في مياه الخليج : حرب ظل وحوادث بلا توقيع

في مياه الخليج : حرب ظل وحوادث بلا توقيع

في 30 يوليو/ تموز المنصرم تعرضت سفينة إسرائيلية في بحر عُمان إلى هجوم بطائرة مسيّرة، قتل في الحادث اثنان من طاقم السفينة، أحدهما بريطاني والآخر روماني.. بعدها بخمسة أيام وجّهت البحرية البريطانية تحذيرا من عملية اختطاف لسفينتين في المنطقة البحرية نفسها، قبالة ساحل إمارة الفجيرة.
في الهجوم الأول أعلنت قناة «العالم» الفضائية الإيرانية شبه الرسمية، أن الحادث جاء ردا على قصف مطار الضبعة في سوريا، الذي قتل فيه عدد من الخبراء الإيرانيين، بينما أنكر المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، أي صلة لهم بالحادث، وطالب بتقديم أي أدلة تشير إلى ضلوعهم بهذه الهجمات.
أما إسرائيل فسارعت لاتهام إيران، وحذت الولايات المتحدة الأمريكية حذوها، وقالت إن لديهم من البينات ما يبعث على الثقة في أن طهران هي التي تقف وراء الحادث. الحكومة البريطانية قالت، إن ميليشيات مرتبطة بإيران تقف خلف العملية. كما حمّل وزراء خارجية الدول السبع، في بيان لهم الجهة نفسها مسؤولية الهجوم وقالوا إن (كل الأدلة المتاحة تشير بوضوح إلى إيران) فهل الرد آت؟ وما طبيعته؟ وهل سيكون جماعيا؟ ليس جديدا القول إن طهران وتل أبيب تخوضان حرب ظل منذ بداية عام 2019، وأصبحت أكثر وضوحا منذ مارس/آذار الماضي، لكنها بقيت محدودة ومقتصرة على وسائل عسكرية واستخباراتية، ضمن قواعد لعبة مُسيطر عليها، لكن مؤشراتها واضحة في البر والجو والبحر والمجال السيبراني. ميزة هذه الحرب أن بعض ضرباتها، خاصة في البحر لا تحمل توقيع الطرفين. وهذه عملية محسوبة بشكل حذر، لأن التوقيع يشير إلى الجهة التي نفذت وبالتالي يصبح لزاما على الطرف الآخر الرد. وما بين الرد والرد المقابل يُمكن أن تنزلق الأمور من بين أصابع صُنّاع القرار، إلى مواجهة شاملة لا يريدها أي منهما، لكن إذا ما أخذنا بالاعتبار أن المنطقة البحرية التي حصلت فيها الحوادث، هي منطقة نفوذ لدول كثيرة تتقاطع فيها مصالح، وتحتدم فيها صراعات دولية وإقليمية، فإن أي خطا في التقدير قد يقود إلى كارثة إقليمية وربما دولية أيضا، خاصة أن جميع الأطراف تعتمد سياسة واحدة هي الدفع بالأمور إلى حافة الهاوية. وقد اقتربت الهاوية كثيرا في الاستهداف الأخير، فلأول مرة يتم استخدام سلاح الطائرات المُسيّرة في الهجوم على سفينة، ولأول مرة يقع ضحايا في الهجوم، رغم أن الهجمات بين الطرفين قد تكررت في بحر العرب والبحر الأحمر والبحر المتوسط أيضا، حيث بلغ عدد الهجمات على السفن ما يقرب من 12 هجوما على سفن إسرائيلية، قابله العدد نفسه على سفن إيرانية، لكن لماذا كان الفاعل دائما مجهول الهوية في كل الحوادث السابقة؟
الغريب في الأمر أن مراكز البحوث العسكرية الأمريكية، تقول إن مركز القيادة والسيطرة في ولاية أوهايو الأمريكية، قادر على تحديد أي جسم طائر فوق سطح الأرض بارتفاع 15 مترا فأكثر، ويحدد بالضبط نقطة انطلاقه. والأكثر غرابة أن هذه المنطقة البحرية مغطاة تماما بالرادارات، وفيها مجسات استخباراتية عديدة ومتنوعة، كما تتواجد فيها قوات البحرية البريطانية والبحرية الأمريكية كذلك. لكن رغم الحوادث المتكررة، التي ابتدأت في عام 2018، والتي تبنت التحقيق فيها الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى، فإن المعلومات الموثقة التي تبين الفاعل المجهول لم تظهر، وبالتالي استمر مسلسل استهداف السفن. قد يكون الفاعل معلوما، لكن التغاضي كان مقصودا، ففي الحروب الاستخباراتية، لا يجري الإعلان دائما عن الفاعل عندما تكون الخسائر محدودة أو غير موجودة، بل يتم الاحتفاظ بالمعلومة واستثمارها سياسيا ودبلوماسيا في وقت آخر، وظروف مختلفة. لكن يبدو أننا اليوم أمام وضع جديد لم يعد فيه الفاعل مجهولا، فقد أعلن المتحدث باسم القيادة المركزية الأمريكية يوم الجمعة 6 أغسطس/ آب الجاري أنه تم العثور على أجزاء من الطائرة التي هاجمت السفينة، وتبين أنها تتطابق مع أجزاء لطائرات إيرانية من النوع نفسه توجد لديهم. وهنا تصبح البيّنات التي قالت الولايات المتحدة بعد الحادث أنها تبعث على الثقة بإن طهران وراء الحادث، قد باتت اليوم مؤكدة. وبهذا الدليل المادي لم يعد أمام طهران من وسيلة للتهرب من تحمل المسؤولية، كما لم يعد أمام صانع القرار في البيت الأبيض من خيار إلا تنفيذ وعده بالرد، لكن كيف سيكون هذا الرد وما هي طبيعته؟

المنطقة البحرية التي حصلت فيها الحوادث، منطقة نفوذ لدول كثيرة تتقاطع فيها مصالح، وتحتدم فيها صراعات دولية وإقليمية

في 2 أغسطس الجاري قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن «نحن على اتصال وثيق وتنسيق مع المملكة المتحدة وإسرائيل ورومانيا ودول أخرى وسيكون الرد جماعيا». كما ترشحت معلومات تقول إن بريطانيا أرسلت فريقا من القوات الخاصة إلى المنطقة، وإن هذا الفريق في حالة استطلاع للموقع الذي انطلقت منه الطائرة المهاجمة، وعليه فإن الرد يمكن أن يكون وفق أحد السيناريوهات التالية: أولا هجوم سيبراني واسع النطاق ضد أهداف نووية إيرانية ومنشآت الطاقة، ومنشآت أخرى حيوية. ثانيا هجوم بالطائرات المُسيّرة على أهداف منتخبة في داخل إيران. ثالثا هجوم بالقوات الخاصة على مراكز انطلاق الطائرات الإيرانية المُسيّرة. رابعا هجوم على مقرات الميليشيات التابعة لإيران في المنطقة، لكن هل سيكون هنالك رد إسرائيلي منفرد؟ ربما يكون الرد ضمن العمل الجماعي، لأنه يبدو من الصعب على واشنطن أن تعطي تل أبيب الضوء الأخضر لمهاجمة طهران، لأنها ما زالت تراهن على المفاوضات النووية في فيينا. لكن ما هي المؤشرات الاخرى المتوفرة ضد إيران في المسؤولية عن الحادث؟ يبدو أن صانع القرار في طهران أراد بهذه الطريقة إرسال رسالة يُظهر فيها الحزم والانتقام، وهو أسلوب إيراني معروف. فكما تضررت سفن تابعة لإسرائيل تضررت أيضا سفن تابعة لإيران، وأهمها أكبر سفينة حربية إيرانية احترقت وغرقت في ميناء جاسك الإيراني، من دون معرفة سبب الحريق، وسبب عدم القدرة على إنقاذها، وقيل إنه ربما تقف إسرائيل خلف العملية، كذلك أعلنت طهران مؤخرا عن اعتقال خلية للموساد الإسرائيلي تعمل في داخل إيران، وتمت مصادرة أسلحة ومعدات، ومعنى ذلك أن الأمن الداخي مُخترق، وهذا يطعن في كبرياء إيران، التي ما فتئت تهدد وتتوعد الجميع، يضاف إلى ذلك الهجوم على معسكر الضبعة في سوريا، الذي أعلنت قناة «العالم» الإيرانية أنه سبب الانتقام بالهجوم على السفينة الإسرائيلية. هذه مؤشرات إضافية تضاف إلى أجزاء الطائرة المُهاجمة التي تبين أنها إيرانية. وقد علل بعض الخبراء العسكريين استخدام طهران طائرة مُسيّرة في الهجوم الأخير، على أنه أسلوب جديد في الحرب السرية القائمة بينها وبين تل أبيب، لكن يتضح الآن أن هذا الأسلوب وضع طهران في عين العاصفة.
السؤال الآن من هو الطرف المستفيد الأكبر من الحادث؟ يقينا أن تل أبيب هي المستفيد الأكبر، وتشعر الآن بأن الفرصة قد جاءت لها على طبق من ذهب، فمقتل اثنين من طاقم السفينة أعطاها دفعة كبيرة من التأييد الدولي.

مثنى عبدالله 

القدس العربي