تتعد أبعاد العلاقة بين الأمن و الديمقراطية فى الحياة السياسية المعاصرة وذلك نظرا للتطورات البالغة الأهمية التى طرأت على الظاهرة الأمنية وما يرتبط بها من تهديدات أمنية جديدة ومتجددة باستمرار، اتسع نطاقها لتشمل جميع جوانب الحياة الإنسانية، ومن ثم يمكننا القول إن أهم التطورات التى لحقت بالظاهرة الأمنية المعاصرة، والتى لها تأثير على هذه العلاقة تتمثل فى: الظاهرة الأمنية المتعدية لحدود الدولة القومية, و اتساع نطاق مصادر التهديد الأمنى، وتعدد نوعية مصادر التهديد الأمنى، وظهور نوعية جديدة من التهديدات الأمنية التى لم تكن معروفة من قبل، وتغير مضمون التهديدات الأمنية التقليدية، وتغير الوزن النسبى لأهميتها ، وازدياد الوزن النسبى للمكون الأمنى فى جميع الأنشطة الإنسانية، واتساع نطاق علاقة الاعتماد المتبادل بين الأنشطة الأمنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والإعلامية على نحو غير مسبوق.
وقد شهدت العملية الديمقراطية من ناحية أخرى تطورات هامة سواء على مستوى الفكر أو الممارسة، أو اتساع نطاق القضايا محل الاهتمام العام وتعددها، هذا بالإضافة إلى اتساع نطاق الاهتمام العام ليشمل شرائح جديدة من المشاركين بأعداد كبيرة، وذلك من خلال ما أتاحته تكنولوجيا الاتصال والمعلومات من قنوات جديدة لنشر المعلومات المتعلقة بجميع شئون المجتمع العامة والخاصة، وتبادلها على نطاق واسع وبسرعة كبيرة، ولقد نتج عن ذلك اتساع نطاق التداخل بين متطلبات الممارسة الديمقراطية ومتطلبات تحقيق الأمن، بمعنى أن جميع المجتمعات والنظم السياسية المعاصرة صارت تواجه ما يمكن أن نطلق عليه بمعضلة الأمن و الديمقراطية والتى تدور حول الاتساع المستمر فى نطاق التناقض بين متطلبات تحقيق الأمن المتغيرة والمتزايدة باستمرار، ومتطلبات تحقيق الديمقراطية بمحتواها المتطور والمتجدد وقضاياها وآليات ممارستها الجديدة والتى قد ينتج عنها مصادر جديدة لتهديد الأمن القومى .
ومن ثم فإن التساؤل المحورى الذى يلخص هذه المعضلة يدور حول كيفية الوصول إلى أقرب نقطة للتوازن يتحقق عندها اقصى قدر ممكن من متطلبات تحقيق الأمن، وأقصى قدر ممكن من متطلبات تحقيق الممارسة الديمقراطية الفعالة ؟
وواقعيا قد يصعب تحقيق هذا التصور، ولكنه يمكن أن يكون بمثابة العامل الموجه للتعامل مع هذه المعضلة التى تبرز بأشكال وصور متعددة ومتباينة فى جميع المجتمعات المعاصرة، وتفرض على الأجهزة المختصة ضرورة التعامل معها . وعلى ضوء ما تقدم يمكن تناول إشكالية الأمن والديمقراطية من خلال الأبعاد التالية :
أولا – البعد الدستورى والقانونى:
بداية، يمكن القول إن ما يميز الدولة الحديثة عن سائر الكيانات السياسية الأخرى يتمثل فى وجود السلطة السياسية الخاضعة للقانون، وهو ما يعنى أن القانون يضع قواعد وأسس تشكيل هذه السلطة ومؤسساتها، ويحدد وظائفها واختصاصاتها، ويبين كيفية قيامها بهذه الوظائف وممارستها لتلك الاختصاصات، ويوضح القواعد التى تنظم العلاقات بين مؤسساتها من جانب وهذه المؤسسات والمواطنين من جانب آخر ويترتب على ذلك أن للسلطة السياسية بالمفهوم المتقدم، الحق فى احتكار القوة واستخدام العنف فى إطار القانون، لإنفاذ القوانين، وفرض النظام العام ومعاقبة المخالفين، إذا ما تطلب الأمر ذلك، على النحو المبين بالقانون .
ومن ثم، فإن دساتير النظم السياسية الديمقراطية تتضمن تحديدا واضحا للعلاقة بين السلطات، وكذلك للأسس التى تقوم عليها وظائفها وأدائها لهذه الوظائف. ويدخل فى هذا الإطار الوظيفة الأمنية، كما يوضح القانون على وجه التفصيل الأجهزة المكلفة بالقيام بالوظيفة الأمنية وأسلوب تشكيلها ووظائفها، والقواعد القانونية المنظمة لقيامها بوظائفها وطبيعة علاقاتها بمؤسسات النظام السياسى الأخرى علماً بأن هذه الأجهزة تدخل عادة فى نطاق أجهزة السلطة التنفيذية .
وتجدر الإشارة إلى أن وضع الأطر القانونية المتعلقة بالأجهزة الأمنية يتم من خلال السلطة التشريعية، كما أن هذه الأجهزة مسئولة أمام البرلمان بحكم ما يتمتع به من مهام رقابية على السلطة التنفيذية وأجهزتها المختلفة، بما فيها هذه الأجهزة .
ومن ثم، فكلما التزمت هذه الأجهزة فى أدائها لأعمالها بالقواعد المنظمة لعملها على النحو المبين بالقانون كانت أقرب إلى نقطة التوازن المطلوبة لتحقيق متطلبات الأمن و الديمقراطية .
ثانيا – البعد السياسى الوظيفى:
ويتمثل فى أن الوظيفة الأمنية هى أحدى الوظائف الهامة للنظام السياسى الديموقراطى، وهى وظيفة حاكمة بمعنى أنها ترتبط ارتباطا مباشرا أو غير مباشر بالوظائف الأخرى للنظام السياسى، بل لا نغالى إذا ما ذكرنا أن عددا كبيرا من هذه الوظائف يتوقف على مدى كفاءة وفعالية أداء الوظيفة الأمنية. ومع ما شهده الواقع المعاصر من متغيرات، أدت إلى ازدياد الأهمية النسبية للمكون الأمنى فى شتى مجالات الحياة بأنشطتها الخدمية والإنتاجية والإنسانية المختلفة، ازدادت قوة علاقات الاعتماد المتبادل بين الوظيفة الأمنية والوظائف الأخرى للنظام السياسى الديموقراطى، وهو الأمر الذى تطلب تطويرا للرؤية التى تقوم عليها الوظيفة الأمنية من جانب الأجهزة الأمنية، وتطويرا لرؤية المؤسسات السياسية الأخرى لهذه الوظيفة وللأجهزة الأمنية من جانب آخر بما يتلاءم وتطور العلاقة بينها وبين الوظائف الأخرى بالمفهوم المتقدم .
من ناحية أخرى، وعلى المستوى العملى، تحتاج مؤسسات النظام الديموقراطى الرسمية وغير الرسمية، كالأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدنى، إلى بيئة آمنة ومستقرة لكى تستطيع القيام بمهامها ووظائفها. هذا فضلا عن حاجتها لتأمين مقراتها والأنشطة التى تقوم بها سواء كانت أنشطة عادية أو أنشطة تأييد أو أنشطة احتجاج، ومعارضة وهذا كله ما يدخل فى نطاق الوظيفة الأمنية .
وفى سياق هذا البعد من أبعاد العلاقة بين الأمن و الديمقراطية تبرز إحدى الإشكاليات الهامة لهذه العلاقة، وذلك بحكم ما تفرضه الوظيفة الأمنية على أجهزة الأمن من ضرورة التدخل، عندما يحدث أى نوع من التجاوز من جانب أى قوة سياسية للإطار الدستورى و القانونى المنظم للممارسة الديمقراطية يمثل تهديدا للأمن والاستقرار خاصة فى السنوات الأخيرة، والتى ظهر فيها ما يعرف بالجيل الرابع من الحروب أو الحرب غير المتماثلة، والتى تعتمد على قيام دول أو أطراف معادية بتدريب عناصر من الداخل على أعمال الإثارة الجماهيرية، ودفعها للتحرك تحت دعاوى تحقيق التحول الديموقراطى .
وهنا يثور التساؤل حول المعايير التى يجب الاستناد اليها للجزم بحدوث هذا التجاوز والجهة المختصة بتحديده، وكذلك حول أسلوب تعامل الأجهزة الأمنية مع مثل هذه التجاوزات، ومدى التزامها بالقواعد القانونية المنظمة لعملها فى هذا الشأن، والأسس التى تم بناءً عليها تفضيل هذه الأجهزة لاستخدام أسلوب معين فى التعامل مع مثل هذه التجاوزات، خاصة مستوى العنف المستخدم فى كثير من الأحيان، وهل يتلاءم مع مستوى الخطر أو التهديد أم أن هناك إفراطا غير مبرر فى استخدام القوة، مع الأخذ فى الاعتبار الضغط الذى يمثله عنصر الوقت على الأجهزة للتعامل مع مثل هذه التجاوزات .
والملاحظ أن هذه الإشكالية هى إشكالية تعرفها جميع المجتمعات المعاصرة وإن اختلفت فى مستوى حدتها ونطاقها، ولعل ما يؤكد ذلك أن الدول ذات النظم الديمقراطية العريقة هى النظم التى لديها أقوى الأجهزة والمؤسسات الأمنية العريقة أيضا وذات الكفاءة المهنية والتقنية العالية، والأمثلة على ذلك عديدة، كالولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، ولكن ما تفصح عنه الخبرة المعاصرة فى هذا الشأن هو أن هذه الإشكالية ليست ثابتة من حيث محتواها ولكنها متغيرة وذلك تبعا لدرجة التطور الديموقراطى فى كل مجتمع من المجتمعات، فالمجتمعات التى لازالت تمر بمرحلة التحول الديموقراطى تختلف عن تلك التى اجتازت هذه المرحلة، وهذه بدورها تختلف عن المجتمعات ذات التقاليد الديمقراطية الراسخة والمتأصلة فى وجدان وثقافة المواطنين والمجتمع، وبالتالى نستطيع القول إن درجة حساسية الأجهزة الأمنية لأية تجاوزات قد تحدث ترتفع فى نطاق المجتمعات التى لازالت فى مرحلة التحول الديموقراطى مقارنة بالمجتمعات التى اجتازت هذه المرحلة والمجتمعات ذات التقاليد الديمقراطية الراسخة أو المتأصلة، ويؤكد هذا أن الخبرة السياسية المعاصرة توضح أن نوعية الاستجابة من قبل الأجهزة الأمنية فى النماذج الثلاثة المشار اليها لتجاوز مماثل قد تختلف بدرجة أو بأخرى .
ثالثا -البعد المهنى والتقنى:
القيام بالمهام المرتبطة بالوظيفة الأمنية فى الواقع المعاصر يتطلب مستوى مرتفع من المهنية والاحترافية والتقنية، وهو ما يجب أن تدركه مؤسسات النظام السياسى الأخرى وجميع القوى السياسية الشرعية، بل ويجب ان تسعى إلى توفير جميع الموارد المالية والفنية والبشرية اللازمة للوصول إلى هذا المستوى. ويترتب على ذلك اتساع نطاق مسئولية الأجهزة الأمنية وضرورة تمتعها بمستوى مرتفع من حيث الكفاءة والفعالية فى الأداء، خاصة إذا ما تم توفير الإمكانات المطلوبة واللازمة لقيامها بمهامها، وفقا لآليات النظام السياسى الديموقراطى .
وتوضح الخبرة السياسية والأمنية المعاصرة أنه كلما ارتفع مستوى المهنية لدى رجال الأمن والأجهزة الأمنية، أدى هذا إلى زيادة كفاءة وقدرة هذه الأجهزة على منع حدوث التهديدات الأمنية من خلال الإجهاض المبكر لها، والقدرة على السيطرة على الموقف حال وقوع التهديد واحتوائه بأقل قدر من الخسائر. ومن ثم، فالبعد المهنى لم تعد أهميته تقتصر على الجانب العملياتى فحسب، وإنما امتدت أهميته إلى المستوى المتعلق باستراتيجيات تحقيق الأمن.
يرتبط من ناحية أخرى، البعد المهنى للعلاقة بين الأمن و الديمقراطية بتأثير التطور التكنولوجى المعاصر على الأمن و الديمقراطية، وعلى علاقات الارتباط القائمة بينهما، فالفضاء الإلكترونى صار يعنى الكثير فى القرن الحادى والعشرين، الكمبيوتر بات يلعب دورا مركزيا فى الحياة على صعيد الاتصالات، والأعمال، والدراسة، والأعمال الحكومية، ومسائل الدفاع، بل وصار أداة بالغة الأهمية لصياغة العالم ومن هنا ازدادت الأهمية النسبية لقضايا الأمن الالكترونى الذى صار يمثل تحديا لا يستهان به فى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، الأمر الذى تطلب بذل الجهود فى البحث عن سبل الوقاية من الإرهاب الإلكترونى.
ويذكر بيتر سينجر من مؤسسة «نيو أميركا» أن التهديدات الإلكترونية كثيرة إلى درجة لا يمكن التحصن ضدها كلها، ولاسيما أن بعضها يأتى من داخل المؤسسة أو الكيان نفسه وليس من خارجه، منوها إلى أن السبيل الأساسى لمواجهة هذه الأخطار لا يتمثل فى التركيز الكامل على أدوات الدفاع وطرق التحصين والوقاية منها فحسب، وإنما فى تعزيز «المرونة» التى تسمح للفرد أو للمؤسسة أن يستعيدا فعاليتهما بسرعة بعد تعرضهما لهجمة من هذا النوع، وبالتالى فالتعامل مع مثل هذا النوع من التهديدات يتطلب توافر المهارات المهنية، إلى جانب المهارات التقنية، علماً بأن المؤسسات الديمقراطية وعمليات الممارسة الديمقراطية فى الحياة السياسة المعاصرة تمثل أهدافا من جانب مصادر التهديد الإلكترونى، وفى حالة تحقق هذه التهديدات فإن أضرارا بالغة تلحق بهذه المؤسسات وبمجمل عملية الممارسة الديمقراطية فى جوانبها المختلفة والمتعددة، خاصة مع ظهور الديمقراطية الرقمية والتى تعتمد على استخدام تقنيات الاتصال الحديثة فى عملية الممارسة الديمقراطية بمفهومها الواسع، ومن ثم فإمكانية تاثير مثل هذه التهديدات على الديمقراطية المعاصرة تزداد، وهو الأمر الذى يتطلب دورا للأجهزة الأمنية سواء لمنع وقوع التهديدات المحتملة أو للتعامل معها حال وقوعها وهو ما يثير بالطبع مسألة بالغة الدقة والحساسية بالنسبة للعملية الديمقراطية تتعلق بمدى تأثير ذلك على الحق فى حرية الرأى والتعبير، وعلى نطاق هذا الحق
وثمة جانب آخر لهذا البعد المهنى التقنى يربط بين الأجهزة الأمنية والنظم الديمقراطية المعاصرة، ذلك لأن أحد المعايير الدولية الأساسية لتقييم أداء هذه النظم يتمثل فى مدى كفاءة وفعالية الأجهزة الأمنية التابعة لهذه النظم فى أدائها لمهامها ووظائفها، وفقا للمعايير الدولية المهنية، والتقنية، والحقوقية وبالتالى: فهذا البعد لم يعد يقيم بمعزل عن المنظومة المتكاملة لأداء النظم السياسية الديمقراطية المعاصرة.
رابعا – البعد الاجتماعى والإنسانى:
ثمة مساحة مشتركة تجمع بين الأمن والممارسة الديمقراطية وتتمثل فى ساحة العمل المشترك المتمثلة فى المجتمع، وكذلك الهدف المشترك وهو خدمة الإنسان والحفاظ على حقوقه وحمايتها، والملاحظ أن المجتمعات التى تعرف رؤية مشتركة حول الممارسة الديمقراطية والأمنية، هى المجتمعات التى يتحقق فيها أعلى مستوى للأمن و الديمقراطية .
وفى نطاق المجتمعات المعاصرة، اتسعت مجالات العمل المشترك بين الأجهزة الأمنية والمؤسسات الديمقراطية الرسمية وغير الرسمية، بما فى ذلك مؤسسات المجتمع المدنى، خاصة عندما تبرز بعض التهديدات أو الظواهر فى بعض المجتمعات تتسبب فى إلحاق الأذى والضرر بالمجتمع والمواطنين بشكل مباشر، أو تتسبب فى الإضرار بالمصالح الاقتصادية فى المجتمع، الأمر الذى يقود بدوره إلى آثار سلبية على الأوضاع المعيشية للمواطنين، فى مثل هذه الحالات تزداد أهمية التعاون بين الأجهزة الأمنية والمؤسسات الديمقراطية فى المجتمع بمختلف أنواعها للتصدى لهذه الظواهر، وهنا تبرز أهمية المساندة المجتمعية للأمن للتصدى لهذه النوعية من التهديدات ومصادرها، وذلك من خلال خلق بيئة مضادة لمصادر وعناصر التهديد ورافضة لها. وتتضح أهمية ذلك فى التصدى للتهديدات الإرهابية ولأعمال التخريب وإثارة الفوضى التى قد تتعرض لها المجتمعات المعاصرة، فهذه المساندة لها عدة أبعاد: البعد الأول يتمثل فى عدم توفير بيئة حاضنة للعناصر التى تهدد الأمن والبعد الثانى ايجابى يتمثل فى التعاون مع الأجهزة الأمنية خاصة فى مجال جمع المعلومات، والبعد الثالث يرتبط باضفاء الشرعية المجتمعية والسياسية على الأنشطة الأمنية، وهو عنصر تزداد أهميته النسبية فى أوقات الأزمات.
إضافة إلى ما تقدم، هناك مجالات أخرى ذات أبعاد إنسانية واجتماعية للعمل المشترك بين الجانبين، وهى مجالات ظهرت نتيجة للتطور التكنولوجى فى المجالات المختلفة وابرزها مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، فعلى سبيل المثال يرى كثير من الباحثين أن أمن المعلومات هو أحد الجوانب الأساسية للأمن القومى بمفهومه المعاصر، وأن تحقيق أمن المعلومات يتطلب استراتيجية تقوم على أساس تكامل الأدوار بين الأجهزة الأمنية ومؤسسات المجتمع الأخرى وصولا إلى المواطنين، خاصة وأن المخاطر الناتجة عن اختراق المعلومات تشمل جميع مكونات المجتمع بمؤسساته وتجمعاته وأفراده.
خامسا – البعد الخارجى العابر للحدود:
لم يعد إطار العلاقة بين الأمن والديمقراطية فى الحياة السياسية المعاصرة بأبعاده المختلفة محدداً بنطاق الحدود الإقليمية للدولة، بل أصبح هذا الإطار متعدي لهذه الحدود ليشمل دول الجوار الجغرافى المباشر، ويمتد إلى الإطار الإقليمى والدولى بصفة عامة. كما أن هناك بعداً آخر لهذه المسألة يتمثل فى ظاهرة الشبكات العابرة لحدود الدول والتى تضم مؤسسات وأفراد من العديد من الدول تجمعهم مهنة أو قضية أو مسألة معينة، ويتبادلون المعلومات والخبرات بشأنها، بل ويشكلون جماعات ضغط تمارس عمليات التعبئة والحشد داخل الدول لأجل تحقيق مطالب معينة، وقد يترتب على ذلك إخلالاً بالأوضاع الأمنية فى ذلك البلد ومن هنا تبرز أهمية التعامل الأمنى مع مثل هذه التهديدات ومصادرها الأمر الذى يقابل عادة بضغوط خارجية وإقليمية شديدة تتعلق بان مثل هذا التعامل يتعارض مع حقوق الإنسان وحرية الرأى والتعبير ويمثل انتهاكا لقواعد وأسس العملية الديمقراطية. وعملياً يمثل هذا البعد أحد الجوانب المعقدة فى الحياة السياسية المعاصرة للعلاقة بين الأمن والديمقراطية، حيث تتداخل وتتشابك العوامل والمتغيرات والدوافع المحركة للأنشطة الأمنية والديمقراطية على السواء خاصة وأن أساليب التعامل الممكنة والمتاحة مع هذه الأنشطة تتأثر كما سبق القول بالعديد من المتغيرات الآتية من الخارج، والتى يصعب تجاهل تأثيرها. وفى هذا الإطار يمكننا القول إن هناك تداخلاً واضحا بين العوامل الداخلية والخارجية (إقليمية – دولية) المؤثرة على الأوضاع الأمنية فى جميع دول العالم فى الوقت المعاصر، ومن ثم على العملية الديمقراطية، ومن ثم فوضع السياسات الأمنية لأى دولة فى العالم اليوم لابد وأن يأخذ فى الاعتبار هذه الأمور، سواء من حيث مصادر التهديد ونوعيته وكثافته وأساليب التعامل معه، مع الأخذ فى الاعتبار الضغوط الخارجية التى يمكن أن تتعرض لها سلطات الدولة نتيجة لذلك.
وثمة عنصر آخر لهذا البعد من أبعاد العلاقة بين الأمن و الديمقراطية يتمثل فى أن بعض مصادر التهديد قد تكون خارج نطاق سيطرة السلطات السياسية فى الدولة المعنية، كما أن بعضها قد يكون نتيجة الصراعات الداخلية الحادة فى بعض الدول، والتى قد تصل إلى الحروب الأهلية، وما يترتب عليها من آثار كنزوح أعداد كبيرة من البشر واختراقهم حدود الدول المجاورة، هربا مما قد يتعرضون له من مخاطر نتيجة الأوضاع الداخلية فى بلادهم، وهو ما يؤدى إلى اتخاذ سلطات الدولة التى نزحوا اليها لإجراءات أمنية معينة فى التعامل مع هؤلاء النازحين قد تتعارض بشكل أو بآخر مع مبادىء الديمقراطية، وان كانت تعد من المتطلبات الرئيسية للحفاظ على الأمن .
ومع ذلك، فإن بعض مصادر التهديد المتعدية الحدود فى الواقع المعاصر يصعب تصور وجود أى نوع من أنواع التعارض بين متطلبات الأمن ومتطلبات الممارسة الديمقراطية بشأنها، مثل التهديدات الناتجة عن منظمات الجريمة دولية النشاط كالمافيا، وتجارة المخدرات، والسلاح وعصابات القرصنة، والتهديدات الاقتصادية العابرة للحدود والتى تشمل المضاربات على العملات والذهب والأسهم والسندات فى البورصات المختلفة. هذا بالإضافة إلى عمليات الاحتيال والتدليس بأشكالها وصورها المتجددة باستمرار، والواقع أن خطورة مصادر التهديد الاقتصادى للأمن قد برزت منذ وقوع الأزمة المالية العالمية عام 2008 والتى امتدت آثارها إلى جميع دول العالم، الأمر الذى انعكس بدرجات ومستويات مختلفة على الأوضاع الأمنية فى معظم دول العالم، وذلك نظرا للأضرار المباشرة التى لحقت بقطاعات كبيرة من المواطنين فى هذه الدول، خاصة الذين فقدوا وظائفهم ودخلوا فى نطاق البطالة، والذين فقدوا منازلهم لعدم قدرتهم على سداد أقساط القروض التى اشتروها بها.
ومن مصادر التهديد المتعدية للحدود الأوبئة والأمراض الفتاكة بالبشر، كانفلونزا الطيور، والخنازير، والإيدز، وغيرها، وقد صارت تفرض أعباء جديدة على الأجهزة الأمنية فى شتى دول العالم لارتباطها بأحد الأبعاد المعاصرة لمفهوم الأمن وهو الأمن الإنسانى.
من خلال ما تقدم يمكن القول إن هناك علاقة ارتباط واضحة بين الأمن بمفهومه الواسع والديمقراطية إلى الحد الذى يرى بعض المحللين أنه لا ديموقراطية بغير أمن ولا أمن بغير الديمقراطية. ووفقا لهذا الاتجاه فإن تحقيق الممارسة الديمقراطية السليمة والفعالة له متطلبات أمنية معينة لابد من توافرها حتى يتيسر عمل آليات الممارسة الديمقراطية فى المجتمع. من ناحية أخرى فإن الأمن لا يتحقق إلا من خلال توافر بيئة ديموقراطية ناضجة يلتزم فيها الجميع بأحكام الدستور والقانون قولا وفعلا، بل ان هذا الالتزام، وفقا لبعض فقهاء الفكر السياسى الديموقراطى، لابد وأن يرقى إلى مستوى العقيدة السياسية الراسخة التى يؤمن بها المجتمع بمختلف شرائحه وفئاته ومكوناته.
من ناحية ثالثة، فإن هناك حالات ومواقف قد يبرز فيها قدر من التناقض بين بعض الممارسات الديمقراطية ومتطلبات الحفاظ على أمن وسلامة واستقرار واستمرار الدولة. وفى معظم هذه الحالات تؤكد الخبرة السياسية المعاصرة أن الأولوية لابد وأن تعطى للمتطلبات الأمنية، والأمثلة واضحة فى هذا الشأن فى معظم الدول ذات النظم الديمقراطية العريقة. كالمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وألمانيا، وغيرها. فبعد أحداث سبتمبر 2001 فى الولايات المتحدة وما تلاها من أحداث مثلت تهديدا واضحا ومباشرا لأمن هذه الدول اتخذت حكوماتها الديمقراطية العديد من الإجراءات واصدرت التشريعات التى تتعارض فى جوهرها مع قواعد الممارسة الديمقراطية المعروفة فى مجتمعاتها.
وأخيرا العلاقة بين الأمن والديمقراطية هى علاقة تفاعلية، بمعنى أن الاعتبارات الديمقراطية تؤثر فى الأداء الأمنى، كما أن الاعتبارات الأمنية تعود لتؤثر فى الممارسة الديمقراطية، إلا أن الملاحظ ان طبيعة هذه العلاقة ومداها تختلف من مجتمع إلى آخر، وبالنسبة للمجتمع الواحد من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى. ومن ثم فإن المجتمعات الديمقراطية المعاصرة بحاجة إلى تنظيم العلاقة بين الأمن والديمقراطية فى سياق معادلة تقوم على أساس تحقيق أمن الديمقراطية، وهو ما يتطلب بناء الأجهزة الأمنية ذات القدرات المهنية والتقنية المرتفعة بحيث تكون قادرة على التعامل مع التهديدات الأمنية التى تواجه المجتمعات الديمقراطية بأعلى مستوى من الكفاءة والفعالية. ومن جانب آخر، دمقرطة الأمن وذلك من خلال تطوير التشريعات المنظمة لعمل الأجهزة الأمنية بما يتواءم والمستجدات، وترسيخ مبادىء وسلوكيات الالتزام بأحكام القانون لأقصى قدر ممكن فى إطار قيام الأجهزة الأمنية بعملها، وكذلك توسيع نطاق المشاركة فى تحقيق الأمن فى المجتمع من جانب جميع مؤسساته ومواطنيه، وذلك باعتبار الأمن قضية مجتمع ولا يتحقق إلا من خلال التعاون بين جميع مكونات المجتمع.
د.محمد سعد أبو عامود
مجلة الديمقراطية