيادات عميلة وضعيفة من الخارج مثل حميد كرزاي، وانتشار الفساد بشكل غير مسبوق، ضاعف من أعداد المتبرمين بالوضع في البلاد وانتقل بهم إلى صفوف المقاومة، أو التعاطف معها. وبحلول عام 2009 أصبح وضع قوات التحالف أقرب إلى الهزيمة منه إلى الانتصار. فبينما سقط 12 أمريكيا عام 2001، سقط 317 عام 2009 وسقط 496 عام 2010 وصولا إلى 9 قتلى عام 2020. الرئيس الأسبق أوباما حاول الانسحاب من مستنقع أفغانستان، لكن الجيش الأمريكي عارض هذا الانسحاب، ما اضطر أوباما أن يوسع من الوجود الأمريكي عام 2014 ليصل عدد القوات الأمريكية إلى 30 ألفا. إلا أن الرئيس السابق ترامب تجاهل كل التحذيرات العسكرية، وتوصل مع حركة طالبان في العاصمة القطرية يوم 29 فبراير 2020 إلى اتفاقية الانسحاب، رغم أن الحركة مازالت مصنفة كفصيل إرهابي. وها نحن نشهد تزامن الانسحاب الأمريكي مع توسع سيطرة طالبان على البلاد والحدود بسهولة. ونود أن نؤكد أن الحركة تعلمت كثيرا من الدروس في العشرين سنة الماضية، وهمها المقبل كيف تتم إعادة بناء البلاد بالتعاون مع الجيران والدول الصديقة، لطي صفحة الماضي، بما حمل من مآس واحتلالات وضحايا منذ عام 1971.
وعن ضحايا هذه الحرب فقد قتل، وحسب موقع جامعة براون الأمريكية، التي تتابع تفاصيل تلك الحرب، من المدنيين الأفغان 47245، وقتل 72 صحافيا و444 موظف مساعدات دولية. وحسب مصادر الحكومة الأفغانية فقد قتل بين 66000 و69000 من الجنود والقوات الأفغانية الرسمية، ووصل عدد اللاجئين الجدد 2.7 مليون أفغاني فروا إلى باكستان وإيران ودول أخرى كما شرّد 4 ملايين داخليا.
أما القوات الأمريكية فقد فقدت رسميا 2442 جنديا و20600 جريح. كما قتل 3800 من بين المتعاقدين من الشركات الأمنية التي تعمل مع الجيش الأمريكي. أما دول الناتو وبعض الدول المتعاونة، التي وصل عددها 40 دولة، فقد فقدت 1144 جنديا. التكاليف المالية لهذه الحرب بلغت 2.26 تريليون دولار. لقد صرفت الولايات المتحدة مليارات الدولارات في محاولة لبناء أو تحديث البنى التحتية، لكن ذلك انتهى إلى بعثرة واستغلال في جيوب الفاسدين. وللعلم فإن زراعة الخشخاش وتصدير الأفيون قد تضاعف أيام الوجود الأمريكي. وها هي ترحل الولايات المتحدة وتترك وراءها بلدا محطما و 50% من شعبه دون خط الفقر.
الانتصار الأفغاني على ثلاث امبراطوريات يقدم درسا مجانيا للشعوب التي لا تفرط بحقوقها وتصمم على هزيمة الأعداء مهما كانت التكاليف. لعل بعض القيادات في منطقتنا العربية تتعظ وترعوي وتتراجع عن طريق التنازلات والتفريط والمساومة.
عبدالحميد صيام
القدس العربي