وراءً في العام 2010، كانت “داعش” على مسار انحداري. ونشرت المجموعة الإرهابية حينذاك شيئاً يشبه كتيبات المؤسسات الفكرية، والذي دارت أفكاره حول كيفية حصول المجموعة على بلد يكون لها وحدها.
وعلى الرغم من النجاح الذي كان سيأتي، توقع المراقبون الشر لأبي بكر البغدادي عندما تولى قيادة “الدولة الإسلامية” في أيار (مايو) 2010. فقد قتلت القوات الأميركية سلفه بينما كان في بيته، مما يعني أن مجموعة “الدولة الإسلامية” كانت مخترقة من أعدائها. كما لاقى معظم قادة المجموعة مصائر مشابهة على أيدي الأميركيين. وفي ردة الفعل، انتقلت مجموعة “الدولة الإسلامية” إلى استراتيجية الإرهاب السري، حتى تتمكن من التعامل مع النكسات، لكنها ظلت تتوق مع ذلك إلى القتال في العلن مرة أخرى كمجموعة متمردة. وكانت الفكرة: لن تكون أي دولة إسلامية شيئاً إذا لم تكن لديها أراضيها الخاصة.
على مكتب الأمير الجديد، كانت هناك خطة لتحويل وجهة الأمور. وفي الفترة ما بين كانون الأول (ديسمبر) 2009 وكانون الثاني (يناير) 2010، عمم الجهاديون العراقيون ما يسمى “خطة استراتيجية لتعزيز الموقف السياسي لدولة العراق الإسلامية”. وتتخذ تلك الخطة المظهر وتولد الانطباع اللذين يميزان تقريراً لمؤسسة فكرية في واشنطن العاصمة، مع وجود تحليل وتوصيات لصانعي السياسات. وكانت المواد الشبيهة بنتاجات المراكز الفكرية وتقارير ما بعد العمل شائعة في الحركة الجهادية، لكن غير المعتاد كان رؤية الجهاديين وهم ينتقدون “الدولة الإسلامية” علناً. وكان ذلك النقد دليلاً على الدرك الذي انحدرت إليه المجموعة في ذلك الوقت. لم يكن إيقاع هجمات “الدولة الإسلامية” قريباً -ولو من بعيد- من الذورة التي كانت قد بلغتها في أوائل العام 2007، ولم تكن تحتفظ المجموعة بأي أرض.
حمّلت ورقة الاستراتيجية المسؤولية عن سقوط “الدولة الإسلامية” لما أسمته “الحرب القذرة” التي يشنها خصومها الأميركيون، الذين استخدموا القبائل السنية “الجبانة” ضدها. “عندما كانت الدولة الإسلامية في ذروة قوتها ونفوذها، قام (الأميركيون) بتنفيذ تفجيرات في الأسواق، والأماكن العامة، والمساجد، وقتلوا خصوم “الدولة”، بحيث يبدو المجاهدون هم المسؤولون. وبسبب مثل هذه الأمور، رأينا نفوذ الدول الإسلامية يتلاشى ويختفي، في حين تنتشر الصحوات المرتدة”.
وتواصل مسلسل الأوهام. وفبرك مؤلفو الورقة أفلام فيديو على الإنترنت لأميركيين وهم يحاولون تفكيك العبوات الناسفة المرتجلة، وعرضوها على أنها أميركيون يزرعون العبوات ويفجرون أنفسهم بها عن غير قصد. ولم تكن “الدولة الإسلامية” قد استفزت القبائل السنية باضطهادها؛ وإنما قام أعداء الجهاديين، بدلاً من ذلك، بذكاء بتأليب زعماء القبائل ضد الجهاديين. وقدم شباب القبائل الدعم للأميركيين فقط من أجل المال والهيبة، مظهرين أنفسهم على أنهم المدافعون عن شعبهم.
سقطت “الدولة الإسلامية”، كما اعترف المؤلفون، لكنها ستعود، تماماً كما عادت طالبان في أفغانستان بعد الهزيمة التي تلقتها على يد الأميركان. وسوف يكون انسحاب الأميركيين من العراق هو وقت العمل. “عندما ينسحب الأميركيون في غضون سنتين… سوف يكون الموقف أقوى سياسياً وعسكرياً حتى تخطط الدولة الإسلامية للاستعداد لتولي زمام السيطرة على كل العراق”. لكن المؤلفين كانوا يدركون أن فصائل أخرى في العراق كانت تستعد لعمل الشيء نفسه.
أوصى المؤلفون بطرق عدة للتغلب على الفصائل الأخرى والسيطرة على العراق. وكان توحيد هذه الفصائل خلف “البرنامج الجهادي” لمجموعة “الدولة الإسلامية” على رأس قائمة المقترحات. “لن يتصارع المسلمون على الأسماء والألقاب. إن مساعدة (البرنامج) هي انتصار لأهل الإسلام وليس انتصاراً لمجموعة، أو لقب، أو اسم”. سوف تكون مجرد مقاتلة المجموعات الأخرى من دون هدف “حماقة”.
عسكرياً، ادعى مؤلفو الورقة بأن التركيز على مهاجمة القوات العسكرية في العراق سوف يكون مضيعة للوقت، بما أنها ستغادر البلد؛ وبدلاً من ذلك، على الجهاديين أن يوجهوا نيرانهم إلى الجيش والشرطة العراقيين، اللذين أمل الأميركيون بأن يستمرا في إخضاع البلد لهم بعد رحيلهم. وباستهداف الجيش والشرطة، سوف يزرع الجهاديون الخوف في قلوب المجندين المحتملين. كما ستؤدي مهاجمة قوات الحكومة إلى إجبارها على ترك قواعدها في بعض مناطق البلد، حيث تكون ضعيفة. وسوف يفتح ذلك فراغات أمنية ويستنزف موارد الحكومة عندما تكافح لحماية قواعدها المتبقية. ويمكن أن يستغل الجهاديون هذه الفراغات بالاستيلاء على الأراضي وأي معدات أو بنية تحتية تخلفها تلك القوات وراءها. “اجعلوهم دائماً منشغلين بالمشاكل الداخلية”، كتب المؤلفون، مقتبسين منظر الاستراتيجية العسكري الصيني القديم البارز، صن تزو.
قد يجد القراء الغربيون لجوء متعصبين دينيين يكرهون الكفار إلى اقتباس صن تزو أمراً غريباً في ذاته. لكن هذه الممارسة شائعة بينهم، مما يشير إلى وجود مسحة براغماتية بين بعض الجهاديين. وفي أوائل الألفية، على سبيل المثال، احتفى الجهاديون بالبصيرة الاستراتيجية لأبي عبيد القرشي، وهو مؤلف مجهول كان قد اقتبس العشرات من الاستراتيجيات غير الإسلامية في عمود مجلته “دراسات استراتيجية”. ومن بين آخرين، اقتبس القرشي تأريخ روبرت تيبر لحملات حرب العصابات، “حرب الهروب”؛ وكتابات ويليام ليند عن حرب الجيل الرابع؛ ومقولات للمنظر العسكري البروسي فون كلاوسفيتز؛ والثوري الشيوعي ماو تسي تونغ. وكان مؤلفو “الخطة الاستراتيجية” يغزلون على منوال ذلك التقليد.
افترض المؤلفون أن تكتيكات حرب العصابات سوف تضعف الحكومة العراقية. لكنهم اعتقدوا ايضاً أن الجهاديين يمكن أن ينشئوا أيضاً دولتهم الخاصة من دون احتواء القبائل السنة. وحتى يتمكنوا من ذلك، نصح المؤلفون “الدولة الإسلامية” بنسخ ما كانت الولايات المتحدة قد فعلته: إعطاء المال والأسلحة لزعماء القبائل السنية الساخطين من “الدولة الإسلامية”. وسوف يعمل ذلك على تعزيز سلطة زعماء القبائل، ويشتري أيضاً ولاء شباب القبائل مؤقتاً. واعترف المؤلفون بأن “فكرة تجنيد القبائل للقضاء على المجاهدين كانت فكرة ذكية وجريئة، والتي سوف يستخدمها أي محتل في المستقبل لأنها تجعل العمل الصعب سهلاً على المحتل، في حين توفر له الحماية ضد هجمات المجاهدين”. لكن المؤلفين كانوا متأكدين من أن القبائل سوف تفضل قبول المال والسلاح من إخوتها المسلمين على أخذها من المحتلين الأجانب الذين لا يحترمون دينها، أو التي تدعم البلطجية ليكونوا زعماء للقبائل. وعلى المجاهدين اتباع خطة الأميركان بإقامة مجالس للقبائل، وإنشاء ميليشيات يمكنهم ان يعملوا معها، لكنهم يجب أن يفعلوا ذلك بطريقة أفضل. سوف يكون المجاهدون أكثر احتراماً للممارسات الدينية المحلية وهياكل السلطة القائمة، ويمكن أن يمولوا هذا المسعى من الغنائم. وكما تبين لاحقاً، فإن احترام الجهاديين للحساسيات الدينية وهياكل السلطة كانت في كثير من الأحيان تنظيراً أكثر من كونه ممارسة.
لكن توحيد المجاهدين خلف برنامج واحد، وترهيب وإخضاع قوات الأمن العراقية، واحتواء القبائل السنية، لن تكون أموراً كافية، كما أكد المؤلفون. إن المجاهدين في حاجة أيضاً إلى “رمز سياسي”. وتدخل العديد من العناصر في صناعة مثل هذا الرمز: عظمة تضحياته، أخلاقه العالية، ونزاهته. وكان زعيم “الدولة الإسلامية” في ذلك الوقت، أبو عمر البغدادي، قد حقق مكانة الرمز. لكن المؤلفين عبروا عن قلقهم من حقيقة أن أياً من نوابه لم يكن في مكانة رفيعة بما يكفي ليملأ مكان الرمز إذا مات (وهو ما حدث بعد بضعة أشهر لاحقاً).
في خلاصة مقالتهم الفكرية تلك، أكد المؤلفون ضرورة أن يغرس الجهاديون الثقة في نفوس أولئك الذين يحكمونهم. ويمكنهم أن يفعلوا ذلك عن طريق حماية الناس في الأراضي التي يسيطرون عليها وجعلهم يزدهرون، وأن يعتنوا بحاجات الحكام والجنود المحليين، وأن يختاروا قضاة وهيئات تنفيذية جيدة، وأن يحكموا بالشريعة الإسلامية، وأن يطبقوا الحدود المذكورة في القرآن، وأن يوزعوا المال من خزينة “الدولة”. وبما أن الإعلام العالمي منحاز ضد الجهاديين، كما قال المؤلفون، فسوف يحتاج الجهاديون إلى استراتيجية إعلامية تضمن أن تكون أعمالهم الخيرة معروفة للناس. كما يجب على الجهاديين أن يفكروا أيضاً في التحالف مع خصومهم عندما يواجهون عدواً مشتركاً، تماماً كما تحالف النبي مع اليهود ضد الكفار عندما هاجموه في المدينة.
بوجود ذلك المخطط في المتناول، كانت “الدولة الإسلامية” مستعدة للعودة والانبعاث من جديد.
وليام ماكانتش
صحيفة الغد الأردنية