لفتت زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى دمشق هذا الأسبوع الانتباه، وأثارت تساؤلات كثيرة بشأن دلالات التوقيت والأهداف. أما التوقيت فقد بدا واضحا منه أن بكين تسعى إلى استقطاب أكبر اهتمام إعلامي ممكن من ترتيب أول زيارة يقوم بها أرفع مسؤول صيني إلى دمشق منذ سنين، وهو عكس سلوكها الذي اتسم بالهدوء والتلطّي وراء الموقف الروسي في التعامل مع المسألة السورية منذ عام 2011. وعلى الرغم من إبدائها موقفا واضحا في تأييد النظام السوري منذ بداية الأزمة، إلا أن موقف الصين كان ينبع من احتياجاتٍ داخلية، يحكمها شعور بالضعف والهشاشة، ولم يكن مرتبطا بمصالح فعلية لها في سورية، أو حتى في منطقة شرق المتوسط التي انحصرت اهتمامات الصين بها، منذ نهاية الحرب الباردة، بتطوير العلاقة مع إسرائيل، فالسوق السورية صغيرة، والتبادل التجاري بين البلدين يكاد لا يُذكر في حجم تجارة الصين الخارجية، كما لا توجد استثمارات صينية مهمة في سورية، ولا تمثل سورية محطة رئيسية في مشروع الحزام والطريق الذي أطلقته الصين عام 2013 وتعدّه سبيلها إلى العالمية.
والواقع أن الموقف من الأزمة السورية انطلق من مبدأ لا تفتأ الصين تذكّر به وتؤكد عليه، وهو مبدأ سيادة الدول وعدم جواز التدخل في شؤونها الداخلية، وهي ترى، وفقًا له، أن الصراع بين أي حكومة وشعبها شأن داخلي، لا يحق لأحد التدخل به، حتى لو أبادت الحكومة شعبها عن آخره. والصين عندما تتحدث وفق هذا المنطوق، فإنها تعني نفسها قبل أي طرف آخر، وهي التي سحقت ثورة الطلاب في ساحة تيان آن مين بالدبابات عام 1989، وتنشئ معسكرات اعتقال لملايين من مواطنيها من قومية الإيغور المسلمين. وإذا أخذنا في الاعتبار فوق ذلك أن أكثر النظم العربية، وأولها السوري، تتبنّى، منذ نهاية الحرب الباردة، النموذج الصيني في الحكم والإدارة، أي الرأسمالية الاستبدادية (Authoritarian Capitalism)، يمكن عندها فهم حساسية الصين لتطورات العقد الأخير في العالم العربي. والواقع أن الصين تتشارك مع العالم العربي أسبابا كثيرة تؤدي إلى تفجّر الثورات، خصوصا في ظل الفوارق الكبيرة في الثروة والتنمية بين الساحل والداخل، وبين ريف الصين ومدنها الكبرى. وتعاني الصين أيضا من صعوباتٍ في السيطرة على بعض أنحائها المترامية، خصوصا في إقليمي التبت وسينغيانغ (تركستان الشرقية) ذي الغالبية المسلمة. قلق الصين من احتمال حدوث اضطرابات لديها هو ما حدّد موقفها من ثورات الربيع العربي عموماً، وسورية خصوصا، وغذّى خوفها “المرضي” من احتمال انتقال الثورات إليها، ومن شرعنة أي تدخل دولي على أساس إنساني (كما حصل في كوسوفو وليبيا وغيرهما)، قد يقود لاحقاً إلى التدخل في شؤون الصين الداخلية، أخذاً في الاعتبار ميلها إلى استخدام العنف المفرط ضد أي حركة احتجاج مجتمعي.
الشعور بالضعف والهشاشة هو إذا ما حدّد موقف الصين من المسألة السورية، وثورات الربيع العربي عموما عند انطلاقتها، لكن الأمور تغيرت الآن، أو هكذا تريد لنا الصين أن نفهم، فهي لم تعد تلك القوة الإقليمية المحاصرة في شرق آسيا، والتي تتبع سياسة دفاعية في التعاطي مع الغرب. زيارة وانغ يي إلى دمشق تهدف إلى القول إن صين 2021 ليست صين 2011. صحيحٌ أن اعتبارات داخلية ما زالت تملي موقفها من المسألة السورية، مثل تخوّفها من الجيش الإسلامي التركستاني، الذي يقال إن له نحو ألفي مقاتل في سورية، وورود أنباء عن انتقال بعضهم إلى أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي منها، إلا أن توقيت زيارة المسؤول الصيني إلى دمشق وترتيباتها كان فيهما نبرة تحدّ واضحة للولايات المتحدة التي تستعد للانسحاب من المنطقة، وكأن الصين أرادت من خلالها أن تعلن بداية حقبةٍ جديدةٍ في التعاطي مع الغرب، وأن ما بدأته روسيا في سورية عسكريا لإحداث تغييرٍ جذري في بنية النظام الدولي تريد الصين إكماله اقتصاديا، بإعلان أول انتصار كبير لمنطوق الرأسمالية الاستبدادية بعد انتهاء الحرب الباردة. ملفتٌ أن الغرب لم يفهم أبدا أهمية سورية في الصراع العالمي على القيم والسيادة والنموذج، حتى جاء وانغ يي ليعلن منها أن التاريخ لم ينته بسقوط جدار برلين عام 1989.
مروان قبلان
العربي الجديد