الأول قُبيل اللقاء بين الرئيسين العراقي والأمريكي، أطلقه مدوّنون قريبون من الفصائل الشيعية ذات الولاء الإيراني: #القصف_بالقصف.
وهو متعلّق بالانفجارات التي حدثت في مخازن العتاد التابعة لفصيل “فرقة الإمام علي” التابعة للحشد الشعبي في محافظة النجف. وسارعت الفصائل المسلّحة المقرّبة من إيران إلى اتهام أمريكا وإسرائيل بتنفيذ قصف من خلال طائرات مسيّرة على هذا الموقع، غير أن خلية الإعلام الأمني التابعة لمكتب رئيس الوزراء العراقي عَزَت التفجير إلى سوء التخزين وارتفاع درجات الحرارة.
بعدها بساعات أطلق مدوّنون من التيّار الصدري وسماً آخر: #العراق_نحو_الاستقلال ليزاحم الوسم “الولائي” الأول على تريند الأعلى تغريداً في العراق، وجاء الوسم الثاني مباشرةً عقب اللقاء الذي بثّته وسائل الإعلام بين رئيس الوزراء العراقي الكاظمي مع الرئيس الأمريكي بايدن، رافق ذلك تغريدة من السيّد مقتدى الصدر رحّبت بنتائج الحوار بين الرئيسين العراقي والأمريكي، وما وُصف بأنه “الاتفاق على سحب القوّات القتالية الأمريكية من العراق، وحصر مهمات ما يتبقّى منها بالاستشارات العسكرية”.
الولائيون عادوا ليهاجموا تحت وسم #القصف_بالقصف تغريدة الصدر التي تجاهلت، حسب وصفهم، القصف الأمريكي/الإسرائيلي لمواقع الحشد الشعبي، كما أن مغرّدين آخرين لاموا الصدر لأنه لم يعلّق على الأحداث المأساوية التي حدثت في الأسابيع الماضية، ولعلّ أهمّها الانفجار الارهابي في سوق الوحيلات بمدينة الصدر، معقل التيار الصدري في بغداد، الذي راح ضحيته نحو 35 قتيلاً وأكثر من 60 جريحاً.
الوسمان اللذان تَصدَّرَا الأعلى تغريداً في مواقع التواصل العراقية يختصران في الحقيقة المشهد السياسي والأمني في العراق، وتحديداً طبيعة التنازع السياسي بين القوى السياسية الشيعية التقليدية وتلك الأكثر راديكالية التي تصدرت المشهد عقب الحرب ضد تنظيم داعش، والتي توصم عادة بأنها مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني بشكل وثيق.
أما جوهر الصراع بينهما فيختصره السيّد الصدر بتغريدته المشار إليها أعلاه، وإشارته إلى “وقف العمل العسكري للمقاومة مطلقاً، والسعي إلى دعم القوات الأمنية العراقية من الجيش والشرطة لاستعادة الأمن وبسطه على الأراضي العراقية، وإبعاد شبح الإرهاب والعنف والمتطفلين وأدعياء المقاومة”.
وعلى الطرف المقابل تُصِرّ هذه الفصائل التي اتهامها الصدر بأن أتباعها هم “أدعياء المقاومة” على استمرار الهجمات بالصواريخ على المقرّات التي فيها المستشارون العسكريون الأمريكيون، وضرب الإمدادات اللوجستية وكذلك محيط السفارة الأمريكية في بغداد.
التفصيلة الأبرز في ليلة المصافحة بين الرئيسين الأمريكي والعراقي في البيت الأبيض هو اتفاق جميع الأطراف السياسية على الترحيب بخطوة “الانسحاب الأمريكي من العراق” بما فيها كتلة الفتح، التي تضمّ الأطراف السياسية والمليشياوية المقرّبة من إيران.
فتوالت التغريدات والبيانات من كل الشخصيات البارزة، من رئيسَي الجمهوريتين والبرلمان إلى قادة الكتل والتيارات السياسية، بما يشبه الإجماع الوطني على أهمية هذا الحدث.
وتقول التسريبات إن قادة الكتل الكبرى كانوا على تواصل مع الكاظمي خطوة بخطوة، وإن ما جرى الاتفاق عليه مع الجانب الأمريكي كان بإمضاء من قادة الكتل الكبرى هذه. والهدف من هذه الخطوة هو سحب المشروعية من الفصائل المسلّحة واستمرارها بتنفيذ هجمات تربك العلاقة بين العراق وأمريكا، وتعقّد المشهد السياسي والأمني في العراق، ورغبة الحكومة بالانفتاح على العالم لتعزيز الاستثمارات الاقتصادية التي لها أهمية كبرى في تنشيط الواقع الاقتصادي العراقي المتردّي.
الشيء المُعلَن من الاتفاق الجديد هو انتقال العلاقة الأمنية بين العراق وأمريكا إلى مهامّ الاستشارة والتدريب، وسحب القوّات القتالية بحدٍّ أقصى هو نهاية العام الحالي.
إن هذه العناوين الكبرى والحديث عن يوم الاستقلال العراقي والانسحاب الأمريكي من العراق توحي بأننا أمام جيش جرّار، ولكن الوقائع تتحدث عن نحو 2500 جندي أمريكي متوزّعين على معسكرات أهمّها قاعدة فيكتوري قرب مطار بغداد، وقاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار، وقاعدة حرير في مدينة أربيل التي شهدت تصعيداً غير مسبوق من قبل الفصائل الولائية المسلّحة بعدة هجمات خلال الفترة الماضية.
وبالعودة إلى الذاكرة القريبة فإن حكومة ترمب كانت قرّرت أيضاً سحب قواتها في أواخر عام 2020، وتقلّص عددها من 5200 عنصر إلى 3000.
من الواضح أن هذا التضخيم في العناوين يُراد منه صنع “نصر كبير” على الصعيد الدبلوماسي، ينقذ الطبقة السياسية من مخنق المزايدات الذي تقوم به الفصائل الولائية، الذي انتقل إلى مستوى عالٍ غير مسبوق عقب الهجمة التي نفّذتها حكومة الرئيس السابق دونالد ترمب على مطار بغداد مطلع 2020 وأدّت إلى مقتل قائد الحرس الثوري قاسم سليماني ورئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس.
ففي حينها وجدت الطبقة السياسية نفسها تصوّت على قرار تعديل الاتفاقية الأمنية بين العراق وأمريكا، والمطالبة بسحب القوّات الأمريكية من العراق، رغم أن انسحاب القوّات الأمريكية “المحتلّة” كان قد أُنجزَ في نهاية عام 2011، أما القوات الجديدة فاستُقدمت بطلب من الحكومة العراقية للمساعدة على مواجهة داعش بعد يونيو/حزيران 2014.
مفارقة أخرى أن الهجمات التي قامت بها الولايات المتحدّة، وأبرزها عملية المطار، نُفّذت من خلال الإمكانيات العسكرية الأمريكية خارج العراق. ولهذا، حتى لو “انسحبت” المجموعات العسكرية الأمريكية الموجودة في المعسكرات العراقية حالياً، فإن هذا لن يغيّر القدرة الأمريكية في شيء في حال رغبت في استهداف الفصائل الموالية لإيران في العراق، بل إن هذا قد يحرم العراق فقط من إمكانيات التدريب ورفع الكفاءة لقدرة قوّاته الأمنية، وصيانة طائراته، والمساعدة على مراقبة فلول داعش، التي ما زالت تملك إمكانية لإقلاق الوضع الأمني في العراق، بعد الهجمات الارهابية الأخيرة المنسوبة إليها.
في كل الأحوال فإن ادارة بايدن فهمت الأهمية السياسية لكتابة عنوان برّاق مثل “الانسحاب الأمريكي من العراق” في الظروف الراهنة، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في أكتوبر القادم، في جو من الانقسام السياسي وتردِّي الأوضاع العامة أمنياً واقتصادياً وصحيّاً [تداعيات أزمة كورونا]، وعزوف القوى السياسية المنبثقة عن تظاهرات تشرين عن المشاركة بها، ثم التحاق بعض القوى السياسية التقليدية بحملة المقاطعة انتهت بقرار مقتدى الصدر، صاحب ثانية أكبر كتلة في البرلمان الحالي، الامتناعَ عن المشاركة في الانتخابات القادمة. وهي مقاطعة لم يأخذها أحدٌ على محمل الجدّ، وعدّت مناورة من الصدر للتفاوض مع الخصوم وكسب بعض النقاط لتقوية موقفه الانتخابي.
وإذ تبدو القوى السياسية التقليدية متحمّسة -بما فيها قوى توصف بأنها مقرّبة من إيران- لإعادة ترتيب الأوراق قُبيل الانتخابات القادمة، فإن الفصائل الأكثر راديكالية تبدو مستعدة لتوسيع مفهوم “الانسحاب” كي يشمل أي قوّات لحلف الناتو، وأي وجود عسكري أمريكي، وإن كان بصفة استشارية أو لأغراض التدريب. وقد ينتهي لاحقاً إلى طلب إجلاء البعثات الدبلوماسية!
هناك من يرى أن هذه الفصائل ستجد في كل وقت مبررات للزعم بأن “الانسحاب الأمريكي من العراق” لم يُنجَز بعد، وأن المقاومة المسلّحة مشروعة، لذا فإن أي إنجاز حقيقي تقوم به الطبقة السياسية، وبالذات القوى الشيعية الرئيسة، يكون بـ”إجبار” هذه الفصائل على القبول بالاتفاقات ذات البعد الوطني، وعدم انتظار أن ترضى هي بنفسها، أو يرضى رعاتها خارج الحدود.
أحمد سعداوي
تي ار تي