تواصل حركة طالبان بسط سيطرتها العسكرية على مناطق واسعة في أفغانستان ولم يعد يمر يوم إلا ويشهد سقوط عاصمة ولاية أو مدينة استراتيجية أو معبر حدودي في يد قوات الطالبان المهاجمة، التي تتقدم نحو مدينة مزار الشريف رابع مدن أفغانستان من حيث السكان، وكانت قبلها قد استولت على مدينة قندوز. والمعطيات على الأرض تشير إلى فقدان حكومة كابول والجيش المركزي أكثر من 200 مديرية من أصل 398، وسبعة معابر حدودية تمثل قرابة ثلثي معابر أفغانستان مع الخارج.
واضح بالطبع أن طالبان تعتمد استراتيجية مألوفة ومنطقية في منعطفات عسكرية من الطراز الذي تشهده البلاد راهناً، أي الإمساك بأكبر قدر ممكن من أوراق الضغط التي تمنح أفضلية ملموسة على طاولة التفاوض المفتوحة، والتي من المنتظر أن تُستأنف اليوم في العاصمة القطرية الدوحة، وليس أفضل من السيطرة العسكرية على الأرض وسيلة لإجبار الطرف الحكومي على الامتثال. كذلك تدرك الحركة أن النجاحات العسكرية الميدانية يمكن أن تتحول إلى مكاسب عقائدية في أوساط السكان، خاصة داخل مناطق الشمال التي لا يُعرف عنها تعاطف كبير مع برامج الطالبان، أو في قلب التشكيلات القبائلية غير الموالية تاريخياً للحركة.
ولا عجب أيضاً أن الطالبان تعطي علائم جلية على أنها أحسنت قراءة قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن بالشروع في سحب القوات الأمريكية من أفغانستان وإتمام الانسحاب بحلول نهاية هذا الشهر، ولهذا فإن عملياتها العسكرية تتفادى الاصطدام مع الوحدات الأمريكية المنسحبة، كما تتجاهل عمليات القصف التي تقوم بها قاذفات بي-52 العملاقة أو طائرات سبيكتر الأمريكية فلا تحملها على أكثر من محمل وحيد هو محاولة واشنطن اليائسة لوقف تقدم الطالبان. ولا عجب في المقابل أن الطيران الحربي التابع للحكومة الأفغانية يُظهر ضعفاً واضحاً في التصدي لهجمات الطالبان، يتقاطع مع عجز وحدات الجيش الأفغاني الرسمي عن أداء الحدود الدنيا من واجبات الدفاع التي دربه عليها الجيش الأمريكي خلال 20 سنة.
ولعل ذروة هذا الفشل الحكومي تتجلى في تصريح الرئيس الأفغاني أشرف غني الذي يلقي فيه باللائمة على القرار الأمريكي بالانسحاب المبكر والمفاجئ من أفغانستان، متناسياً أن وحدات الجيش والأمن الحكومية تعدّ 300 ألف عنصر مقابل 75 ألفاً من مقاتلي طالبان، وأن الجيش الحكومي أفضل بما لا يقاس من حيث التدريب والتسليح والخدمات اللوجستية والمعلومات الاستخبارية. كذلك يتجاهل غني حقائق الفساد الواسع الذي ينخر جسم الجيش، وصراعات الساسة التي تسببت في إحالة عشرات الضباط على التقاعد، الأمر الذي يفسر استسلام وحدات كاملة من دون قتال أو حتى انضمام بعض أفرادها إلى قوات الطالبان المهاجمة.
ومن المؤسف أن الفشل الحكومي على جبهات القتال يترافق مع فشل مماثل على جبهات السياسة الداخلية، تجلى مؤخراً في لجوء سلطات كابول إلى التعاطي مجدداً مع أمراء حرب سابقين أمثال الأوزبكي عبد الرشيد دستم. وليس من المستبعد بالتالي أن تستمر مفاوضات الدوحة أسيرة معادلة أرباح الطالبان مقابل خسائر السلطة المركزية، وذلك إلى ما بعد الانسحاب الأمريكي بزمن لا يبدو قصيراً.
القدس العربي