تشكل تسوية الخلافات المائية تحديا أمام دول المنطقة العربية في ظل تحذيرات من حروب عسكرية قد تخوضها الدول لاسترداد حقها في الحصول على مياه الأنهار، طالما تتشبث دول المنبع وإثيوبيا مثال على ذلك، بتطويع المياه كورقة ضغط سياسي متجاهلة أي مبادرات لعقد اتفاقات تسوية لملف سد النهضة، ولمواجهة حروب المياه المتوقعة يقترح خبراء تبني استراتيجية عربية موحدة للدفاع عن الثروة المائية لدول المنطقة.
أصبحت المياه إحدى أدوات الضغط السياسي الذي تمارسه بعض الدول – التي تسيطر على منابع الأنهار أو مصادر المياه – على دول المنطقة العربية التي تشترك معها في المصدر المائي، وذلك نتيجة أن معظم الأنهار العربية ذات أحواض مائية مشتركة، تنبع من دول غير عربية، كما هو الحال بالنسبة إلى نهر النيل بمنابعه الإثيوبية والأوغندية، ونهر دجلة بمنابعه التركية والإيرانية، وفي الفرات بمنابعه التركية، وأخيرًا كما هو الحال بالنسبة إلى نهر الأردن بمنابعه الخاضعة لسيطرة إسرائيل.
وأدى هذا الوضع المتعلق بالأحواض المشتركة إلى نشوب خلافات حادة بين الدول المشاركة فيها، وهي خلافات تنذر بنشوب نزاعات عسكرية مستقبلًا بسبب السياسات المائية التي تتبعها دول أعالي الأنهار (دول المنبع) دون مراعاة للاتفاقيات الدولية التي تنظم العلاقة بين الدول صاحبة منبع الأنهار والدول التي تمر عبرها الأنهار إلى نقطة المصب.
وتشرح دراسة “الأمن المائي العربي. التهديدات وآليات المواجهة” للباحثة نجلاء مرعي، وهي أستاذة مساعدة في العلوم السياسية وخبيرة الشؤون الأفريقية، العلاقة التي تربط بين الأمن القومي العربي والأمن المائي، وإشكالية الوضع المائي العربي.
كما تسلط الضوء على المشكلات المائية بين سوريا والعراق من جهة وتركيا من جهة أخرى وتأثيرها على الأمن القومي العربي، خاصة في ظل مآلات الوضع الراهن في سوريا والعراق، واستغلال تركيا لورقة المياه في الضغط سياسيًا على المنطقة، وتحديدًا دول الحوض، وذلك من خلال الشراكة المائية مع إسرائيل، وسياسة كل من دمشق وبغداد تجاه المشروعات التركية على نهري دجلة والفرات.
هذا فضلا عن المشكلات بين مصر وإثيوبيا مع التركيز على مشروع سد النهضة الذي يمثل إحدى حلقات أزمة السدود بين الجانبين، وخاصة في ظل تعثر المفاوضات المصرية – الإثيوبية – السودانية برعاية الاتحاد الأفريقي منذ 3 يوليو 2020 وتحديات إدارة هذا الملف الحيوي وتأثيرها على الأمن القومي المصري.
سبق أن حذرت تقارير سابقة من أن المنطقة العربية تعاني من عجز فادح في مخزونات المياه، ولا تملك منها إلا أقل من 7 في المئة من المخزون العالمي.
وتلفت مرعي في دراستها الصادرة عن دار العربي إلى دور القوى المحفزة على هذا الصراع المائي، حيث يبرز دور كل من المؤسسات الدولية والشركات العابرة للحدود وإسرائيل والولايات المتحدة، وخاصة في حوض نهر النيل ونهر دجلة والفرات ونهر الأردن كأمثلة دالة على طبيعة التوجهات والتهديدات الإسرائيلية تجاه المياه العربية، وتأثيرها على الأمن المائي العربي.
وتقول مرعي “كانت لقضية المياه أهمية بالغة بالنسبة إلى كل من تركيا وسوريا والعراق، ومثار جدل وتنازع مستمر بالرغم من الاتفاقيات المشتركة التي حاولت أن تنظم عملية توزيع المياه، إذ بقيت القضية تشكل عاملا سلبيا ومؤثرا في العلاقات العربية التركية؛ حيث تنصب أهم القضايا العالقة بين الجانبين التركي والعربي في موضوع المياه على اقتسام مياه نهري دجلة والفرات، إذ يصر الجانب التركي على اعتبار أنهما موردين تركيين لا يخضعان للاقتسام على أسس القانون الدولي”.
وأطلق انخفاض منسوب نهر الفرات صفارات الإنذار بشأن كارثة مائية وشيكة في العراق كان قد تواتر التحذير منها خلال السنوات الماضية بسبب وجود توجّه تركي نحو مضاعفة استغلال مياه نهري دجلة والفرات في مشاريع زراعية وصناعية ضخمة، فضلا عن تحذيرات من لجوء أنقرة إلى استخدام المياه كورقة مساومة على ملفات أمنية وسياسية متعلّقة بمطامعها في الأراضي السورية والعراقية.
وتشير الباحثة إلى أن حوض نهر النيل يشهد واقعًا مشابهًا مع استمرار التفرد في إقامة مشاريع الاستفادة من منابع النهر؛ حيث أثار سد النهضة الإثيوبي – وما يقترن به من مخاوف مشروعة لكل من مصر والسودان، في ضوء الدراسات التي تشير إلى ما سيلحق بهما من آثار سلبية، أهمها العجز المائي في حصة مصر وانخفاض القدرة الإنتاجية من الكهرباء المولدة من السد العالي – جدلا واسعا في مصر حول الانتفاع غير العادل بالنهر. وذلك بتحريض من إسرائيل، الدولة التي قامت أساسًا على الهيمنة على منابع نهر الأردن وروافده ومجراه، دون أن يخفى تنسيقها الاستراتيجي في ذلك مع تركيا.
وتكمن مشكلة توزيع المياه في الشرق الأوسط في أن هذا التوزيع يتم بصورة غير متوازنة، الأمر الذي يقود إلى نزاعات تتبلور في مستويين، الأول: العلاقة بين دول المنبع والمصب، والثاني: الصراع العربي – الإسرائيلي في جانبه المائي، فالأول يمكن الاتفاق حوله استنادًا إلى توافقات دولية، على عكس المستوى الثاني المستند إلى طابع سياسي يحكم العلاقة بين مختلف الأطراف ويلج بها إلى موضوع التوازنات الدولية، خاصة في ظل تداعيات ثورات “الربيع العربي” في عام 2011، والتي أدت إلى بروز مصادر تهديد جديدة للأمن القومي العربي، وتعكس مدى رغبة وسعي الدول الكبرى للسيطرة على مقدرات الوطن العربي من خلال الاستقطاب السياسي للقوى المتصارعة سياسيًا وعسكريًا. كما أن الكثير من القوى المحيطة بالوطن العربي تنسّق بشكل صريح أو ضمني مع إسرائيل وتعمل معها.
لهذا ينطلق التحليل في دراسة مرعي من مقولة مفادها أنّ كلا من إسرائيل والولايات المتحدة، باعتبارهما من القوى الخارجية المؤثرة على النظام الإقليمي لأحواض الأنهار العربية وخاصة نهر النيل، تلعبان دورًا محوريا في إعادة رسم خارطة التوازن الإقليمي في المنطقة والصراع المائي في هذه الأحواض – سواء بشكل مباشر أو غير مباشر – تحقيقًا لمصالحهما الوطنية في تلك المنطقة.
وبالرغم من الإدراك المتنامي لخطورة قضية المياه في المنطقة وارتباطها الوثيق بقضية الأمن القومي العربي إلا أن هذا الإدراك لم تتم ترجمته حتى الآن إلى سياسة عربية مائية موحدة، وأن غياب استراتيجية أمنية عربية جدية فاعلة لحماية هذه الثروة القومية سوف يفاقم المشكلة ويعمق أبعادها الخطيرة.
وتوضح مرعي أن مشكلة المياه العربية ترتبط بعدم تبني استراتيجيات وطنية وقومية مستقبلية شاملة ومبنية على أسس علمية تأخذ الواقع المائي بكامل أبعاده الاقتصادية والتنموية والاجتماعية والسياسية وتستند إلى دراسات الخبراء في هذا المجال.
على الرغم من تحذيرات مراكز دراسات عربية ودولية من تداعيات شح المياه على المنطقة التي يعيش نحو 60 في المئة من سكانها في مناطق شديدة الإجهاد المائي، إلا أن تداعيات هذه الأزمة تبقى متراكمة دون حلول.
وتقترح مرعي تطوير استراتيجية عربية مشتركة لمواجهة هذه المعضلة.
وبرأيها يمكن طرح عناصر ورقة عمل عربية مع دول الجوار الاستراتيجي – مع استبعاد دبلوماسية القوة في التعامل مع دول أحواض الأنهار- وهي كالتالي: أولا تطوير رؤية شاملة للاستقرار والأمان في أحواض الأنهار وإنشاء هيئة مشتركة لحل الصراعات التي تنشأ بالطرق السلمية. ثانيا التعاون الاقتصادي والمشاركة المتبادلة في المشروعات المتوقع قيامها في حوض النهر وطرق الاستفادة منها. ثالثا إعداد دراسات جدوى مسبقة لمشروعات المياه الممكن قيامها، مما يعني المشاركة المتساوية ولو نظريًا في المنافع المتوقعة لجميع البلدان التي تتقاسم حوض النهر.
مشكلة توزيع المياه في الشرق الأوسط تكمن في أن هذا التوزيع يتم بصورة غير متوازنة، الأمر الذي يقود إلى نزاعات
ويتمثل العنصر الرابع في إنشاء صندوق لتمويل المشروعات الطموحة على حوض النهر مع الحرص على عدم خلط المشروعات المشتركة مع المشروعات المحلية، وإنشاء منظمات إقليمية أو “حوضية” – إذا جاز التعبير – لدول حوض النهر من أجل تطوير الاستفادة المشتركة.
وتؤكد مرعي أن استراتيجية تأمين المياه في الوطن العربي لا بد أن تنطلق من عدة محاور، أولها تطبيق منهج الإدارة المتكاملة في الموارد المائية التي تشكو من النقص الشديد. وهذا يتطلب أن تُؤخذ في الحسبان الخصائص المناخية للمناطق العربية، وخصائص شبكة الموارد المائية السطحية الداخلية وموارد المياه السطحية الخارجية الوافدة من مناطق الجوار الجغرافي ومجالات استخدام الموارد المائية وتزايد عدد السكان ونمو الاحتياجات المائية المرتبطة بها والتوازن البيئي الحيوي وضرورات التنمية المستدامة والتخطيط الإقليمي المتوازن.
كما تشكل سياسات الترشيد في الاستهلاك حلا ناجعا، حيث تهدف فكرة ترشيد المياه إلى الاستفادة القصوى من ذلك المورد في ظل أخطار التغيرات المناخية، وتتم وفقا لعدد من المستويات، وذلك باختلاف حد الخطر الحالي أو المتوقع لذلك المورد المائي. لكن يُتفق بوجه عام على عدد من المستويات الترشيدية لذلك المورد المائي بمختلف الأساليب؛ حيث يتم تطوير وصيانة شبكات نقل وتوزيع المياه، ورفع كفاءة الري الحقلي وتطوير نظم الري، فضلا عن تغير التركيب المحصولي واستنباط سلالات زراعية جديدة وفق تقنيات الري الحديثة.
العرب