تسير المفاوضات ببطء شديد بين الوفد الحكومي الأفغاني وحركة طالبان، على الرغم من حرص الجهة المستضيفة، الدوحة، على تقريب وجهات النظر بين الطرفين، والخلوص إلى اتفاق سياسي. وقد توافقا، أخيرا، على تسريع التفاوض بينهما، ولكن ليس معلوما إلى أية وجهة سوف تسير المركبة بعد زيادة سرعتها. وتسعى في هذا الوقت أطراف أخرى لاستضافة مثل هذه اللقاءات، من بينها إيران وباكستان وروسيا، غير أنه من الواضح أن حركة طالبان ترغب في “التفاوض” في مكان آخر، وهو ساحات القتال، وهذا ما تثابر عليه، فمنذ شرعت الولايات المتحدة في سحب قواتها في مايو/ أيار الماضي، ازدادت شهية الحركة للقتال، إذ رأت في هذا الانسحاب انتصارا لها. وتقديرها هذا لا يجانبه الصواب، فقد تم الشروع في هذا الخروج بعد عشرين عاما على غزو هذه البلاد على الطريقة الأميركية، طريقة إغلاق شركة تبين أن أعمالها إلى مزيد من الخسارة. وفي مارس/ آذار الماضي، قبل شهرين من بدء الانسحاب، فقد تقدّمت واشنطن بخطوط عامة لاتفاق بين الطرفين، يقضي بتشكيل حكومة جامعة تضم “طالبان”، وتعدّ دستورا وتهيئ لانتخابات برلمانية، إلا أن “طالبان” لم تلق بالا لهذه الخطة، فالمنسحب والمتراجع لا تؤخذ مواقفه وطلباته بجدّية. ومن الواضح أن الانسحاب شكل ضغطا على طرف واحد، هو حكومة كابول التي سرعان (مع إغلاق قاعدة باغرام الجوية) ما فقدت الغطاء الجوي الأميركي في معاركها مع “طالبان”، بما مكّن الأخيرة من تحقيق تقدم ملموس في غضون أسابيع. وقد لوحظ أن الحركة سعت إلى السيطرة على مناطق حدودية، وقال في هذا الصدد الناطق باسمها، ذبيح الله مجاهد، لوكالة ريا نوفوستي الروسية “الحدود الأفغانية مع طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان وإيران، أي قرابة 90 في المئة، تحت سيطرتنا”، وذلك بطبيعة الحال تمهيد من الحركة لإقامة دولتها، ولمنع تدخلات خارجية عبر الحدود البرّية.
تدربت طالبان على العثور على مصادر تمويل مشروعة وغير مشروعة، وعلى هدم الآثار، ولم تتدرّب على شيء من فنون الإدارة العامة
وفي واقع الأمر، انسحاب القوات الأميركية والقوى الحليفة تم بموجب مفاوضات مع “طالبان” في فبراير/ شباط من العام 2020، أفضت إلى قرار انسحاب القوات الغربية (الأميركية وقوات من حلف الناتو)، مقابل التزام “طالبان” بمنع مسلّحي تنظيم القاعدة من التمركز على الأراضي الأفغانية. ولكن الاتفاق لم يأخذ مصالح الشعب الأفغاني في الاعتبار بإحلال السلام وتشكيل حكومة ائتلافية ونبذ العنف في الصراعات السياسية والمساواة بين الجنسين. لقد زيّنت واشنطن آنذاك الوضع بأن هدفها تحقق بمكافحة “القاعدة”، وضمان عدم عودة التنظيم الإرهابي لاتخاذ أفغانستان قاعدة ومنطلقا له، وهو اتفاقٌ وقعته إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، والتزم به الرئيس جو بايدن. ولوحظ أن ذلك الاتفاق الذي وقع في الدوحة في 29 فبراير/ شباط 2020 يشير إلى “إمارة أفغانستان الإسلامية” لدى الحديث عن “طالبان”. وقد شكّل ذلك الاتفاق اعترافا واقعيا بحركة طالبان قوة عسكرية وسياسية ذات صفة تمثيلية. وكما تفاوضت الحركة مع الولايات المتحدة فيما كانت المعارك دائرة بين الطرفين بدون توقف، كذلك الحال في مفاوضات الحركة مع الوفد الرسمي الأفغاني، فالمعارك لا تتتوقف، ومن العبث الحديث عن كون استلام السلطة ليس هدفا للحركة، فهي لا تقاتل لمجرد القتال، إذ تتعامل مع الحكومة الافغانية الحالية باعتبارها حكومة أمر واقع ليس إلا، وتنكر عليها شرعيتها.
سوف يعني انتصار “طالبان” سلسلة من التصفيات للخصوم والمنافسين القدامى والجدد
وبينما جرى الحديث قبل نحو عشرة أيام عن عرض “طالبان” هدنة لثلاثة أشهر مقابل إطلاق سراح سبعة آلاف من مقاتليها، ورفع العقوبات عن عدد من قادتها، إلا أن الحركة سرعان ما نفت هذا العرض. وسواء سحبته بعدما تقدّمت به، أو أنها لم تتقدّم به رسميا، فالثابت أنها ترى الظروف مواتية لمواصلة الزحف على العاصمة وإسقاط المدن الكبرى، وسط ارتفاع معنويات مقاتليها، وبعد طول اعتماد القوات الأفغانية الحكومية على الدعم الأميركي والغربي لها في ميادين القتال. والراجح أن المواجهات سوف تتواصل جنبا إلى جنب مع المفاوضات، بل باعتبار أن النزال العسكري هو ميدان التفاوض الفعلي.
تدربت الحركة على فنون التفاوض خلال العامين الماضيين، وعلى إطلاق التصريحات العائمة، من قبيل إعلان زعيمها، هبة الله أخوند زادة، عن تأييده بشدة الوصول إلى تسوية سياسية تنهي النزاع في أفغانستان. كما تدربت على العثور على مصادر تمويل مشروعة وغير مشروعة، وعلى هدم الآثار، ولم تتدرّب على شيء من فنون الإدارة العامة، بما في ذلك وضع تشريعات وأنظمة وقوانين لتسيير المؤسسات، وقبل ذلك على وضع دستورٍ يراعي مواثيق الأمم المتحدة وأحكام القانون الدولي المرعية. وليس من المقدّر أن تأخذ وجود المؤسسات الحالية في الاعتبار، إذ تراها وليدة حقبة الغزو، حتى لو ارتضى بها الأفغانيون.
ترك أفغانستان في حالها لا يعني سوى ترك الحرائق تستعر في هذا البلد، كي تأكل المزيد من الأخضر واليابس
والفرصة السياسية المتاحة الآن للتأثير في مستقبل أفغانستان تكمن في اشتراط الدول المعنية أن يتم التوصل إلى اتفاق ملزم بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان شرطا للتعامل مع الواقع المتحول، والآخذ في الارتسام حتى نهاية العام الجاري الذي ينبئ ياستحواذ “طالبان” تدريجيا على مقاليد الحكم وبالقضم البطيء أو السريع لمفاصل السلطة، وعلى طريقة الحوثيين في اليمن. من دون أن يعني ذلك غياب التكافؤ العسكري بين القوات الرسمية وقوات “طالبان”، إلا أن استمرار القتال ينذر بمزيد من الاستنزاف ومن الخسائر البشرية والمادية، وهو ما لا يؤرّق حركة كحركة طالبان، لم تجرّب يوما الحياة المدنية أو الحرص على العمران والمؤسسات وحرمة الحياة البشرية، ولم تهجس بشيء من هذا كله. وإذ تستضيف قطر المفاوضات، فإن هذه الجولات تتطلب رعاية سياسية لها، سواء من الأمم المتحدة ومن الدولة المضيفة إلى جانب الدول المعنية، مثل الولايات المتحدة وباكستان والصين والهند وتركيا وروسيا وإيران. إذ من الواضح أن تكتيك “طالبان” يقوم على استخدام التفاوض غطاءً للتصعيد العسكري المنهجي، ومن أجل كسب مزيد من الوقت ومن الأراضي والاستحواذ على المناطق. ولمواجهة هذا السيناريو شبه المكشوف، ومن أجل إشاعة مناخ جدّي للتفاوض، لا بد من إرادة إقليمية ودولية لفرض وقف إطلاق نار مديد، واعتبار الاستعداد لوقف العمليات الحربية هو البرهان المطلوب لحسن النيات في التوجه نحو حل سياسي متفق عليه، ويحقن دماء الأفغانيين بعد أكثر من أربعة عقود من صراعات دامية، أزهقت أرواح عشرات الآلاف وشرّدت الملايين وقوّضت البنى التحتية المتواضعة متى ما وجدت، واستدرجت تدخلات أجنبية شملت بعض الدول القريبة والبعيدة أولا، كما ضمّت أنصار القتال من جماعات وأفراد يرون في هذا البلد المنكوب دار حرب دائمة وأرضا للحشد، علما أنه لا شيء أبدا يضمن حاليا عدم وجود تنظيم القاعدة، وحتى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هناك تحت أي لبوس أو مسمّى. وعلى كل حال، فصبيحة عيد الأضحى كان صاروخ يتجه نحو القصر الرئاسي في كابول، ولم يتوان “داعش” عن تبنّي إطلاقه، من دون تعليق أو تعقيب من “طالبان”.
ترك أفغانستان في حالها لا يعني سوى ترك الحرائق تستعر في هذا البلد، كي تأكل المزيد من الأخضر واليابس. إذ سوف يعني انتصار “طالبان” سلسلة من التصفيات للخصوم والمنافسين القدامى الجدد، وتلك هي الخبرة المتأتّية عن سبل التمكين والتغليب التي تنبري لها حركات راديكالية خلاصية، كما وقع لدى إيران المجاورة قبل أكثر من أربعة عقود، وفي اليمن خلال السنوات القليلة الماضية.
محمود الريماوي
العربي الجديد