لسنا وحدنا الذين نرتاب في العبارات التي تخصّ العلاقة بين بغداد وواشنطن والمتعلقة بوجود القوات الأميركية في العراق في المرحلة المقبلة، تلك العبارات التي وردت في تصريحات الجانبين، وأريد منها أن تكون “حمّالة أوجه”، إذ وعدت برحيل العسكر الأميركيين الذين يقومون بمهمات قتالية مع نهاية العام، لكنّها أبقت عليهم مستشارين ومدرّبين إلى ما شاء الله (!) وأكدت على دور “التحالف ضد داعش” و”حلف الناتو” وزيادة عدد جنودهما، ومن بينهم أميركيون وبريطانيون (!) أما القواعد العسكرية فهي، بحسب تلك التصريحات، “قواعد عراقية تخضع للقانون العراقي” وتستضيف عساكر أميركيين يساعدون في مهمّات حماية المنشآت والمصالح الأميركية (!)
لسنا هنا في معرض استخلاص الصورة الحقيقية لما جرى الاتفاق عليه في ما سمّي “الحوار الاستراتيجي”، فكلُّ شيء أضحى مكشوفاً، ولم يعد ثمّة ما يبرّر المناورة أو المراوغة، لكنّنا نحن، المشتغلين بالكتابة والمنشغلين بالغوص في الكلمات والعمل على تفكيكها وتحليلها، نميل إلى الارتياب في ما يقوله بعض السياسيين ويصرحون به، خصوصاً عندما تُطبق عليهم الأزمات، محاولين تفادي ما قد ينالهم من لوم وتقريع، وحتى اتهامات جارحة، إذا قالوا لمواطنيهم الحقيقة أو نصف الحقيقة، وقد اختبر قبلنا هذا النمط من التعامل مع الكلمات الكاتب اللبناني أمين معلوف، وخلص في واحدةٍ من دراساته إلى أنّ الكلمات التي نرصدها كلما كانت أكثر شفافية كانت أكثر خيانة، ومع إدراكنا دلالاتها، فإنّنا غالباً ما نستمر في الوثوق بها، وإن راحت تعني نقيضها بصورة خبيثة ومقصودة، وهذا ما نتعامل به مع نتائج صفقة واشنطن.
هدّدت “تنسيقية المقاومة”، وهي جهة مليشياوية تتبع الحرس الثوري الإيراني، باستمرار المقاومة حتى رحيل آخر عسكري أجنبي
سبقتنا صحيفة نيويورك تايمز في التشكيك، وفي كشف المستور، إذ نقلت عن مسؤولين في البنتاغون أنّ ما تم إقراره بين الأميركيين والعراقيين هو أن يستمر الوجود العسكري، والذي يضم أكثر من ألفي جندي، وأن يُكتفى بتغيير مهماتهم (على الورق)! ومن ناحيتها، فإنّ إيران، وهي المعنية أكثر من غيرها بمخرجات الحوار، والتي لا تريد وجوداً أميركياً على مرمى حجر من حدودها، تركت لوكلائها في العراق مهمة مهاجمة الصفقة العراقية – الأميركية التي وصفها زعيم مليشياوي ولائي بأنّها “عملية خداع والتفاف على مطلب سحب القوات الأجنبية على نحو شامل وكامل”. وهدّدت “تنسيقية المقاومة”، وهي جهة مليشياوية تتبع الحرس الثوري الإيراني، باستمرار المقاومة حتى رحيل آخر عسكري أجنبي.
زاد هذا كلّه حال العراق إرباكاً في ظلّ السجالات وردود الأفعال الدائرة بخصوص “العرس” الانتخابي المنتظر، والذي يعلق عليه بعضهم آمالاً عريضة، فيما ينأى آخرون عنه بأنفسهم بعدما أعلنوا مقاطعتهم له، ومن بينهم صدريون وشيوعيون ومستقلون وممثلو مجموعاتٍ صغيرة، وكلٌّ له حساباته ومعاييره.
وقع الكاظمي في شر أعماله، وازداد مأزقه اتساعاً، بعد تصاعد حمى الصراع الأميركي – الإيراني على أرض بلاده
ولكي لا نبخس الناس أشياءهم، يبدو لنا رئيس الحكومة، مصطفى الكاظمي، العائد من رحلته “التاريخية” إلى واشنطن، وكان قد قصدها لحلّ عقدة الوجود الأميركي في بلاده، في حال لا يحسد عليها بعد فشله في تحقيق “منجز” تاريخي يُحسب له، وبعدما اشتد حصار المليشيات له، وهي التي أصبحت مهيمنة على القرار، بحكم فائض القوة الذي تستمده من دولة ولاية الفقيه، ولم تترك له فرصة معالجة أمورٍ تُدخل ضمن سلطته رجلاً أول في الدولة. والظاهر أنّها استغلت ضعف شخصيته، بعدما تخاذل في أكثر من واقعة عن مقارعتها، واستثمار أصوات ثوار تشرين الذين كانوا السبب في صعوده إلى قمة السلطة، وكانوا قد راهنوا عليه، ورأوا فيه “المنقذ” الذي يمكن معه، وعلى يديه، أن يتغيّر الحال والمآل معاً. وهكذا وقع الكاظمي في شر أعماله، وازداد مأزقه اتساعاً، بعد تصاعد حمى الصراع الأميركي – الإيراني على أرض بلاده، وازدياد نشاط خصومه لتطويقه ومحاولة إزاحته عن الواجهة. وقد ينجحون في ذلك، وعندها سيكتشف أنّ “من يخدم سيدين في وقتٍ واحدٍ لا بدّ أن يكذب على أحدهما” كما يقول أصدقاؤنا الإسبان. وتراه اليوم مشدوداً من جانبيه، ومسكوناً بأكثر من هاجس وهمّ، تلاحقه الحرائق والاغتيالات والاحتجاجات، ومشكلات عودة النازحين وإعمار المدن، وكذا المشكلات التي استوطنت على مدى عقدين؛ الكهرباء والماء والبطالة ومسلسلات الفساد، والجائحة، والخراب المقيم. وها هم الأميركيون يؤبّدون “احتلالهم”، والإيرانيون يرسّخون هيمنتهم، وهو صاغرٌ يقدّم رِجلاً ويؤخّر أخرى.
وحده المواطن العراقي، المهموم بيومه، لا يجد من ينصره أو يناصره سوى الله، وهو حسبه.
عبداللطيف السعدون