في وقت أعلنت فيه روسيا والصين عزمهما على إقامة مناورات عسكرية ضخمة، منتصف شهر أغسطس/ آب الجاري، في مقاطعة شينجيانغ شمال غربيّ الصين، التي شهدت أزمة قومية الإيغور الصينية المسلمة في السنوات الأخيرة، كان الرئيس الأميركي، جو بايدن، يتحدّث أمام “المجتمع الاستخباراتي في واشنطن” عن إمكانية حدوث حربٍ حقيقية مع قوة عظمى، إذا تعرّضت الولايات المتحدة لهجوم إلكتروني كبير، في إشارة فُهم أنها تخص روسيا التي ردّت على لسان الناطق باسم الكرملين بالقول إن الاستخبارات الأميركية تنشط في روسيا، وهو أمرٌ يثير قلق الحكومة في موسكو.
بالتوازي مع ذلك، كان قائد سلاح الجو البريطاني، مايكل ويغستون، يقول لصحيفة “ديلي تلغراف”، إن النشاطات الفضائية التي تقوم بها روسيا والصين تتّسم بالخطورة، لأنهما تنشران أقماراً صناعية تجمع المعلومات الاستخبارية عن الأقمار الفضائية التابعة للدول الأخرى، قائلاً إن الصين تطوّر تكنولوجيا مضادّة للأقمار الصناعية، بما في ذلك أسلحة الليزر التي تسبب العمى للأجهزة الفضائية الأخرى، وتشوّش عليها، فيما تتمتع الأقمار الصناعية الروسية بخصائص الأسلحة وتهدد الأمن.
هجمات إلكترونية بين الولايات المتحدة وروسيا منذ عام 2012، تستهدف، على وجه الخصوص، البنية الأساسية لبعضهما
وهذا يعني أن الحشد، والحشد المضاد، الذي يقوم بها طرفا الصراع في العالم حالياً: الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، لا ينحصر في الترتيبات السياسية وإعادة نشر القوات العسكرية، وإبرام الاتفاقيات الاقتصادية والزيارات الدبلوماسية، الجارية كلها على قدم وساق في الشهرين الأخيرين، والتي بدأت بوادرها منذ أن تولى بايدن موقع الرئاسة، وبدا مصمّماً على التصدّي لتصاعد قوة الصين العسكرية وتنامي نفوذها السياسي في العالم. ستكون الحرب الإلكترونية جزءاً مهماً من الصراع المقبل، على الرغم من أنها بالتأكيد لن تكون كل شيء.
تقارير الصحف الأميركية والبريطانية تحدّثت مراراً عن هجمات إلكترونية بين الولايات المتحدة وروسيا منذ عام 2012، تستهدف، على وجه الخصوص، البنية الأساسية لبعضهما، وخصوصاً شبكة الكهرباء. وكتبت مجلة تايمز، أخيراً، أن الولايات المتحدة فشلت في مواكبة القدرات الجديدة في مجال الهجمات الإلكترونيّة، خصوصاً العسكرية، التي تهدف إلى تعطيل شبكات العدو، والتشويش على قدراته في مجال الاتصالات، وذلك مقارنة بروسيا التي تتفوّق عليها منذ نحو 20 عاماً بفضل توسيع مبادرات التجنيد وتطوير البرمجيات الضارّة. ولكن هذه الهجمات المتبادلة لم تبلغ بعد مرحلة “الحرب الإلكترونية”؛ هي محاولات قرصنة، تستهدف المؤسسات الحكومية والأمنية للطرفين، وتبدو الولايات المتحدة أكثر تضرّراً منها، لكن هذا الحال يفتح الباب لجعل الأمن السيبراني مجالاً لحربٍ واسعةٍ في المستقبل القريب.
كل هذه الهجمات الإلكترونية التي جرت، ويمكن أن تجري مستقبلاً، ستظل بمثابة “السر المعلن”؛ لا يمكن إثباتها كما لا يمكن نفيها
على الجانب الصيني، وجهت الولايات المتحدة اتهاماً صريحاً إلى الصين أواخر الشهر الفائت (يوليو/ تموز)، بوقوفها وراء هجمات إلكترونية استهدفت شركة مايكروسوفت، فيما نفت الصين ذلك، قائلة إن الولايات المتحدة هي “بطلة العالم في الهجمات الإلكترونية الخبيثة”! وتلخص هذه الحادثة مجمل الخطاب المتبادل بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والصين من جهة أخرى، بشأن الهجمات الإلكترونية، إذ بينما يتجه الطرف الأول إلى وصف الصين بأنها دولة طائشة وغير مسؤولة، تلجأ الأخيرة إلى السخرية من الاتهامات الغربية، حتى إنها قالت أخيراً عن اتهامات أسترالية في هذا الشأن إن أستراليا تردّد الخطاب الأميركي “كالببغاء”!
لا رابط موضوعياً بين التقدّم الإلكتروني الروسي والنجاح الإلكتروني الصيني، إذ تتفوق الأولى عالمياً في المجال العسكري، بينما تتفوق الثانية في توظيف التطبيقات الإلكترونية في المعاملات اليومية داخل أراضيها، إلى درجة أن معظم الصينيين لم يعودوا يحملون نقوداً في جيوبهم، ويشترون كل شيء بتطبيقات الهاتف الذكي، حتى لو من بقالة صغيرة. مع ذلك، يشي التنسيق السياسي والعسكري بين الدولتين، رداً على الخطط والترتيبات الأميركية الجارية، بأن انتقال الحرب مع الولايات المتحدة وحلفائها إلى ساحة الأمن السيبراني، بتحالف وتنسيق صيني روسي، لن يكون إلا مسألة وقت.
تؤكد الصين أن اتهام الولايات المتحدة لها بشأن الهجمات الإلكترونية تجنٍّ
في ملف الخلافات الأميركية الصينية، تؤكد الصين أن اتهام الولايات المتحدة لها بشأن الهجمات الإلكترونية واحد من عناصر التجني والتلفيق، يضاف إلى ما تواجهه حكومة بكين من افتراءات في مجال حقوق الإنسان، والأقليات، وأمن التكنولوجيا، والتجارة الدولية. وفي الواقع، لم يقدّم أيٌّ من أطراف الصراع الحالي دليلاً واحداً على تورّط دولة أخرى في هجمات إلكترونية استهدفته، تماماً كما جرى بشأن اتهام روسيا بالتورّط في تزوير نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية التي فاز فيها دونالد ترامب عام 2016. كل هذه الهجمات الإلكترونية التي جرت، ويمكن أن تجري مستقبلاً، ستظل بمثابة “السر المعلن”؛ لا يمكن إثباتها كما لا يمكن نفيها.
وبما أن الحرب الإلكترونية ستكون لا محالة جزءاً أساسياً من أي حربٍ مسلحة أو باردة تندلع مستقبلاً بين طرفي الصراع، فإن من المهم أيضاً إدراك نتائجها السلبية على الدول الأخرى، التي هي بالضرورة أقل كفاءة في حماية بياناتها ومؤسساتها، وأقل قدرةً على الانخراط في ممارساتٍ تفيد التصدّي للهجمات الإلكترونية، خصوصاً أن حرباً إلكترونية واسعة قد تتضمن نشر فيروسات إلكترونية على نطاق كبير، وقد تصيب الأجهزة والتطبيقات وشبكات الإنترنت بأضرار بالغة تنعكس سلباً على سير الحياة اليومية في دولٍ بأكملها، وتفقدها السيطرة على أنظمتها التي تدير بناها التحتية. الحرب الإلكترونية لو وقعت ستباغت دولاً كثيرة، ستُفاجأ بالقدرات الهائلة التي طوّرتها الدول الكبرى في هذا المجال.
سامر خير أحمد
العربي الجديد