لم تعد سماء بغداد هادئة منذ تدريب المليشيات الموالية لإيران على إطلاق الطائرات المسيَّرة المفخخة على مواقع الأمريكيين. وذلك في حرب خفية وعلنية في مواجهة إيرانية أمريكية على أرض العراق.
هذه المليشيات انتقلت من حمل الكلاشنكوف إلى إطلاق الطائرات المسيَّرة وتعلّم تقنياتها الجوية في حرب مفتوحة ضد الأمريكان، نعرف بدايتها لكننا لا نعرف نهايتها، حتى بات الجميع يتحدث عنها كأن العدوى انتقلت من اليمن إلى العراق بسرعة خارقة.
تحوّلت لُعب الأطفال إلى تقنيات محترفة بيد المليشيات التي لا تتسلم الأوامر إلا من العمائم الكبيرة في إيران بروح عقائدية، لدرجة عدم اعترافها بالانتماء العراقي، وتصريحات البعض بأنهم على استعداد لإعلان الحرب حتى ضد دولهم إذا عادت إيران.
لم تسلم المواقع الأمريكية، سواء في قاعدة عين الأسد أو في مطار أربيل والقنصلية الأمريكية.
هذه المليشيات تنتقم لعناصرها التي تلقت ضربات أمريكية على الحدود العراقية السورية مؤخرا.
هناك الفعل ورد الفعل، وما يتردد ويُحاك في كواليس الصراع الأمريكي الإيراني، وقوده المليشيات، أي الأذرع الإيرانية التي باتت تنتشر في كل مكان، حتى إنّ الحكومة العراقية، بجيشها “المليوني”، غير قادرة على محاسبتها أو ردعها.
وهذا الصراع بكل تعقيداته وغموضه، لا يهدد سوى سيادة العراق وأمنه، حيث القانون والسيادة في مهب الريح منذ الاحتلال الأمريكي.
تشير الهجمات المتلاحقة بالطائرات المسيَّرة التي تستهدفت القواعد الأمريكية إلى أنها تخضع لتقنيات منتظمة بطريقة احترافية.
حسب إحصائيات البنتاجون، وقع خمسة وخمسون هجوماً منذ بداية العام بطائرات مسيرّة وصواريخ، ما يجعل سماء العراق تلتهب بشهب الصواريخ وبريق الطائرات المفخخة.
السؤال المطروح هو: مَنْ المستهدف، ومَنْ المستفيد، ومَنْ المتضرر من هذه العلميات؟ ومَنْ الذي يدفع الثمن أخيرًا؟
إيران، التي لا تستطيع أن تلقى أمريكا وجهاً لوجه، وجدت في أذرعها التي تنفق عليها مليارات الدولارات في العراق ولبنان وسوريا واليمن وغيرها، وسيلة بديلة للصراع غير الرسمي في مواجهتها مع أمريكا من أجل إنقاذ مشاريعها التخريبية أو برنامجها النووي والخروج من الحصار الأمريكي المفروض عليها، كما أنها تتحرك في مساحة ما يسمى “الهلال الشيعي”، الذي تحلم بإنشائه في استراتيجيتها طويلة الأمد.
هذا التوسع الجغرافي له أبعاد استراتيجية تحسب له إيران ألف حساب، ولا تتوانى عن الإنفاق عليه من خلال أذرعها الأخطبوطية المذهبية العمياء.
إن التبني الرسمي لهذه المليشيات من قبل العراق بصورة صريحة وإعطاءها الغطاء “الشرعي”، يشكل خطورة كبيرة ليس على العراق فحسب، بل على المنطقة برمتها، لأن هذا الامتداد الطائفي والمذهبي لا يُعرف مدى تأثيراته وامتداداته، وهو ما شهدته من تنسيق فصائل المليشيات بين العراق وسوريا.
ما الذي تريده هذه المليشيات بهذا التصعيد؟
لا نحتاج إلى الكثير من التفكير لمعرفة أن هذا التصعيد لا يهدف إلى مهاجمة القوات الأمريكية، بل إلى زعزعة المنطقة بكاملها.
والأدهى من ذلك أن إيران تحاول تحريف الحقائق باتهام دولٍ عربية في استهداف أبراج الكهرباء العراقية التي لم تؤدِّ وظيفتها أصلاً، من أجل إبعاد الشبهات عن مليشياتها وأغراضها بعيدة المدى، ولا ننسى أن إيران تبيع الكهرباء للعراق وتستوفي العملة الصعبة في ظروف الحصار.
هذه عملية ذر رماد في العيون ليس إلا، ونوع من خلط الأوراق والهروب إلى الأمام.
الهدف الظاهري هو “طرد القوات الأمريكية من العراق وإغلاق قواعدها كلياً”، في الوقت الذي كانت هذه القوات تحافظ على هيكلية المليشيات باعتبارها تقف ضد القوى القومية والوطنية التي تقف ضد وجودهم.
وكان هذا الفهم خاطئاً وساذجاً في رؤية هذه المليشيات التي استفحلت واستطالت وانتشرت حتى أصبحت خطرا يهدد الجميع.
وقد استعارت هذه المليشيات تقنيات الطائرات المسيَّرة من القوات الأمريكية التي طورتها في السبعينيات من القرن الماضي.
والآن انقلب السحر على الساحر، وانتقلت هذه التقنيات إلى المليشيات، مما يشكل خطرًا داهمًا على أي قوات أجنبية، سواء جاءت من تلقاء نفسها أو تم استدعاؤها من قبل هذه الحكومة أو تلك.
لذلك تشعر القوات الأمريكية بهذا الخطر وتستشعره على خط المواجهة، والخطورة تكمن في أن المواجهة اتخذت شكلاً متطورًا من أشكال الحرب.
مما لا شك فيه أن المليشيات الموالية لإيران وجدت نفسها تمسك زمام الأمور في هذه المواجهة، فلم تعد الأسلحة التقليدية ذات نفع وجدوى في الوقت الحاضر، لأنها أدركت قدرتها على الانقضاض على هدفها بسهولة، ومن دون تدخل بشري، وهذا لا يعني أن القوات الأمريكية عاجزة عن هذه المواجهة، لأنها تمتلك تقنيات مضادة، ولكن ذلك يكلفها الكثير من الجهد والمال، ولم يكن في حسبان الأمريكان.
هذه المليشيات تؤذي القوات الأمريكية بشكل أو بآخر، فالذبابة قد تزعج فيلاً وتقض مضجعه وتسلب راحته، وهذا ما يتحقق على أرض الواقع.
لا تزال القوات الأمريكية في ذهول من هجمات الطائرات المسيَّرة وبدأت تحسب لها ألف حساب.
د. شاكر نوري
العين الاخبارية