المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط قد يتغير جذريًا بالتدخل الروسي المباشر في الأزمة السورية، تدخل يأتي في سياق دولي علاماته الواضحة هي التردد الأميركي حيال قضايا الاستقرار في المنطقة، ليس تردد دولة فقط، وإنما تردد رئيس لا يؤمن باستخدام القوة العسكرية كأداة دبلوماسية فعالة ولا حتى التهديد باستخدامها، ويصاحب هذا التردد الأميركي حالة ضعف أوروبية غير مسبوقة، وقد اختبر الروس كلا من الأميركان والأوروبيين في أوكرانيا فشجعتهم النتائج على اختبارهم في الشرق الأوسط، أما على السياق الإقليمي فلدينا رغبة إيرانية عارمة في توسيع وفرض نفوذها إقليميًا. هذه المحددات المقلقة تضع العبء الأكبر في تحقيق استقرار نسبي على العرب وحدهم، ماحك جلدك مثل ظفرك، حيث تفرض عليهم أحكام الضرورة إعادة ترتيب أولوياتهم من حيث التحالفات الكبرى أو الاعتماد على النفس في تغيير ملامح المشهد الاستراتيجي الإقليمي، ومع ذلك فالأمر ليس سهلا.
فالمشكلة الأكبر بالنسبة للعرب اليوم هي من أين نبدأ في ظل حالة انهيار عام بداية من ليبيا غربا، مرورا باليمن حتى سوريا والعراق في الشرق؟ هل ضبط الأوضاع في سوريا والعراق هو أولوية الأمن القومي العربي الأهم أم اليمن أم ليبيا؟ هل أصبح التركيز على الدول واستقرارها هو الأهم أم التركيز على التيارات الأكبر في المنطقة بين قوى التطرف وقوى الاعتدال؟ هذه هي أسئلة المرحلة. المشكلة في مواقف كثير من الدول العربية، باستثناء الموقف الحازم في اليمن، أشبه بالموقف الأميركي الذي ينتقدونه، دول لا تعرف هي مع من في سوريا؟ قد تعرف أنها ضد بشار الأسد ولكن مع من؟ في اليمن استطاع التحالف الخليجي حقيقة، والعربي رمزية أن يكون مع الشرعية ومع الرئيس عبد ربه منصور هادي، ورغم ضعف موقف هادي من حيث الدعم على الأرض، فإن وضوح الرؤية عند التحالف خلق واقعًا جديدًا في اليمن. غياب هذه الرؤية في سوريا هو الذي أطال أمد الأزمة. موقف روسيا بوتين من سوريا واضح تمامًا يعرفون هم مع من وضد من؟ ولهم أسبابهم ورؤيتهم الأوسع في هذا التدخل.
لروسيا أسبابها في دخول المشهد الشرق أوسطي بتلك الخشونة العسكرية غير المسبوقة. أولها مقايضة الغرب بأوكرانيا مقابل سوريا، وثانيها تثبيت أقدامها في شرق أوسط يعاد تشكيله بعد أن انتهت صلاحية تقسيمة سايكس – بيكو، لنخرج من سايكس – بيكو إلى أوباما – بوتين، أو سايكس – بوتين، بمعنى دخول روسيا على مشهد رسم خرائط المنطقة. وثالثًا هناك قوى في روسيا تذكر بوتين دائمًا بأن الروس فقدوا العراق وليبيا من قبل واليوم يرونها فرصة سانحة لاستعادة نفوذهم في العراق وسوريا معا في ضربة واحدة.
إذا كان الموقف الروسي مفهومًا، فغير المفهوم هو الخروج الأميركي التدريجي من المنطقة بشكل استراتيجي رغم هذا التمدد الروسي. بالطبع نفهم أن الأميركيين الذين لسعتهم شربة العراق ينفخون في زبادي سوريا حسب المثل المصري الدارج. أيضا مفهوم تردد أميركا من خلال شخصية ساكن البيت الأبيض الذي كان معارضًا لحرب أميركا على العراق ولا يرى نفسه محاربًا، وكان هذا واضحًا في تردده حيال سوريا وإعادة البوارج من عرض البحر بدعوى البحث عن موافقة الكونغرس، وكان قبلها قد سحب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان. ومع ذلك فهذا يقع خارج فكرة الخروج الاستراتيجي الذي أتحدث عنه، فأميركا اليوم تخسر أمام روسيا بوتين في أوكرانيا ولا يجب أن تخسر في الشرق الأوسط.
يستغرب البعض من التدخل الروسي في سوريا، رغم أن الروس هم آخر من تدخل، بمعنى أن كل الدول من أميركا إلى فرنسا إلى تركيا إلى الجماعات المتطرفة القادمة من كل حدب وصوب في العالم من الشيشان إلى متطرفي أوروبا والعالم العربي، من وجهة نظري جاء الروس متأخرين كثيرا. كما أن للروس اتفاقيات دفاع مشترك مع سوريا وهم أيضًا الكفيل الدولي للنظام السوري.
في اعتقادي أن التدخل الروسي المباشر لم يكن مخططًا ومرتبًا بقدر ما أغراهم وشدهم الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة، وبالتبعية أوروبا، من انسحاب من المشهد واكتفاء بالدور الإنساني والنظر إلى أزمة سوريا على أنها أزمة لاجئين لا أزمة سياسية ذات أبعاد استراتيجية.
ما العمل إذن؟
ليس بالضرورة أن يكون التدخل الروسي كله سيئًا، فالوجود الروسي في الشرق يحقق توازنا ما، ويملأ فراغًا استراتيجيًا يتردد الكثيرون في الاضطلاع بأعبائه. لكنه أيضًا تدخل محفوف بالمخاطر. فرغم التنسيق بين قيادات الدفاع الروسية والبنتاغون فيما يخص الطلعات الجوية فوق سوريا، فإن خطأ كارثيًا قد يحدث ويضعنا مباشرة أمام أزمة أميركية روسية ساحتها الشرق الأوسط، ليس بالضرورة أزمة خليج الخنازير الكوبية ولكن أزمة لها تأثير شعبي في عالم التواصل الاجتماعي.
أيًّا كان الأمر، فالتدخل الروسي يخلق واقعًا جديدًا في سوريا، وإذا ما حقق الروس أي تقدم ميداني فنحن أمام احتمالية التوصل إلى اتفاق سياسي حول سوريا ليس على غرار جنيف1 أو جنيف2، حيث كان الروس ضامنين للنظام السوري من الخارج، بل اتفاق يعكس السيطرة الميدانية، ولا يبقى الموقف الروسي مجرد داعم للنظام السوري كما في جنيف1، وجنيف2، بل شريك في الحل يجلس على الطاولة لتحديد ملامح انسحاب قواته من سوريا بشروط تعكس التفوق الميداني لأي طرف من الأطراف. التدخل الروسي يسرع من جدية الحل في الأزمة السورية ويعيدها إلى مكانها الطبيعي كأزمة سياسية بعد أن أصبحت تدريجيا أزمة لاجئين وأزمة إنسانية. يفرض اتفاقًا بين أوباما وبوتين لرسم ملامح جديدة لخريطة نفوذ كل منهما، سلام يكون الروس فيه الطرف الأقوى، سلام بوتين، أو سايكس – بوتين.
مأمون فندي
صحيفة الشرق الأوسط